إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 28 أبريل 2014

1237 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> جون كالفن -> معارك كالفن 5- معارك كالفن





1237


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> جون كالفن -> معارك كالفن

5- معارك كالفن


اتسقت شخصية كالفن مع لاهوته. وتصوره اللوحة الزيتية المحفوظة في مكتبه الجامعة بجنيف رجلاً صوفياً صارماً حزيناً ذا بشرة قاتمة هربت منها الدماء، ولحية سوداء قليلة الشعر، وجبهة عريضة وعينين قاسيتين نفاذتين. وكان قصير القامة نحيل الجسد ضعيف البنية لا يكاد يصلح لأن يحمل بين يديه. ولكن خلف الهيكل الضعيف يتوقد ذهن حاد فذ مخلص مدقق وإرادة حازمة لا تقهر ولعلها إرادة للقوة. وكان فكره قلعة للنظام جعل منه تقريباً أكويني اللاهوت البروتستانتي. وكانت ذاكرته تزخر بآلاف الموضوعات إلا أنها دقيقة وكان يسبق عصره في الشك في علم التنجيم ويواكبه في رفض الاعتراف بوكوبرنيكوس ويتخلف عنه قليلاً (مثل لوثر) في نسبة كثير من الحوادث الدنيوية إلى الشيطان. وكان

وجله يخفي شجاعته وخجله يحجب كبرياء في باطنه وذلته أمام الله أصبحت في بعض الأحيان عجرفة آمرة أمام الناس. وكان شديد الحساسية للنقد ولم يكن في وسعه أن يتحمل المعارضة بجلد امرئ يستطيع أن يدرك احتمال أنه قد يكون مخطئاً. وهده المرض وانحنى ظهره من كثرة العمل ولذا كان كثيراً ما كان يتميز غيظاً وينفجر في نوبات من الفصاحة الغاضبة، واعترف لبوسر بأنه وجد أن من الصعب عليه أن يروض "الوحش الكامن في غضبه"(50) ولم يكن من فضائله المرح الذي كان حرياً بأن يخفف من يقينياته ولا الإحساس بالجمال الذي كان كفيلاً بأن يستبقي الفن الكنسي. ومع ذلك فانه لم يكن مشاغباً لا تلين قناته، وأمر أتباعه بأن يكونوا منشرحين وأن يلعبوا ألعاباً لا ضرر منها مثل لعب الكرة ولعبة صيد الخنزير بحلقات الحبال وأن يستمتعوا بشرب النبيذ في اعتدال. وكان في وسعه أن يكون صديقاً حنوناً رقيق القلب وعدواً لا يتسامح، وكان قادراً على إصدار أحكام قاسية وعلى الانتقام بشدة. وكان الذين يخدمونه يخشونه(51)، أما الذين كانوا يحبونه فهم الذين عرفوه حق المعرفة. وكانت حياته الجنسية خالية من الزلات، وكان يعيش في بساطة ويأكل قليلاً، ويصوم دون أن يقصد التباهي، ولا ينام إلا ست ساعات في اليوم، ولم يحصل قط على إجازة، واستنفد قواه دون تحديد فيما ظن أنه عبادة الله. ورفض أن يمنح زيادة في مرتبه ولكنه سعى لكي يرفع الأموال المخصصة للبر للفقراء. وقال البابا بيوس الرابع: "إن قوة ذلك الهرطيق تكمن في هذا: إن المال لم يكن له أقل سحر عليه. وإذا كان لدي أتباع مثله فإن مملكتي سوف تمتد من البحر إلى البحر"(52).
ورجل له مثل هذا الطبع لابد أن يثير حقد كثير من الأعداء. وحاربهم بشدة وبلغة العصر الجدلية... ووصف خصومه بأنهم من الأوغاد وأنهم أغبياء وكلاب وحمير وخنازير وبهائم منتنة(53) - وهي نعوت أقل لياقة بالنسبة للاتينيته الرشيقة من أسلوب لوثر الذي يشبه أسلوب المجالدين، ولكنه واجه استفزازات. فقد حدث يوم أن قاطع جيروم بولسيك،

وهو راهب سابق من فرنسا، كالفن وهو يقدم عظته في كنيسة القدّيس بطرس وندد بالعقيدة التي تقول بالجبر باعتبارها إهانة للرب، فرد عليه كالفن بأن تلا آيات من الكتاب المقدس، واعتقلت الشرطة بولسيك واتهمه مجمع الكرادلة بالهرطقة. وكان المجلس ميالاً إلى الحكم عليه بالإعدام ولكن عندما استأنس بآراء علماء اللاهوت في زيورخ وبازيل وبرن دلت على أنها مبلبلة: فقد أوصت برن بالحرص في علاج المشكلات التي تدق على ادراك الإنسان - وهي نغمة جديدة في أدب العصر، وحذر بولينجر، كالفن، أن "الكثيرين مستاءون مما تقول في كتابك القوانين حول الجبر، ويستخلصون نفس النتائج مثل بولسيك"(54) وتراضى المجلس على النفي (1551) وعاد بولسيك إلى فرنسا وإلى الكاثوليكية.
وأهم من هذا في النتيجة مناظرة كالفن مع جواليم ويستفال، إذ ندد هذا القسيس اللوثري برأي زونجلى وكالفن القائل بأن المسيح لا يحضر في القربان المقدس إلا بروحه" وعد هذا "تشديداً من وحي الشيطان" ورأى أن المصلحين الدينيين السويسريين يجب ألا يرد عليهم بأقلام علماء اللاهوت، ولكن بعصا الحكام (1552) ورد عليه كالفن بألفاظ بلغت من القسوة حداً دفع زملاءه من المصلحين الدينيين في زيورخ وبازيل وبرن إلى رفض التوقيع على احتجاجه. ومع ذلك فإنه أصدره، وعاد ويسفال وآخرون من أنصار لوثر إلى الهجوم، فدمغهم كالفن بأنهم "قردة لوثر" وأبدى من الحجج القوية ما دفع عدة مناطق كانت وقتذاك تناصر لوثر مثل - براندنبرج والبلاتينات وأجزاء من هس وبرينين وآنهالت وبادن إلى الموافقة على وجهة نظر سويسرة والكنيسة التي خضعت للإصلاح الديني، ولم ينقذ باقي ألمانيا الشمالية من التحول عن العقيدة اللوثرية إلا صمت ميلانكتون "الذي كان يتفق في الرأي سراً مع كالفن". وصدى صواعق لوثر بعد الموت.
وتحول كالفن من هذه الهجمات على اليمين وواجه إلى اليسار جماعة من المتطرفين وصلوا حديثاً إلى سويسرة من إيطاليا المعارضة لها في الإصلاح

الديني. وكان كايليوس يسكوندوس كوريو يلقي تعاليمه في لوزان وبازيل وقد صدم كالفن عندما أعلن أن الناجين - وفيهم كثير من الوثنيين - سوف يفوقون عدد المعذبين في نار جهنم بكثير. أما لايليوس سوكينوس، وهو ابن أحد كبار فقهاء القانون الإيطاليين، واستقر في زيورخ فقد درس اليونانية والعربية والعبرية لكي يفهم الكتاب المقدس على أحسن وجه، وتعلم كثيراً جداً، وفقد إيمانه بالثالوث الأقدس والجبر والخطيئة الأصلية والتكفير.
وأعرب عن شكه لكالفن الذي رد عليه بقدر الإمكان. ووافق سوكينوس على أن يتجنب التعبير علناً عن شكوكه ولكنه تكلم فيما بعد معارضاً تنفيذ حكم الإعدام في سرفيتوس، وكان من بين القليلين الذين وقفوا يدافعون عن التسامح الديني في ذلك العصر المحموم.
وفي دولة يمتزج فيها الدين والحكومة في مزيج مسكر، كان من الطبيعي أن تكون أشد المعارك التي خاضها كالفن هي معاركه الوطنيين والمتحررين والذين أقصوه مرة عن البلاد والذين أسفوا الآن لعودته. فقد استاء الوطنيون من أصله الفرنسي ومن أنصاره وكرهوا لاهوته ولقبوه بقابيل، وأطلقوا على كلابهم اسم كالفن، وسبوه في الطرقات، ولعلهم هم الذين أطلقوا في إحدى الليالي خمسين طلقة نارية خارج بيته. وبشر المتحررون بعقيدة تقول بوحدة الوجود، وتخلوا عن ذكر الشياطين أو الملائكة أو جنة عدن أو التكفير أو الكتاب المقدس أو البابا. واستقبلتهم مارجريت ملكة نافار وأيدتهم في بلاطها بنيراك، ولامت كالفن على قسوته معهم.
وفي يوم 27 يونيه عام 1547 وجد كالفن إعلاناً كبيراً ملصوقاً على منبره وجاء فيه: منافق كبير إنك لن تجني أنت ورفقاؤك بآلامك إلا النذر اليسير وإذا لم تنجوا بحياتكم بالهرب فلم يحول أحد دون القضاء عليكم، ولسوف تلعن الساعة التي تركت فيها ديرك... إن الناس ينتقمون لأنفسهم بعد أن عانوا طويلاً... إحذر فلن تعامل مثل السيد فيرل (الذي كان قد قتل)... لم يكون لنا سادة كثيرون إلى هذا الحد(55)...

وقبض على جاك جريه، وهو أحد كبار المتحررين، إذ اشتبه في أنه كتب الإعلان ولم يقدم أي دليل. وادعى بعضهم أنه قبل ذلك ببضعة أيام تفوه بتهديدات ضد كالفن، ووجد في حجرته أوراق قيل أنها بخط يده، يصف فيها كالفن بأنه منافق متعجرف وطموح ويسخر فيها من أن الكتب المقدسة وهي من عند الله ومن خلود الروح. وعذب مرتين كل يوم لمدة ثلاثين يوماً إلى أن اعترف - ولا ندري مدى ما في اعترافه عن صدق - بأنه كان قد ثبت الإعلان الكبير وتآمر مع العملاء الفرنسيين ضد كالفن ومدينة جنيف. وفي يوم 26 يوليو ربط إلى خازوق، وهو نصف ميت، وسمرت قدماه فيه وقطع رأسه(56).
وازدادت حدة التوتر إلى أن جاء الوطنيون والمتحررون يوم 16 ديسمبر عام 1547 وهم مسلحون وحضروا اجتماعاً للمجلس الكبير وطالبوا بوضع حد لسلطة مجمع الكرادلة على المواطنين، وفي ذروة هرج عنيف دخل كالفن إلى الحجرة وواجه الزعماء المعادين له وقال وهو يدق على صدره: "إذا كنتم تريدون سفك دمي فمازالت هنا بضع قطرات فهيا اضربوا" وسحبت السيوف ولكن أحداً لم يجسر على أن يكون القاتل الأول. وخاطب كالفن الجمع بحلم نادر وأخيراً أقنع كل الأطراف بعقد هدنة. ومع ذلك فقد اهتزت ثقته بنفسه.
وكتب يوم 17 ديسمبر إلى فيريه يقول: "إن أملي ضعيف في أن تستطيع الكنيسة أن تجد لها عضداً أكثر من هذا، على الأقل من رجالي الذين يقومون بالخدمة الدينية. صدقني إن سلطاني يتحطم، اللهم إلا إذا مد الله إلي يده". وكان المعارضة انقسمت شيعاً وأحزاباً وهدأت إلى أن أتاحت لها محكمة سرفيتوس فرصة أخرى.



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق