1357
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> على سفوح بارناسوس -> الكتب
الفصل الثالث
على سفوح بارناسوس
1558 - 1603
1- الكتب
كانت الكتب يتزايد عددها بشكل رهيب، حتى قال برنابي رتش في 1600 "إن من الأمراض الفظيعة في هذا العصر هو هذا السيل الضخم من الكتب التي تثقل كاهل العالم غير القادر على هضم هذا القدر الكبير من المادة التافهة التي تخرج إليه كل يوم" كذلك كتب روبرت بيرتون (1628): إننا مهددون بفوضى وتشويش لا حد لهما من الكتب التي ترهقنا، فتصاب أعيننا بسبب القراءة، وتتألم أصابعنا بسبب تقليب الصفحات(1)". وهذان الشاكيان كلاهما من مؤلفي الكتب.
إن النبلاء، بعد أن تعلموا القراءة، أجزلوا العطاء وبسطوا رعايتهم على هؤلاء المؤلفين الذين قد كرموهم وتملقوهم بإهداء مؤلفاتهم إليهم. وكان سيسل، وايستر، وسدني، ورالي، واسكس، وسوثمبتون، وارل ودوقة بمبروك، كان هؤلاء جميعاً رعاة وحماة أفاضل أقاموا بين النبلاء الإنجليز وبين المؤلفين علاقة استمرت حتى بعد أن انتهر جونسون راعيه لورد تشستر فيلد، وكان الناشرون ينقدون المؤلفين نحو 40 شلناً عن كل كراسة، ونحو خمسة جنيهات عن الكتاب، وسعى بعض المؤلفين إلى أن يعيشوا على أقلامهم. وظهرت في إنجلترا هذه الصناعة البائسة إلا وهي "صناعة الأدب" وكانت المكتبات الخاصة كثيرة لدى الأغنياء. ولكن المكتبات العامة كانت نادرة. وفي طريق العودة إلى الوطن من قادس 1596، توقف اسكس في فارو بالبرتغال، واستولى على مكتبة الأسقف جيروم أوزوريوس، وأهداها إلى سير توماس بوداي الذي ضمها إلى مكتبة بودلي التي وهبها لجامعة أكسفورد 1589.
وكانت حياة الناشرين أنفسهم قلقة مضطربة، خاضعة لقوانين الدولة وهوى الجهور أو نزواته. وكان منهم في إنجلترا أيام إليزابث 250، حيث كان النشر وبيع الكتب حرفة واحدة. وقام معظمهم بعملية الطباعة لأنفسهم، لأن الفصل بين الطباعة والنشر بدأ حوالي نهاية عصر إليزابث. واتحد الناشرون والطابعون وباعة الكتب 1557 في "شركة القرطاسية"، وأنشأ تسجيل المطبوعات في هذه النقابة "حق الطبع"، على أن هذا لم يحم المؤلف بل الناشر فقط. وطبيعي أن هذه الشركة لم تسجل من الكتب إلا ما حصل على ترخيص قانوني بطبعه. فقد كان يعتبر جريمة كتابة أو طبع أو بيع أو اقتناء أية مادة تسيء إلى سمعة الملكة أو الحكومة، كذلك نشر أو استيراد كتب الإلحاد أو المراسيم والرسائل البابوية، أو اقتناء أية كتب تؤيد سيادة البابا على الكنيسة الإنجليزية(3). وكان ثمة جملة معاذير لخرق هذه المراسيم. وفوضت "شركة القرطاسية" هذه في تفتيش كل دور الطباعة وإحراق أية مطبوعة غير مرخص بها، وسجن ناشريها(4). وكانت الرقابة على المطبوعات في عهد إليزابث أقسى منها في أي وقت قبل الإصلاح الديني. ولكن الأدب ازدهر، كما شحذت العقول في فرنسا في القرن الثامن عشر، بفضل مخاطر الطباعة.
وكان العلماء قليلين، وكان عصر خلق وإبداع أكثر من أن يكون عصر نقد، وكان تيار الحركة الإنسانية (توكيد على قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات عن طريق العقل) قد جف في تلك السنين التي حفلت بالاهتمام باللاهوت. وظل معظم المؤرخين من كتاب الحوليات، يقسمون مدوناتهم حسب السنين. ولكن ريتشارد نولز Knolles أدهش برجلي ببراعته النسبية في كتاب "التاريخ العام للأتراك" 1603. وأضفت "حوليات" رافائيل هولنشد على صاحبها مزيداً من الشهرة لم يبذل فيه جهداً، ذلك أن هذه الحوليات أمدت شكسبير بسير ملوك إنجلترا. واصطبغت "حوليات إنجلترا" (1580) لجون ستو Stow "بظلال من الحكمة، ودعوات إلى الفضيلة وتنفير من الحقائق المرذولة(5)"، ولكن طابعها العلمي يرثى له، وأسلوبها قوي مؤثر. وكان كتابه "استعراض لندن" 1580 أدق بحثاً وأوسع علماً، ولكنه لم يدر عليه ربحاً، وكان حرياً به في سني شيخوخته أن يمنح رخصة
للتسول(6). وفي لغة لاتينية جيدة سجل وليم كامدن "جغرافية إنجلترا ومناظرها وآثارها" في كتابه "بريطانيا" 1582. وفي كتابه "حوليات تاريخ إنجلترا في عهد إليزابث" (15-1627) الذي بنيت قصته على دراسة واعية للوثائق، مجد كامدن الملكة العظيمة دون حساب، وامتدح سبنسر وأثنى على روجر أسكام، ولكنه حزن لموت مثل هذا العالم الجليل فقيراً معدماً بسبب حبه للعب النرد ومصارعة الديكة(7).
وترك أسكام عند موته 1568 بوصف أنه كان سكرتيراً لماري اللعينة ومعلماً خاصاً لإليزابث، أشهر الرسائل الإنجليزية في التعليم، وهي "المعلم" (1570) وموضوعها الأصلي تعليم اللاتينية، ولكنها تضمنت في لغة إنجليزية قوية بسيطة، دعوة إلى إحلال الرحمة المسيحية محل صرامة كلية ايتون في التعليم. وروى أسكام كيف أنه كان يتناول الغداء يوماً مع بعض عظماء الرجال في حكومة إليزابث، وتطرقت المناقشة إلى موضوع التعليم في نقد لاذع، وكيف أن سيسل آثر الوسائل الرقيقة، وكيف أن سير ريتشارد ساكفيل اعترف سراً لأسكام "بأن معلماً أحمق صرفه عن حب التعليم بأسره، خوفاً من الضرب(8)".
إن أكبر وأنفع مهمة يضطلع بها العلماء الإنجليز كانت إخصاب العقل الإنجليزي بالفكر الأجنبي. وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر اكتسحت البلاد موجة من الترجمة، من اليونان وروما وإيطاليا وفرنسا. وكان على هوميروس أن ينتظر حتى 1611 لجورج، تشبمان وربما أسهم عدم وجود الترجمات الإنجليزية للروايات اليونانية في صبغ دراما عصر إليزابث بالرومانتيكية أكثر منه بالشكل التقليدي القديم، ولكن كانت هناك ترجمات لكتاب تيوكريتس "القصائد الرعوية"، وملحمة موزائيس Hero and Leander وكتاب ابكتيتس Enchiridion، ولكتابي الأخلاق والسياسة لأرسطو، وكتابي زينوفون Cyropaedia, Oeconomicus، وخطب دبموستين وايزوقراط، ومؤلفات هيرودوت وبولبيوس وتيودور الصقلي وجوزيفس وأبيان في التاريخ، وقصص هليودوروس ولونجوس، كما كان هناك ترجمة عن الفرنسية
قام بها سير توماس فورت لكتاب بلوتارك "السير". وعن اللاتينية نقلت كتب فرجيل وهوراس وأوفيد ومارشال ولوكان، وروايات بلوتوس وتيرنس وسنكا، ومؤلفات ليفي وسالوست وتاسيتس وسوتونيس في التاريخ. وعن الإيطالية نقلت قصائد بنرارك (Sonnets) و Filocopo and Fiammetta لبوشكيو (ولكن لم يترجم ديكامرون حتى 1620)، ومؤلفات جوتشيارديني ومكيافللي في التاريخ، وأشعار بويارد وواريوستو، وكتاب كاستليوني "آداب السلوك"، وكتاب تاسو عن تحرير أورشليم، وكتاب جواريني "Pastor Fido" ومجموعة قصص خرافية لباندللو وآخرين دونت في مجموعات مثل كتاب وليم بينتر Palace Of Pleasur، (1566)، ولم ينقل كتاب مكيافللي "الأمير" حتى 1640، ولكن مادته كانت معروفة لرجال عصر إليزابث. ويذكر جبراييل هارفي أن جامعة كمبردج نبذت دونز سكوتس وتومان الأكويني وغيرهما من رعيل العلماء" واستبدلت بهم مكيافيللي وجان بودان(9). وترجم عن الأسبانية واحدة من أطول القصص الغرامية الخيالية Amadis De Gaula، وواحدة من أقدم القصص الأسبانية Lazarillo De Tormes وواحدة من الروايات الرعوية القديمة The Diana Of Montemayor. وكان ما أخذ عن الفرنسية قصائد البلياد Pleiades (بنات أطلس السبع اللائي وضعهن زيوس بين النجوم) ومقالات مونتاني التي ترجمها جون فلوريو إلى لغة إنجليزية رائعة (1603).
وكان أثر هذه الترجمات على الأدب في عصر إليزابث عظيماً جداً، وبدأت التلميحات القديمة-وظلت لمدة قرنين من الزمان-ترهق الشعر والنثر الإنجليزيين. وكانت اللغو الفرنسية معروفة لدى معظم المؤلفين الجديرين بالذكر فيعهد إليزابث، ومن ثم كان يمكن الاستغناء عن الترجمات. ولقد سحرت إيطاليا إنجلترا، واتجه الشعر الرعوي الإنجليزي بأفكاره إلى يانازورا وتاسو وجواريني. والقصائد الإنجليزية المشهورة بالسونيت إلى بترارك، والأدب القصصي إلى بوكاشيو والقصص، وهذه الأخيرة هي التي أمدت مارلو وشكسبير ووبستر وماسنجر وفورد بالفكر الرئيسية في رواياتهم، كما زودت الروايات في عهد إليزابث بمواقع إيطالية. إن
إيطاليا التي نبذت الإصلاح الديني، كانت قد ذهبت بعيداً عنه لتحطيم اللاهوت القديم، حتى الأخلاق المسيحية، وعلى حين أن العقيدة في عهد إليزابث نازعت الكاثوليكية والبروتستانتية، نجد أدب ذاك العصر، وقد تجاهل هذا الصراع، عاد إلى روح النهضة وحيويتها. ولما أصابت إيطاليا النكسة لبعض الوقت، بسبب تحول طرق التجارة، أسلمت مشعل الميلاد الجديد لأسبانيا وفرنسا وإنجلترا.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق