1239
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> جون كالفن -> دعوة للتسامح
7- دعوة للتسامح
اتحد الكاثوليك والبروتستانت في الموافقة على الحكم. ولما أفلتت من محكمة تفتيش فيين فريستها فإنها قامت بإحراق تمثال لسرفيتوس . وأعرب ميلانكتون في خطاب له إلى كالفن وبولينجر عن "حمده لابن الرب" لــ "معاقبة الرجل الكافر" ووصفه عملية الإحراق بأنها "مثال يدل على الورع لا ينسى لكل الأجيال القادمة"(73). وأعلن بوسر من فوق منبره في شتراسبورج أن سرفيتوس قد استحق أن تنزع أمعاؤه ويمزق إرباً(74). ووافق بولينجر، وهو بوجه عام خير رقيق العاطفة، على أن الحكام المدنيين يجب أن يعاقبوا بالموت مَن يثبت عليه الكفر(75).
ومع ذلك فقد ارتفعت بعض الأصوات تدافع عن سرفيتوس حتى في أيام كالفن، فقد نظم صقلي قصيدة طويلة بعنوان: De iniusto Serveti incendio، ونشر دافيد جوريس البازيلي، وهو لا معمداني، احتجاجاً ضد تنفيذ حكم الإعدام، بيد أنه وقع عليه باسم مستعار ولما اكتشفت
بعد وفاته أنه كاتب هذا الاحتجاج أخرجت جثته بعد الدفن وأحرقت علناً (1566). وبالطبع أدان خصوم كالفن السياسيون معاملته لسرفيتوس واستهجن بعض أصدقائه قسوة الحكم باعتباره مشجعاً للكاثوليك في فرنسا على تطبيق عقوبة الإعدام على الهوجنوت. ولابد أن هذا النقد قد انتشر انتشاراً واسعاً لأن كالفن أصدر في فبراير عام 1554 a Defensio orthodoxae fidei de sacra Trinitate contra Prodigiosos errores Michaelis Servetir دفاع محافظ على الشريعة عن القول بالثالوث المقدس ضد أخطاء ميكائيل سرفيتوس الفظيعة. وقال: إذا آمنا بأن الكتاب المقدس وحي من الله فإننا نعرف الحقيقة وكل مَن يعارضونه أعداء الله كافرون به. ولما كان ذنبهم أعظم بكثير من أي جريمة أخرى فإن على السلطة المدنية أن تعاقب الهراطقة باعتبارهم أسوأ من أي سفاحين، ذلك لأن القتل العمد يؤدي إلى هلاك الجسد فحسب بينما الهرطقة المقبولة تعرض الروح للعذاب الأبدي في نار جهنم (وكان هذا بالضبط موقف الكاثوليك) وفضلاً عن هذا فإن الرب نفسه قد علمنا بصورة قاطعة أن نقتل الهراطقة وأن نضرب بالسيف أي مدينة تتخلى عن عبادة الرب وفق العقيدة الخالصة التي كشفها لنا بنفسه. واستشهد كالفن بسنن سفر الثنية القاسية 13 : 5-15 و17 : 2-5 وسفر الخروج 22 : 20 وسفر اللاويين 24 : 16 وناقش بها ببلاغة ملتهبة حقاً: "كل مَن يتمسك بأن الهراطقة والكفار لحقهم ضرر بمعاقبتهم يورط نفسه بأن يكون شريكاً لهم في جريمتهم... ولا محل هنا للحديث عن سلطة الإنسان فالرب هو الذي يتكلم، ومن الواضح أي شريعة احتفظ بها في الكنيسة إلى يوم القيامة. فلماذا يطلب منها مثل هذه القسوة الشديدة إذا لم يكن هذا ليرينا إننا لا نوفيه حقه من التبجيل ما دمنا لا نضع عبادته تعالى فوق أي اعتبار إنساني بحيث لا نبقي على آصرة قربى أو صلة دم بيننا وبين أي إنسان وأن ننسى كل إنسانية عندما يكون الأمر متعلقاً بالقتال في سبيل مجده تعالى؟(76).
وخفف كالفن من استنتاجاته بأن نصح بالرحمة بالذين لا تكون هرطقاتهم جوهرية أو الذين يتضح أن هرطقاتهم بسبب الجهل أو ضعف العقل. ولكن حيث أنه رضى بصفة عامة بالقديس بولس هادياً له ومرشداً فإنه رفض أن يلجأ للوسيلة البولسية (نسبة إلى بولس) التي تعلن أن القانون الجديد يحل محل القانون القديم. والحق أن حكومة رجال الدين التي كان من الواضح أنه كان يمكن أن تتحطم وتشيع فيها الفوضى إذا سمحت الخلافات في العقيدة بإبداء الرأي علناً.
وفي غضون ذلك ماذا آلت إليه الروح الأرازمية التي تدعو إلى التسامح؟ لقد كان أرازموس متسامحاً لأنه لم يكن على يقين تام، أما لوثر وميلانكتون فقد تخليا عن التسامح عندما تدرجا في اليقين، وأما كالفن فكاد يكون على يقين مذ بلغ عامه العشرين بتبكير قاتل في النضج. وليس من شك في أن قليلاً من علماء الإنسانيات الذين درسوا الفكر الكلاسي والذين لم يهابوا العودة إلى الحضيرة الرومانية بالاشمئزاز من الالتجاء إلى العنف في النزاع اللاهوتي ظلوا يرون على استحياء أن اليقين في الدين والفلسفة أمر لا يمكن الوصول إليه، ومن ثم فإن على المشتغلين باللاهوت والفلاسفة ألا يقتلوا أحداً.
وكان عالم الإنسانيات الذي تحدث بموضوع بعض الوقت عن التسامح وسط صدام اليقينيات واحداً من أقرب أصدقاء كالفن حيناً من الزمن. فسباسيان كاستيليو الذي ولد في جورا الفرنسية عام 1515 أصبح حاذقاً للغات اللاتينية واليونانية والعبرية ودرس اليونانية في ليون وعاش مع كالفن في شتراسبورج فعينه مديراً لمدرسة اللاتينية في جنيف (عام 1541) وهناك شرع في ترجمة الكتاب المقدس بأسره إلى لغة شيشرون اللاتينية. وقد أعجب بكالفن رجلاً ولكنه كره المذهب القائل بالجبر وأضنى قواه تحت وطأة النظام الجديد الذي خضع له الجسد والعقل. واتهم في عام 1544 القساوسة في جنيف بالتعصب والدنس والسكر. واشتكى كالفن إلى
المجلس، ووجد أن كاستليو مذنب بسبب الغيبة ونفي من المدينة (1544)، وعاش تسع سنوات في فاقة ومسبغة وهو يعول أسرة كبيرة، وكان يعمل أثناء الليل في إنهاء نسخته المترجمة من الكتاب المقدس. وانتهى منها عام 1551، ثم بدأ مرة أخرى في سفر التكوين 1:1 وهو وحيد يسعى في هدوء إلى إتمام البحث، وترجم الكتاب المقدس إلى الفرنسية. وحصل أخيراً (1553) على منصب أستاذ لليونانية في جامعة بازيل. وأحس بالعطف على الموحدين وتمنى لو استطاع أن يساعد سرفيتوس، وراعه دفاع كالفن عن تنفيذ حكم الإعدام. ونشر هو وكامليوس كوريو بأسماء مستعارة (مارس 1554) أول كتاب حديث من الكلاسيات عن التسامح: "هل يجب أن يضطهد الهراطقة؟ De haereticis an Sint persequendi.
وكان الهيكل الرئيسي للمؤلف مختارات من الشعر جمعها كوريو من الابتهالات المسيحية من أجل التسامح، من لاكتانتيوس وجيروم إلى أرازموس ولوثر في بواكير حياته وكالفن نفسه. واشترك كاستيليو في الجدال بالمقدمة والخاتمة وأشار إلى أن الناس قد ناقشوا في مدة مائة عام الإرادة الحرة والجبر والسماء والجحيم والمسيح والثالوث وأموراً أخرى صعبة ولم يصلوا إلى أي اتفاق، ومَن يدري لعلهم لن يصلوا أبداً إلى اتفاق. وقال كاستيليو: لا داعي لأي اتفاق، فمثل هذه القضايا الجدلية لا تجعل الناس خيراً مما هم عليه، وكل ما نحن بحاجة إليه هو أن نتحلى بروح المسيح في حياتنا اليومية وأن نطعم الفقراء وأن نساعد المرضى ونحب أعدائنا. وبدا له أن من السخرية أن تزعم الطوائف الجديدة، شأنها في هذا شأن الكنيسة القديمة، إنها على حق مطلق، وأن تكره مَن لها عليهم السيطرة البدنية على اعتناق عقائدها ونتيجة هذا يكون الإنسان محافظاً على العقيدة في مدينة ويصبح هرطقياً عندما يدخل مدينة أخرى، وعليه أن يغير دينه كما يغير نقده عند كل حد من حدود البلاد. وهل يمكن أن تتصور أن المسيح يأمر بإحراق رجل حياً
لأنه يدافع عن تعميد البالغين؟ لقد حلت محل الشرائع الموسوية التي تدعوا إلى القضاء على الحياة كل هرطيق شريعة المسيح التي تدعو إلى الرحمة لا إلى التعسف والإرهاب وإذا أنكر إنسان وجود حياة بعد الموت ورفض الاعتراف بكل شريعة فإنه (كما قال كاستيليو) يمكن للحكام أن يسكتوه فحسب ولكن ينبغي ألا يقتل. وفضلاً عن هذا فإن اضطهاد العقائد (كما رأى) لا طائل تحته والاستشهاد في سبيل فكرة ينشر هذه الفكرة بسرعة أكبر مما كان في وسع الشهيد أن يفعل لو سمح له أن يعيش. وختم كلامه بقوله أية مأساة في أن نرى مَن حرروا أنفسهم أخيراً من محكمة التفتيش الرهيبة يقلدونها سريعاً في طغيانها، وأن يكرهوا الناس على أن يعودوا إلى الظلام السيمري بعد فجر واعد مثل هذا(77).
وعرف كالفن نزعات كاستيليو فتعرف على خطه في رسالته "الهراطقة"، وفوض مهمة الرد عليها لأذكى تلاميذه تيودور دي بيز أو بيز أو بيزا. وقد ولد تيودور في فيزيلاي من أسرة أرستقراطية، ودرس القانون في أورليانز وبورجس ومارسه بنجاح في باريس، وكتب شعراً باللاتينية وفتن بعض النساء بتوقد ذهنه وأكثر من هذا بنجاحه، وعاش حياة مرحة وتزوج وسقط صريع مرض خطير، وجرب وهو على فراش المرض تحولاً معكوساً نحو تعاليم لويولا، واعتنق البروتستانتية وفر إلى جنيف وقدم نفسه إلى كالفن وعين أستاذاً لليونانية في جامعة لوزان. ومما هو جدير بالملاحظة أن لاجئاً بروتستانتياً من فرنسا التي تضطهد الهوجنوت أخذ على عاتقه الدفاع عن الاضطهاد، وقد أدى هذا بمهارة محامي وإخلاص صديق؛ فأصدر في سبتمبر عام 1554 مؤلفاً بعنوان (كتاب صغير عن واجب الحكام المدنيين في عقاب الهراطقة) De haereticis a civili magistratu punindis libelus وأشار مرة أخرى إلى أن التسامح الديني مستحيل للإنسان قبل أن الكتب المقدسة وحي من لدن الله. ولكننا إذا رفضنا التسليم بأن الكتاب
المقدس كلمة الله، فعلى أي أساس نبني العقيدة الدينية التي يتضح بجلاء أنه لا غنى عنها - إذا أخذنا في الاعتبار ما فطر عليه الناس من شر - لكبح جماح الناس وللنظام الاجتماعي - والحضارة؟ وإذن لن يتبقى إلا شكوك مهوشة تعمل على تفكيك عرى المسيحية. ولا يمكن أن يكون لمؤمن مخلص بالكتاب المقدس غلا دين واحد، أما الديانات الأخرى فلابد أن تكون زائفة أو ناقصة. حقاً إن العهد الجديد يبشر بسنة المحبة ولكن هذا ليس عذراً لنا لكي لا نقتص من اللصوص والقتلة، فكيف يبيح لنا هذا أن نبقى على الهراطقة؟.
وعاد كاستيليو إلى الجدل في كراسة دينية بعنوان: Contra Libelum Calivini، ولكنها ظلت نصف قرن دون أن تنشر. وسبق ديكارت في مخطوط أخرى بعنوان De arte dubitnnd بأن جعل من "فن الشك" أول خطوة في البحث عن الحقيقة ودافع في رسالته "المحاورات الأربعة" عن الإرادة الحرة وعن احتمال خلاص عالمي. وفي عام 1562 نشر رسالته "نصيحة إلى فرنسا الحزينة"، توسل فيها عبثاً إلى الكاثوليك والبروتستانت بإنهاء الحروب الأهلية التي كانت تجتاح فرنسا وبأن يسمحوا لكل مؤمن بالمسيح "أن يصلي للرب وفق عقيدته هو وليس وفق عقيدة غيره من الناس"(78)، وكان من الصعب أن يسمع أحد صوتاً يشذ عن النغم السائد في العصر.
ومات كاستيليو فقيراً بالغاً من العمر ثمانية وأربعين عاماً (1563)، وقال كالفن إن وفاته المبكرة حكم عادل من إله عادل.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق