10
بدايَة إسْرائيل ونهايَة اليَهود
قيام إسرائيل ونهايتها في القرآن الكريم
قال تعالى في سورة سميت بهم: سورة بني إسرائيل، كما سميت: سورة الإسراء: *وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا*. *الإسراء/ 4*.
يقول تعالى: بأنه انقضى في سابق إرادته وعلمه في الكتاب، الكتاب هنا يحتمل: أن يكون التوراة، وهو ما أشاروا إليه وما أقروا بأنهم وُعدوا بفلسطين، لا ليكون لهم شأن، ولكن ليُذبحوا، وهو استدراج كما يقول أصحاب الحقائق والرقائق. أو: هو قضاء في سابق علم الله في اللوح المحفوظ، أو كلاهما، ولا مانع من كل ذلك.
*وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب*: قضينا إليهم، فرضنا، أوجدنا، قدّرنا، خلقنا، سبق هذا في إرادتنا وعلمنا.
*وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا*: علوا في الفساد، ولا يتصور سواه مع الله.
ثم أخذ الله يفصل في هذين الفسادين فقال: *فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا*. *الإسراء/ 5*. *فإذا جاء وعد أولاهما*: أولى الفسادين، يقول تعالى: سيبعث، وهذا الكلام يحكيه عما مضى وسبق في علمه في اللوح المحفوظ، وفي التوراة، وكان لم يحدث بعد هذا؛ لا الفساد الأول ولا الفساد الثاني، فكان الأمر أن: بعث عليهم رجالا أشداء دمروهم، خربوهم، تخللوا ديارهم كما يتخلل الدم العروق والجسم.
*فإذا جاء وعد أولاهما*، وإذا في لغة العرب التي نزل بها القرآن إذا دخلت على الفعل الماضي يحول مضارعا، إذا جاء: إذا يجيء، وبهذا لما كانت "إذا" وقد دخلت على الماضي؛ كان هذا الفعل لم يقع بعد، ولكن الله سيقول في آخر الفقرة: إنه قد كان.
*فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد – وكل خلق الله عباده - فجاسوا خلال الديار*: قتلوهم، وقطعوا الفيافي والقفار، ودخلوا دورهم، ودخلوا عواصمهم، وخربوا دولتهم، وخربوا ملكهم، وقتلوا واستعبدوا، وأسروا وشردوا وطردوا.
قال تعالى: *وكان وعدا مفعولا*. أي: هذا الوعد الأول، والفساد الأول الذي تخلله هؤلاء العباد؛ عباد الله الأشداء، ذووا البأس والسلطان والقوة، هذا الفساد قد كان شيئا موجودا وذهب. وهذا ما أجمع عليه المفسرون، وأن هذا الفاسد الذي طغوا فيه وتجبروا ثم عاقبهم الله وأدبهم، هذا الفساد قد كان عندما قتلوا أنبياءهم، لم يقتلوا عيسى، وإن كانت نية القتل، والمحاولة قد كانت، قد كانت؛ لكن قتلوا أنبياء آخرين؛ قتلوا يحيى، وقتلوا زكريا، الله قال: قتلوا الأنبياء. وسفكوا الدم الحرام بالآلاف، وهتكوا الأعراض، وأكلوا المال الحرام، وحرفوا كتاب ربهم، وقذفوا أنبياءهم بكل ما لا يكاد يحتمله إنسان في أكفر الكفرة وأفجر الفجرة، وهم مع ذلك لازالوا يقولون عنهم أنبياء، ولا يزالون يقولون عن الكتاب: إنه كتابهم المقدس.
فعندما تجاوز طغيانهم وفسادهم الحد؛ سلط الله عليهم بختنصر البابلي العراقي، فأباد خضراءهم، وشتت جمعهم، وأصبحوا مقطعين في الأرض أمما، كما قال تعالى: *وقطعناهم في الأرض أمما*. هذا الشيء متفق عليه، وقد ذهب.
قال تعالى عن الفساد الثاني: *فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا*. *الإسراء/ 7*. *فإذا جاء وعد الآخرة*: أيضا "جاء" فعل الماضي، كان الكلام عليه بإذا الظرفية معناه: المضارع، وساعة نزول الآية – أي: الفساد الثاني – لم يكن بعد، والماضي تحول مضارعا بدخول "إذا" عليه.
*فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا*: سمى الله الفساد الثاني: المرة الآخرة، وما تعني كلمة "الآخرة"؟. التي ليس بعدها فساد، وليس بعدها كينونة ولا وجود، الله تعالى قسم الكون إلى دنيا وآخرة، سميت الدنيا دنيا؛ لأنها أدنى شيء إلى الموجودين والمخلوقين من خلق الله، ملائكة وجنا وإنسا، وما يتبع ذلك من طير وحيوان. وسمى الآخرة التي ليس بعدها خلق آخر، ولا وجود دنيا أخرى، ولا وجود آخر؛ سماها: الآخرة. يعني: ليس في الكون إلا دنيا وآخرة. الدنيا: فانية، والآخرة هي الشيء الثاني والأخير.
فإذا كانا إفسادين: الفساد الأول بعث عليهم فيه عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا، المفعول: تم، وأما الثاني؛ فسماه: الأخير. ومعناه: هي الثانية والأخيرة. فلو عبر أحد قال: جاء زيد، وأخيرا جاء عمرو. هل يصح أن يقول بعد ذلك: وجاء بكر، وجاء خالد، وجاء عمرو؟. لا!. وإلا يكون التعبير غير صحيح، إلا إذا أراد أن يُعرض عن كلامه أو يَضرب، فيقول: "بل"، و"بل" سموها في لغة العرب: "بل للإضراب"، أي: أضربَ واستأنف الكلام، أضربَ عن فساد القول، وشطب عن الآخر كما يشطب الأستاذ على ورقة الطالب عندما لا يحسن الجواب.
*فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم*: هذا فعل مضارع يدل على حال، والفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال؛ فمعناه: وقت نزول الآية. في الحال؟، لا يمكن أن يكون ما حدث من رسول الله مع يهود المدينة هو الفساد الكبير الذي انتشر في الأرض واحتاج واحتاج واحتاج، ولم يكن فيه لا شركعة ولا بهدلة للمسلمين في المدينة ولا في مكة، لا مسلمي المدينة، ولا مسلمي مكة. هذا لم يكن قط. وإن كان قد قالها بعض الناس.
*أما الشركعة والبهدلة* فهذا ما وقع معهم في الحرب، اليهود قالوا: سيغلبون خلال ستة أيام، هم أخذوا ما كانوا يريدونه خلال ست ساعات، وإنما الأيام الستة كما سموها في المخطط الذي وضعوه لما كانوا يريدون أن يأخذوه، ولكن تلك المعارضة التي كانت سنة 1967 لم تكن شعارا، كان فيها مواطأة ومؤامرة، سلموا فيها البلاد والعباد لليهود بغير حرب، ذهبوا لقتل المسلم والأخ وابن العقيدة، وابن الدم، خلال سبع سنوات، وتركوا البلاد بلا حراسة ولا جيش ولا تحصين ولا حدود، وهكذا عندما أرادوا أن يسلموا البلاد تواطؤا وخيانة، قالوا للبوليس الدولي: "كش"، وفتحوا الباب، وقالوا للآخرين: "تفضلوا"، وهكذا كان، ما كانت حرب.
والقرآن ما قال: "حرب"، قال: *ليسوؤوا وجوهكم*، يسودوا الوجه، فعلا سودوا وجوهنا سود الله وجوههم، وهو مسود الآن وسيزداد، من سعى في ذلك، ومن تسبب فيه، ومن هلك. نفس التعبير منتهى ما يكون الإعجاز والبلاغة. جاء الفساد الثاني، وكان هو ما قاله القرآن بالحرف، وذلك من معجزاته.
*فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم*: يبهدلوكم يا مسلمين، يُشطحوكم، يسودوا وجوهكم، وأقصى كلمة يقولها العربي الآن: "فلان سود الوجه سود الله وجهه"، وهذا منتهى ما يكون في اللعنة والخزي.
*وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة*: أيضا: "ليدخلوا": مضارع يدل على الحاضر والاستقبال، المسجد لم يدخلوه في الأيام النبوية، بل الذي دخله: المسلمون، الذين دخلوه أيام عمر، والمسجد عندما يقال: "المسجد" بالألف واللام؛ الألف واللام هما للمعهود الذهني الذي مضى قريبا. في الآية السابقة قال تعالى: *سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى*. أي: المسجد الأقصى، ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، ولم يسبق في التاريخ على طوله وعرضه أن اليهود كانوا في القدس إلا أيام سليمان عندما قالوا بنوا الهيكل، وخربه الروم ولم يعودوا.
لكن الله قال في هذه الآية، وحدد أنه فساد، وعلامة الفساد الثاني: دخولهم للمسجد *وليتبروا ما علوا تتبيرا*، سيخربون هذا المسجد تخريبا كاملا، وقد ابتدأوا بمجرد دخولهم. حرقوه وقالوا: "مجنون من المجانين حرقه"، ثم يهدمون أساسه بحجة البحث عن أصول الهيكل. وسوف لا يجدونه، ولكن اليهود قوم بهت كما وُصفوا ووصفهم النبي عليه الصلاة والسلام، كذبة فجرة، يكذبون عليك في وجهك، مادام السيف لا يزال في يدهم لم ينتزعه من يدهم المسلمون، سيقولون ويقولون، ويأتون بآثار وألاعيب، ويقولون: وجدناها.
وافرض أن الأمر كذلك؛ هل لأن هذا الهيكل كان يوما من الأيام في يد سليمان، الذين هم قالوا عنه: "كفر"، ولعنوه وأخزوه في التوراة، وشتموا أنبياءهم الذين يزعمون الآن أنهم سموا دولتهم بهم. هذا لا يقدم شيئا ولا يؤخر.
نحن لا نملك البناء فقط، ولا قيمة للبناء، نملك الأرض، علت إلى ما فوق هي أرضنا، نزلت للأرض السابعة هي أرضنا، وهي أرضنا من الأرض السابعة إلى الأفنان على فرض صعدوا في الأفنان. سواء أبقوا البناء أو خربوه، ولا قيمة للبناء، نحن لا نحرص على الأقصى لأنه منبر أثري، لأن عبد الملك بن مروان صنع وصنع، وما بعد؟؛ فليأخذوه إذا أرادوا أن يبايعونا أو يشارونا، أو يساومونا على أساس أن يهدموه ويتركوه لنا، نحن قابلون، وسنبنيه بعد بما نشاء، إن صح أن نبنيه لبنة من فضة ولبنة من ذهب؛ بنيناه. ولكن هذا لا يصح، ولا حاجة إليه، العبرة بالأرض.
*فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة*: لم يسبق في التاريخ أن دخل اليهود لهذه الأرض إلا أيام سليمان، وما كادت تنتهي أيام سليمان حتى سلط الله عليهم الفرس ثم الروم، حتى إن عيسى – آخر أنبيائهم – عندما نبيء في فلسطين أو في الناصرة أو في القدس؛ كانت الأرض للرومان، وهم يقولون - سواء في توراتهم المحرفة أو في إنجيلهم المحرف - إنهم لما أرادوا قتل عيسى؛ أثاروا عليه الروم، وقالوا: إنه يريد ملكا ويريد إمبراطورية...وإن كانوا قد قتلوا من شبهوه به كما قال القرآن الكريم: *وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم*. *النساء/ 157*.
وهذا بعينه ما ذكره إنجيل برنابا الذي حاولوا أن ينكروه، وهو أصح أناجيلهم على الإطلاق، وقد قدم له نصراني ماروني متعصب، وقال بأن: "هذا الإنجيل أخذتُه من الخزائن السرية لخزائن الفاتيكان"، وعرف عند النصارى قبل ظهور النبي عليه الصلاة والسلام بقرون. وكتب مقدمة لو تعطى الشهادات العليا "الدكتوراة" - وإن كان هذا حدث في جامعات أخرى - بمجرد دراسة هذه المقدمة؛ لأعطيته فيها أعلى شهادة بها: الدكتوراة، لبحث الإنجيل وكتابة المقدمة في نحو مائة صفحة؛ لكن عبارة عن كتاب دراسي تحقيقي، منتهى ما يكون من قوة في البحث والدليل والبرهان، وأظن أن الرجل أسلم، كتابته تدل على إسلامه، وابنه كان من أشر الناس وألعنهم، قتل، وهو أشك أنه قد مات مسلما.
*فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا*. ليخربوا، وقد بدأوا. ماذا بعد ذلك؟. انتهى اليهود، والأمارة بيننا وبين ربنا: أن يفسدوا مرة ثانية، ويدخلوا الأقصا، وقد دخلوه، ولم يبق الآن إلا الخروج.
عندما وجدت هذا المعنى وانتبهت له، عادت إلي عقيدتي، وعاد إلي سلامة التفكير، وأحمد الله وأشكره ولا أزال. وقصصت ذلك على والدي *العلامة محمد الزمزمي الكتاني* في فاس، وأنا كنت أسكن سلا، فانتبه وأقرني، وقال لي: "ويؤكد فهمك: آخر السورة؟". ماذا؟، الله تعالى قص علينا بعد أن نصر موسى على فرعون وآل فرعون، قال: *وقلنا من بعده – من بعد غلبة فرعون ونصر موسى – لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا*. *الإسراء/ 104*. إذا جاء وعد الفساد الآخر، التالي الأخير، الذي ليس بعده ثالث: *جئنا بكم لفيفا*".
وهذا – أيضا – من المعجزات القرآنية العظيمة العجيبة، اللفيف في لغة العرب: العدد من ثلاثة إلى تسعة إلى عشرة، ومعناه: سيأتي اليهود إلى الأقصا إلى فلسطين لفيفا لفيفا. من أين؟. قال الله في سورة الأعراف: *وقطعناهم في الأرض أمما*. *الأعراف/ 168*، وهذا الذي حدث خلال خمسين عاما ولا يزالون يتجمعون من مختلف أقطار الأرض بالواحد والاثنين والثلاثة والخمسة، والسبعة والعشرة يتجمعون.
*وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا. وبالحق أنزلناه وبالحق نزل*. *الإسراء/ 104، 105*. يقول تعالى عن كتابه: بالحق أنزله وبالحق نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام، كل ما فيه حق، وأنزله بحقه على النبي الحق محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق