1241
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> فرانسيس الأول والإصل -> الملك الأنف الكبير
الفصل الثاني والعشرون
فرانسيس الأول والإصلاح الديني في فرنسا
(1515 - 59)
1- الملك الأنف الكبير
ولد تحت شجرة في كوفياك في اليوم الثاني عشر من سبتمبر عام 1494، وجده هو شارل أورليان الشاعر، وربما كان الغناء وحب الجمال في دمه، وأبوه شارل أوير فالوا وأورليان، كونت أنجوليم، الذي مات بعد أن اقترف الكثير من الآثام، وكان فرانسيس لم يتجاوز بعد العام الثالث من عمره، وأمه لويز أميرة سافوي، وهي امرأة على جمال واقتدار وطموح، تتعشق الثراء والسلطة. وقد ترملت في السابعة عشرة من عمرها، وأبت الزواج من هنري السابع ملك إنجلترا، ووقفت جهدها - إذا استثنينا بعض العلاقات المحرمة - على إعداد ابنها ليكون ملكاً على فرنسا، ولم تشعر بالأسى عندما وضعن آن أميرة بريتاني، زوجة لويس الثاني عشر، ولداً ميتاً، وتركت لفرانسيس ولاية العهد. وعين لويس، وقلبه مفعم بالحزن، فرانسيس دوقاً لفالوا، ورتب له المربين لتلقينه فن تدبير الملك، وأسبغت عليه لويز، وكذلك أخته مرجريت، من عاطفة الأمومة ما وصل إلى درجة الوله، وأعداه ليكون ملكاً على قلوب النساء. وكانت لويز تناديه "مليكي" مولاي، قيصري، وغذته بقصص الفروسية وتباهت بمغامراته الغرامية، وكان يغمى عليها عندما ترى الضربات تكال
له في المبارزات التي شغف بها. وكان شاباً وسيماً مرحاً أنيساً شجاعاً، يواجه الأخطار بصدر رجب وكأنه رولان أو أماديس، وعندما أفلت خنزير بري من قفصه، وانطلق يعيث فساداً في فناء قصر فرانسيس، واجه الأمير الوحش، وذبحه في بطوله رائعة، في الوقت الذي فر فيه الآخرون لا يلوون على شيء.
وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره (1506) خطبوا له كلود أميرة فرنسا، ابنة لويس الثاني عشر، البالغة من العمر سبع سنوات. وكانت موعودة بأن تكون خطيبة للصبي الذي قدر له أن يصبح الإمبراطور شارل الخامس، إلا أن الخطبة فسخت لكي تتجنب فرنسا الوقوع في براثن أسبانيا، وكان هذا موضوعاً واحداً من مئات موضوعات الاستفزاز التي حفزت إلى الصراع بين بيتي هابسبورج وفالوا من الفتوة إلى الموت. وعندما بلغ فرانسيس الرابعة عشرة من عمره، أمر بأن يهجر والدته وأن ينضم إلى لويس في شينون، وتزوج كلود عندما بلغ العشرين، وكانت فتات بدينة بليدة عرجاء، ولوداً صالحة، وأنجبت منه أطفالاً في أعوام 1515، 1516، 1518، 1520، 1522، 1523 وماتت عام 1524.
وفي غضون ذلك أصبح ملكاً (أول يناير عام 1515)، وغمرت السعادة قلوب الجميع، وعلى رأسهم أمه التي أنعم عليها بدوقيتي أنجوليم وأنجو، وكونتيتي ماين وبوفور، وبارونية أمبواز. بيد أنه لم يكن أقل كرماً مع الآخرين - النبلاء والفنانين والشعراء والوصفاء العشيقات. وكان صوته المرح ودماثته وهدوء طبعه وحيويته المتدفقة وجاذبيته، وجمعه بين سمات الفروسية ومزايا عصر النهضة كل ذلك جعله أثيراً لدى أبنا جلدته، بل وحاشيته. واغتبطت فرنسا وعلقت عليه آمالاً عريضة. كما حدث في إنجلترا إبان تلك السنوات التي حكم فيها هنري الثامن، وفي الإمبراطوريّة إبان عهد شارل الخامس، وبدا العالم فتياً من جديد منتعشا
بشباب الملك، وصمم فرانسيس، وكان في تصميمه أقوى من ليو العاشر، على أن ينعم بعرشه.
ترى ماذا كان في الواقع ذلك الرجل الذي يجمع بين صفات آرثر ولانسلوت؟ إنه كان رائع التكوين من الناحية البدنية، لو لم يكن أنفه كبيراً على ذلك النحو. وقد أطلق عليه بعض معاصريه الذين يفتقرون إلى الاحترام لقب "الملك الأنف الكبير". وكان فارع القامة، طوله ست أقدام، عريض المنكبين، خفيف الحركة قوي البنية. وكان في وسعه أن يجري ويقفز، ويصارع ويبارز أمهر الخصوم، وكان يستطيع أن يستعمل سيفاً بمقبضين أو رمحاً ثقيلاً. وكانت لحيته الخفيفة وشاربه الرفيع لا يخفيان شبابه، فقد كان في الحادية والعشرين عندما توج ملكاً. وكانت عيناه الضيقتان تنمان على التيقظ وخفة الروح، وإن كانتا لا تدلان على الدهاء أو العمق. وإذا كان أنفه يدل على الفحولة، فإنه كان يطابق شهرته. وقد كتب برانتوم، الذي لا يعد كتابه "نسوة عاشقات" مصنفاً تاريخياً، في ذلك الوقت يقول: "لقد عشق الملك فرانسس الكثيرات، وأحب الكثيرات إلى حد الافراط، ولما كان شاباً فتياً حراً فقد كان يحتضن الواحدة حيناً، والأخرى أحياناً بلا اكتراث... ومن أجل ذلك أصيب بمرض الجدري الذي عجل بنهايته"(1). ويروى أن أم الملك قالت إنه لقي جزاءه حيث اقترف خطيئته . وربما بالغ التاريخ في تنوع غرامياته. ومهما كان عددها، فإنه ظل وفياً مخلصاً في الظاهر أولاً لفرانسواز دي فوا، كونتيسة دي شاتوبريان، ثم لآن دي بسليو التي أنعم عليها بلقب دوقة ديتامت، وذلك من عام 1526 إلى أن قضى نحبه. ونشرت عنه
الشائعات الباطلة مئات من الحكايات التي تدور حول مغامراته الغرامية - وأنه حاصر ميلان لا حباً في ميلان، ولكن من أجل سواد عيني فتاة لا تنسى، رآها هناك(3)، أو لأن امرأة لعوباً في بافيا أغرته وقادته إلى محور مأساته(4). ولا يسعنا على أية حال إلا أن يخالجنا شيء من العطف على ملك مرهف الحس إلى هذا الحد. لقد كان قادراً على الحنان والوله إلى درجة الخيال: وعندما رأى أن يطلق ابنه من كاترين دي مديتشي بعد أن ثبت أنها عاقر أثنته دموعها عن عزمه(5). وفي هذا قال أرازموس "لا يمكن أن يتخيل امرؤ وجود شخص أقل عاطفة من فرانسيس(6)) وإذا كان قد قال ذلك بسبب العطف لبعد المسافة، فإن بودس عالم الإنسانيات المتخصص في شئون فرانسيس وصفه بأنه "مهذب رقيق من السهل الحصول على رضاة(7)".
وكان معجباً بنفسه لدرجة لا تنتظر من رجل، وكان ينافس هنري الثامن في فخامة ثيابه الملكية وفي إهمال فراء قلنسوته. واتخذ السمندل رمزاً له، مما يدل على الإصرار على البعث من كل احتراق، بيد أن الحياة لسعته مع ذلك بشواظها. وكان يحب أن يقابل بمظاهر التبجيل والامتياز والتملق، ويضيق ذرعاً بالنقد، وأمر بجلب ممثل لأنه هجا الحاشية، وقد واجه لويس الثاني عشر لذعات نفس الملاحظات الساخرة فاكتفى بالابتسام(8)، وكان جاحداً للجميل، كما حدث مع آن دي مونمورنسي، وظالماً كما كان مع شارل البوربوني، وقاسياً كما كان مع سمبلانساي، ولكنه كان على الجملة معروفاً بالصفح والكرم. وكان الإيطاليون يتعجبون من سخائه(9). ولم يظهر في التاريخ حاكم يفوقه في الرفق بالفنانين، وكان يعشق الجمال عشقاً يتسم بالقوة والفطنة، وكان على استعداد لأن ينفق على الفن كما ينفق على الحرب، وقدم نصف ما أنفق من مال في عصر النهضة الفرنسية.
ولم تكن قدرته الذهنية تضارع جاذبية شخصيته، وكان يعرف القليل من
اللاتينية، ولا يعرف شيئاً من اليونانية، بيد أنه أدهش الكثيرين بتنوع معارفه ودقتها عن الزراعة والصيد والجغرافية والعلوم الحربية والأدب والفن، وكانت الفلسفة تلذ له عندما لا تتعارض مع الحب أو الحرب. وكان شديد التهور والاندفاع إلى درجة لا يصلح معها قائداً عظيماً، خفيف الروح يعشق المتعة إلى حد لا يصلح معه لأن يكون سياسياً كبيراً، وكانت تسحره المظاهر فلا ينفذ إلى جوهر الأمور. ويتأثر في لطف بالخلان والحظايا فلا يستطيع أن يختار أصلح مَن لديه من القادة والوزراء، وكان شديد الصراحة لا يخفي أمراً إلى حد لا يصلح معه لأن يكون دبلوماسياً قديراً. وحزنت أخته مرجريت بسبب عجزه عن الحكم، وتنبأت بأن الإمبراطور الداهية العنيد سوف يزيحه عن فرسه في مقارعتهما التي دامت مدى الحياة، أما لويس الثاني عشر الذي كان يعجب به "بوصفه شاباً شهماً رقيقاً". فقد رأى في توجس إفراط خلفه في الملذات، وقال: "لا فائدة من كل ما نعمل، إن هذا الولد العظيم سوف يفسد كل شيء"(10).
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق