1257
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هنري الثامن والأديار -> الإيرلندي العنيد
2- الإيرلندي العنيد
1300-1558
برر الملوك الإنجليز سيطرتهم على إيرلندة على أساس أن قوة معادية في القارة يمكن في أي لحظة أن تستخدم هذه الجزيرة المخضرة للقيام بهجوم جانبي على إنجلترا، وأصبح هذا الاعتبار، بعد حب السلطة، أشد قوة عندما فشلت إنجلترا البروتستانتية في كسب إيرلندة إلى صفها من الكنيسة الرومانية. وكان الشعب الإيرلندي، الذي يعشق البطولة والفوضى والمشهور بالرجولة والعنف، والموهبة الشاعرية، والذي يفتقر إلى النضج السياسي، يقاوم كل يوم خضوعه لدم أجنبي ولغة دخيلة.
وازدادت سيئات الاحتلال الإنجليزي. وعاد كثير من أملاك الأراضي الإنجلو-إيرلنديين إلى إنجلترا في عهد إدوارد الثالث، ليعيشوا هناك في يسر على ما تدره إيجارات الأراضي الإيرلندية، وعلى الرغم من أن المجلس النيابي الإنجليزي ندد مراراً بهذا العمل فإن "ملكية الأرض الغائبة" ازدادت خلال ثلاثة قرون، لتصبح حافزاً أكبر للثورات الإيرلندية. ومال الإنجليز الذين ظلوا في إيرلندة إلى الزواج من فتيات إيرلنديات، وامتزجوا تدريجياً بالدم الإيرلندي، الذي يسيطر عليه المقيمون الإنجليز، ويغلب عليه النفوذ الإنجليزي، تواقاً إلى سد هذه البالوعة السلالية فأجاز قانون كلكتى الشهير (1366) الذي منع، مع بعض النصوص السخية التي لا تخلو من حكمة، الزواج المختلط أو التربيب أو أي علاقات ألفة أخرى بين الإنجليز والإيرلنديين في إيرلندة وأي حديث بالإيرلندية أو تقليد للعادات الإيرلندية أو ارتداء الزي الإيرلندي بواسطة الإنجليز، وإلا تعرضوا للسجن وخسارة الممتلكات، ولم يكن يحق لإيرلندي آنذاك أن يستقبل في أي منظمة دينية إنجليزية، ولا لمنشدين أو قصاصين إيرلنديين أن يدخلوا بيوتاً إنجليزية(24). وفشل هذا الحظر فقد تألقت الورود الإيرلندية، وفاقت سلطة القانون واستمر الاندماج السلالي في تلك المناطق الضيقة مارش أو بوردر أو بيل التي لم يجرؤ الإنجليز على السكنى إلا فيها وحدها .
وكان يمكن لإيرلندة إبان حروب الوردتين أن تطرد الإنجليز، لو أن الزعماء الإيرلنديين اتحدوا، ولكنهم آثروا النزاع الأخوي، وشجعهم أحياناً على هذا الذهب الإنجليزي. ووطد هنري السابع من جديد السلطة
الإنجليزية في منطقة بيل، ودفع نائبه الإقطاعي سير إدوارد بويننجز في المجلس النيابي الإيرلندي "قانون بويننج" المذل (1494)، ونص على أنه ليس للمجلس النيابي الإيرلندي أن ينعقد في المستقبل حتى تكون كل مشروعات القوانين المقدمة له قد وافق عليها الملك والمجلس الخاص في إنجلترا.
وأصبحت الحكومة الإنجليزية في إيرلندة، بعد أن أضعفت إلى هذا الحد، أشد الحكومات في العالم المسيحي عجزاً وجوراً وفساداً. وكانت حيلتها الأثيرة هي تعيين واحد من ستين زعيماً إيرلندياً كمندوب لنائب الملك، وتفويضه في شراء أو إخضاع الباقين. وحقق جيرالد إيرل كلدار الثامن، الذي عين على هذا النحو، شيئاً من التقدم في هذا الاتجاه وخفف من حدة التمرد بين القبائل، مما ساعد المظالم الإنجليزية على إبقاء إيرلندة ضعيفة وفقيرة. وعند وفاته (1513) عين ابنه جيرالد فيتز جيرالد ليخلف كنائب. وكان لهذا الإيرل التاسع لكلدار سير حياة جارية نمطية للوردات الإيرلنديين. واتهم بالتآمر مع إيرل أف دزموند بالسماح لقوة فرنسية بالنزول إلى أرض إيرلندية، فاستدعي إلى إنجلترا وحكم عليه بالسجن في البرج، وأطلق هنري الثامن سراحه، وعينه من جديد نائباً لدى وعده بمساعدة القضية الإنجليزية بإخلاص. وسرعان ما اتهم بسوء الحكم وأحضر إلى إنجلترا مرة أخرى وأرسل من جديد إلى البرج حيث مات خلال عام (1534)، وأعلن ابنه المخلص "سلكن توماس" (توماس الحريري) فتزجيرالد على الفور الحرب على الإنجليز، وحارب بشجاعة وتهور أربعة عشر شهراً وقهر وشنق (1537).
وفي هذا الوقت كان هنري الثامن قد أكمل إجراءات انفصاله عن الكنيسة الرومانية. وأمر المجلس النيابي بقحة تميز بها أن يعترف به رئيساً للكنيسة في إيرلندة، وكذلك في إنجلترا، فأذعن، وطلب من جميع الموظفين
الحكوميين في إيرلندة أن يحلفوا يميناً بقبول سيادته الكنسية، وفرض أن تدفع كل ضرائب العشور الكنسية مذ ذاك إلى الملك. ودخل المصلحون الدينيون إلى الكنائس في منطقة النفوذ الإنجليزي في إيرلندة وحطموا المخلفات والتماثيل الدينية. وأغلقت الأديار جميعاً ما عدا قلة في مكان قصي، واستولت الحكومة على ممتلكاتها، وطرد رهبانها على أن يمنحوا معاشاً إذا لم يثيروا ضجيجاً، ووزعت بعض الأسلاب على الزعماء الإيرلنديين وقبل معظمهم، بعد أن رشوا على هذا النحو، ألقاب نبلاء من الملك الإنجليزي، واعترفوا بسيادته الدينية وأنكروا قسمهم للبابا (1539)(25). وألغي نظام العشيرة، وأعلن أن إيرلندة مملكة، وهنري ملك لها (1541).
كان هنري ولكنه فان، ومات في خلال خمس سنوات من انتصاره. وبقيت الكاثوليكية في إيرلندة. واعتبر الزعماء مروقهم حادثاً عابراً في السياسة وظلوا كثالكة (كما فعل هنري)، اللهم إلا فيما يختص بتجاهل البابا، وظل القساوسة الذين أيدوهم في خدماتهم الدينية وتقبلوها محافظين تماماً في العقيدة. ولم تتعرض عقيدة الشعب لأي تغيير أو بالحري اكتسبت حيوية جديدة، لأنها حافظت على عزة القومية في وجه ملك ينزع إلى الانشقاق. وفيما بعد أمام ملكة بروتستانتية. وأصبح الكفاح من أجل الحرية أشد مما كان عليه من قبل، لأنه كان وقتذاك يدور لصالح الجسد والروح.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق