1318
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الفن في عصر هولبين -> هولبين الابن
6- هولبين الابن
1497 - 1543
ما أشد عجز الألفاظ أمام عمل من أعمال الفن! فكل فن يقاوم بنجاح ترجمته إلى أي وسيط آخر، ذلك أن له سمة لاصقة به إما أن تتكلم عن نفسها أولاً تتكلم على الإطلاق. وليس في طاقة التاريخ إلا أن يسجل كبار الفنانين وآياتهم الفنية، أما توصيل هذه الآيات فذلك ما يعجز عنه. والجلوس في صمت أمام لوحة هولبين التي تمثل زوجته وأبناءه خير من ترجمة لحياة الفنان. ومع ذلك...
كان هولبين محظوظاً في نسبه عنه في زمانه. فقد كان أبوه من كبار المصورين في أوجزبورج. ومنه تعلم هانز مبادئ التصوير، ومن هانز بوركمير شيئاً من الجمال والتشكيل الإيطاليين. وفي عام 1512
رسم أربع حشوات للمذبح محفوظة الآن بمتحف أوجزبورج - متوسطة الجودة حقاً، ولكنها جيدة إلى حد مدهش بالنسبة لغلام في الخامسة عشرة. وبعد عامين ارتحل هو وأخوه أمبروز، وهو رسام أيضاً، إلى بال. ولعل أباهما كان قد غالى في التشبث بأسلوبه الذي ما زال قوطياً، أو لعله لم يتوافر في أوجزبورج من مال الطبقة المتعلمة ما يكفي إلا لإعالة قلة من الفنانين، على أي حال قليلاً ما يتعلق الشباب والعبقرية بالبقاء في الوطن. وفي بال اكتشف الغلامان أن الحرية امتحان. ورسم هانز صورة لعدة كتب من بينها كتاب إرزمس "في مدح الحماقة"، وقام ببعض أشغال الطلاء البسيطة، وصنع لافتة لأحد المدرسين، وزخرف رأس مائدة بمشاهدة حية من قصة القديس المجهول الاسم- ذلك النكرة الذي يسهل تناوله، والذي اتهم بكل الخبائث المجهولة ولم ينبس بكلمة دفاعاً عن نفسه. وكان جزاء هانز على هذا العمل مهمة مثمرة وكلت إليه- هي رسم لوحات للعمدة يعقوب ماير وزوجته (1517). وذاع صيت هذه اللوحات، وما لبث يعقوب هرتنشتين أن استقدم هانز إلى لوسرن، وهناك رسم صوراً جصية على واجهة دار رب البيت وجدرانه، ورسم لوحة بندكت هرتنشتين المحفوظة الآن بمتحف المتروبوليتان بنيويورك. ولعله انتقل من لوسرن إلى إيطاليا، فقد أفصح فنه منذ الآن عن تأثير إيطالي من حيث دقة التشريح والخلفيات المعمارية وتكييف الضوء. فلما عاد إلى بال وقد بلغ الثانية والعشرين أقام لنفسه مرسماً وتزوج من أرملة (1519). وفي هذه السنة مات أخوه، وفي 1524 مات أبوهما.
وامتزجت الواقعية الألمانية بالعمارة الرومانسكية والزخارف الكلاسيكية في الصور الدينية التي راح هولبين يرسمها الآن. وأنها لواقعية يجفل لها الناظر- وتذكر بمانتينيا- تلك التي تطالعنا في لوحة "المسيح في القبر"،
الجسد ليس سوى عظم وجلد، والعينان مفتوحتان بصورة رهيبة، والشعر أشعث، والفم فاغر في جهد أخير للتنفس، كل هذا يبدو موتاً لا رجعة فيه، فلا عجب أن قال دستويفسكي عن الصورة أنها قد تدمر إيمان المرء(26). وحوالي هذه الفترة رسم هولبين صوراً جدارية لقاعة المجلس الكبير في بال. فسر بها أعضاء المجلس، وكلفه أحدهم بأن يرسم لوحة مذبح لدير كارتوزي. وهذه اللوحة، واسمها "آلام المسيح" أوذيت في حوادث الشغب التي قامت في 1529 لتحطيم الصور، ولكن أنقذ منها مصراعان، وأهديا لكاتدرائية فرايبورج- إيم- برايسجاو. وهما يستعيران الكثير من بالدونج جرين، ولكنهما يتفردان بقوة تتجلى في تلك الحركة العجيبة للضوء المنبعث من "الطفل". وفي عام 1522 طلب كاهن مدينة بال لوحة مذبح أخرى. وقد استخدم هولبين في رسم هذه "المادونا" ذات الجمال الهادئ- والمحفوظة بمتحف الفن بسولوتورن- زوجته وابنه نموذجين، وكانت الزوجة يومها امرأة ذات حسن متواضع لم تمسه المأساة بعد. ولعله حوالي هذه الفترة(27) أخرج رائعته الدينية "العذراء والطفل مع أسرة العمدة ماير"- وهي فريدة تكويناً وخطاً ولوناً، حارة عاطفة. وفي وسعنا أن نفهم في تعاطف أكثر صلاة العمدة للعذراء إذا علمنا أن ولديه المرسومين عند قدميه، وإحدى الزوجتين الجاثيتين إلى اليمين، كانوا قد فارقوا الحياة.
ولكن أجر هذه الصور الدينية كان ضئيلاً بالقياس إلى ما تطلبته من عناية وجهد. وأما صور الأشخاص فأربح للمصور، الذي اقتضاه ازدياد أفراد أسرته مزيداً من نفقات إعاشتهم. ففي عام 1519 رسم هولبين صورة للعالم الشاب بونيفاكوس أمرباخ- وجه نبيل ما زال محتفظاً بالمثالية رغم النظرة الثاقبة إلى العالم. وحوالي عام 1522 رسم لوحة للطباع الكبير فروبن- رجل متفان في عمله، قلق، برته
الحياة نتيجة جهوده الخلاقة. وعن طريق فروبن عرف هولبين إرزمس. ففي عام 1523 رسم صورتين من صوره الكثيرة للأديب الإنساني الذي غشيه الحزن. وفي لوحته التي بدا فيها إرزمس في ثلاثة أرباع قامته، وفق القانون، وقد بلغت قدراته غايتها، في تفهم روح رجل عمر أكثر مما ينبغي، فالمرض ولوثر عمقا تجاعيد وجهه واكتئاب عينيه. أما الصورة الجانبية المحفوظة بمجمع الفن ببال فيبدو فيها أكثر هدوءاً وحيوية، فالأنف ينبري للنزال كأنه سيف مجالد روماني. ولعل المخطوط الذي يرى تحت قلمه مسودة لكتابه De libero arbitrio (1524) الذي بدأ يدخل به صفوف المعارضين للوثر. وأكبر الظن أن هولبين صور إرزمس مرة أخرى في عام 1524 صورته المحفوظة بمتحف اللوفر، وهي أفضل صورة قاطبة؛ ونظرة إلى هذا الوجه العميق الذي طهره الألم تذكر المرء بتعقيب لنيزار فيه إدراك وتفهم "لقد كان إرزمس أحد أولئك الذين كان فخرهم في أن يفهموا الكثير ويجزموا بالقليل"(28).
وحوالي 1523 صور هولبين نفسه وقد بلغ السادسة والعشرين وبدت عليه آثار النعمة، ولكن النظرة الباردة توحي ببعض الامتعاض المناضل مما مني به في الحياة من صدمات. وترميه الرواية بإدمان غير مفرط على الخمر والنساء، وتصوره رجلاً غير سعيد مع زوجته. ويبدو أنه كان يشارك لوثر بعض آرائه. فلوحاته الخشبية المحفورة "رقصة الموت" (حوالي 1525) تهجو الأكليروس- ولكن هذا فعله حتى الأكليروس أنفسهم في ذلك العهد. وتصور هذه المجموعة الموت يتعقب خطوات كل رجل أو امرأة أو طبقة- آدم، وحواء، والإمبراطور، ونبيلاً، وطبيباً، وراهباً، وكاهناً، وبابا، ومليونيراً، ومنجماً، ودوقة، ومهرجاً، ومقامراً، ولصاً- كلهم في طريقهم إلى الدينونة الأخيرة،
واللوحة عمل فني يضارع في قوته أي عمل لدورر استخدم فيه هذا الوسيط. وإذا استثنينا هذه الرائعة من روائع الرسم، وعذراء ماير، لم نتبين في هولبين أي عاطفة دينية واضحة. ولعله تشرب بعض التشكك من إرزمس وإنساني بال(29). لقد كان اهتمامه بالتشريح أشد من اهتمامه بالدين.
ولقد عصفت حركة الإصلاح البروتستنتي بسوق صوره في بال على الرغم من رضائه المرجح عنها. فلم تعد تطلب منه صور دينية. وتوقف دفع أجور اللوحات التي رسمها لقاعة المجلس. أما سراة القوم فقد لاذوا بالعزلة والشح إذ روعتهم حرب الفلاحين، ورأوا أن الوقت غير مناسب للتصوير. كتب إرزمس من بال في 1526 يقول: "إن الفنون تتجمد هنا"(30). وقد زود هولبين بخطابات قدمه فيها لأصدقائه في أنتورب ولندن، وانطلق هولبين إلى بلاد الشمال سعياً وراء المال بعد أن ترك أسرته في البيت. وزار كوينتين ماسيس، وما من شك في أنهما تبادلا الرأي في إرزمس. ومن أنتورب عبر البحر إلى إنجلترا. وضمن له خطاب إرزمس لقاءً حاراً من تومس مور الذي هيأ له مسكناً في بيته بتشلسي، وهناك رسم صورته (1526) المحفوظة الآن بصالة فريك في بنيويورك. ويرى المؤرخ، بإدراكه المؤخر، في العينين المتوترتين اللتين يغشاهما بعض الاكتئاب إيذاناً بورع الشهيد وصلابته. أما أعجب ما في اللوحة كما تراها بصيرة الفنان فهو فراء الكم وتلافيفه. وفي عام 1527 رسم هولبين "تومس مور وأسرته"- وهي أقدم لوحة جماعية معروفة في الفن غير الديني عبر الألب.
وفي أواخر عام 1528 عاد هولبين إلى بال بعد أن كسب بضعة جنيهات وشلنات، وأعطى إرزمس نسخة من لوحة "مور وأسرته" ثم لحق بزوجته من جديد. وعكف الآن على رسم صورة من أعظم
صوره وأصدقها، ترينا أسرته بواقعية لم يضن بها على نفسه. فكل وجه من الوجوه الثلاثة قد غشيه الحزن، الفتاة مستسلمة بل تكاد تكون يائسة، والصبي يتطلع إلى أمه مكتئباً، أما هي فترمقهما بأسى وحب انعكسا انعكاساً عميقاً في عينيها- أسى زوجة فقدت حب زوجها، وحب أم لا يربطها بالحياة سوى ولديها. وترك هولبين أسرته ثانية بعد ثلاثة أعوام من رسمه هذا الاتهام الرائع لشخصه.
ورسم خلال إقامته هذه في بال لوحة أخرى لفروبن، وست صور لإرزمس يعوزها تميزت به صور 1523- 24 من عمق شديد. وجدد مجلس المدينة طلب رسوم جصية لحجراته، ولكنه شجب الصور الدينية كافة مستسلماً لمحطمي الصور المنتصرين، وأفتى بأن "الله لعن جميع من يصنعونها"(31). وهبط الطلب على الصور، وفي عام 1532 عاد هولبين إلى إنجلترا.
وهناك رسم صوراً بلغت من الكثرة حداً ظهر معه معظم الأشخاص، الذين سيطروا على مسرح الأحداث في إنجلترا خلال تلك السنوات الصاخبة، وقد دبت فيهم الحياة بفضل ريشة هولبين الساحرة. ففي مكتبة الملكة بقصر وندزور سبعة وثمانون رسماً تخطيطياً بالفحم أو الطباشير، بعضها أعد لرسوم هزلية، وأكثرها للوحات، والظاهر أن الفنان لم يحتج لأكثر من جلسة أو جلستين من أصحاب رسومه، ثم صورهم على لوحاته نقلاً عن هذه الرسوم. وسعى التجار الهانسيون في لندن إلى فنه، ولكنهم لم يوحوا إليه بأفضل ما عنده. وقد رسم لقاعة نقابة الهانسيين صورتين جداريتين، محفوظتين في نسخ أو رسوم لهما فقط، مثلت إحداهما "انتصار الفقر"، والأخرى: "انتصار الغنى". وكلتاهما معجزة في الشخصية المميزة، والحركة الحية، والتصميم المتماسك، وهما توضحان شعار النقابة- "إن الذهب أبو الفرج وابن الهم، المفتقر إليه حزين، والمالك له قلق(32)".
وفي عام 1534 أسلم تومس كرمويل وجهه الجامد وجسده الهش لريشة هولبين، وكان مزمعاً أن يكون بشخصه مصداق هذه الحكمة. وعن طريق اتصل الفنان بأرفع الشخصيات في البلاط. ورسم لوحة "السفراء الفرنسيين" ووفق توفيقاً غير عادي في تصوير واحد منهم يدعى شارل دسولييه، إذ كشف عن الرجل المتواري خلف رداء المنصب وشارته. وهناك أربعة وآخرون- هم السر هنري جلفورد (مراقب البيت الملكي)، والسر نيكولاس كاريو (قيم الإسطبلات الملكية)، وروبرت تشيسمان (بازدار الملك) والدكتور جون تشيمبرز (طبيب الملك)- هؤلاء الأربعة تستشف في صورهم صفاقة في الجلد لولاها لاستحال عليهم العيش في مأمن مع هذا الملك الناري الطبع. وقد أصبح هولبين واحداً منهم حوالي 1537 بوصفه المصور الرسمي للبلاط. وأفرد له مرسم خاص في قصر هوايتهول، ونزل مسكناً مريحاً، وكان له كغيره عشيقات وأبناء غير شرعيين، وغدا يرفل في الخز والأثواب البهية(33). وطلب إليه أن يزخرف لحجرات، ويصمم الأثواب الرسمية، وأغلفة الكتب، والأسلحة، ومفارش المائدة، والأختام، والأزرار والمشابك الملكية، والأحجار الكريمة التي كان هنري يهديها إلى زوجاته، وفي عام 1538 أوفده الملك إلى بروكسل ليصور الأميرة كرستين الدنمركية، وقد تبين أن فيها كثيراً من الفتنة، وود هنري لو اتخذها زوجة، لولا أنها اختارت الدوق فرانسوا اللوريني بدلاً منه، ولعلها آثرت أن تعلق في قاعة للصور عن أن يقطع رأسها. وانتهز هولبين الفرصة لزيارة بال زيارة قصيرة. وهناك عين راتباً سنوياً لزوجته قدره أربعون جلدراً (1.000 دولار؟) ثم أسرع بالعودة إلى لندن. وبعد عودته بقليل كلف بأن يصور آن كليفنز، وكاد هولبين أن يتنبأ بمصيرها في العينين الحزينتين اللتين تطالعانك من صورتها المحفوظة الآن باللوفر.
أما الملك فقد رسم له عدة لوحات كبيرة فقدت كلها تقريباً. وبقيت منها واحدة في قاعة "باربر سيرجنز" بلندن: "هنري الثامن يمنح مرسوم شركة تضامنية لشركة باربر سيرنز" ويرى فيها هنري وقد طغى على المشهد في أثوابه الرسمية. ورسم الفنان صوراً جذابة لزوجة هنري الثالثة جين سيمور، ولزوجته الخامسة كاترين هوارد. وكان إذا جلس أو وقف له هنري نفسه يرتفع إلى مستوى التحدي ويخرج لوحات لا يفوقها من إنتاجه سوى صور إرزمس المحفوظة باللوفر وبال. ولوحة عام 1526 تظهر الملك بديناً بدانة التيوتون، مزهواً زهوهم. وأعجب بها هنري على الرغم منه، وكلف هولبين بتصويره الأسرة المالكة صورة جصية ملونة بقصر وايتهول. وقد دمرت النيران هذه الصورة الجدارية عام 1698. ولكن نسخة أخرجت منها عام 1667 لتشارلز الثاني تشف عن براعة التصميم: ففي أعلى اليسار يرى هنري السابع، تقياً متواضعاً، وفي أسفل ولده يلوح بشعارات السلطة ويمد ساقيه كأنه العملاق. وإلى اليمين أمه وزوجته الثالثة، وفي الوسط أثر من الرخام يفصل باللاتينية فضائل الملوك. وقد فصل وجه هنري الثامن بواقعية ترددت باسمها أسطورة تحكي أن أشخاصاً دخلوا الحجرة وحسبوا أن الصورة هي الملك الحي ذاته. وفي عام 1540 رسم هولبين صورة أشد وقعاً في النفس حتى من هذه. وهي "هنري الثامن في ثياب العرس." وأخيراً (1542) أظهر لنا الرسام هنري في انحلال عقله وجسده. وكان عمل ربة الانتقام هنا بطيئاً متأنياً. فمدت في ثأر الآلهة، وبدلاً من الميتة الهادئة أو المباغتة قضت عليه بانحلال طويل مذل.
وهناك صورتان جميلتان تكفران عن سيئات قاعة الصور الملكية، إحداهما للأمير إدوارد في الثانية من عمره وهو يفيض براءة، والأخرى لإدوارد في السادسة (بمتحف المتروبوليتان للفنون). وهذه اللوحة الثانية
بهجة للناظرين. وفي وسعنا أن نحكم على فن هولبين حين نراه خلال سنة أو سنتين يصور في غير إحجام كبرياء الأب البدين، ثم يلتقط بمثل هذه البراعة المحيرة وداعة الابن البريئة.
وصور الفنان نفسه مرة أخرى حين بلغ الخامسة والأربعين (1542)، وبذات الموضوعية التي رسم بها الملك: رجلاً مرتاباً مشاكساً ذا شعر ولحية وخطهما الشيب وبدا عليهما الإهمال؛ ثم مرة أخرى عام 1543 في صورة مستديرة تظهره في حالة أرق وألطف. في ذلك العام اجتاح الطاعون لندن واختاره واحداً من ضحاياه.
كان من الناحية التقنية واحداً من عظماء المصورين. فهو يرى في تدقيق بالغ، ويرسم كما يرى، وهو يمسك بكل خط، أو لون، أو موقف، بكل زاوية أو تغير في الضوء، يمكن أن يكشف عن دلالة أو مغزى، ويثبته على الورق أو القماش أو الخشب أو الجدار... وأي دقة في الخطوط، وعمق ونعومة ودفء في الألوان، وبراعة في ترتيب التفاصيل ليؤلف بينها تأليفاً موحداً! ولكننا في كثير من اللوحات، التي لم يكن الهدف منها تصوير الشخص بل تقاضي الأجر، نفتقد ذلك التعاطف القادر على رؤية نفس الإنسان الخفية وعلى مشاركتها شعورها. هذا التعاطف نجده في صور إرزمس المحفوظة باللوفر وبال، وفي صورة أسرته، وإذا استثنينا عذراء ماير، فإننا نفتقد المثالية التي سمت بالواقعية في لوحة فان إيك "عبادة الحَمَل". وقد قصر به عدم مبالاته بالدين عن بلوغ السمو الذي بلغه جرونفالد، وأبعده عن دورر الذي ظل على الدوام محتفظاً بإحدى قدميه في العصور الوسطى. ولم يكن هولبين فنان النهضة الخالص كتيشان، ولا فنان الإصلاح البروتستنتي الخالص ككراناخ، لقد كان ألمانياً- هولندياً- فلمنكياً- إنجليزياً في واقعيته وإحساسه العملي. ولعل نجاحه حال دون دخول مبادئ التصوير الإيطالية ورقته
دخولاً قوياً إلى إنجلترا. وبعد موته انتصرت البيورتانية على العاطفة الإليزابيثية، وراح فن التصوير الإنجليزي يتعثر حتى جاء هوجارث. وفي الوقت ذاته فارق المجد التصوير الألماني. ولم يكن بد من أن يتدفق فوق أوربا الوسطى سيل من الهمجية قبل أن يعود الإحساس بالجمال إلى التعبير عن نفسه هناك مرة أخرى.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق