1358
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> على سفوح بارناسوس -> حرب الأدباء
2- حرب الأدباء
وفي وسط هذه الوفرة والحيوية في عصر إليزابث، كان ثمة فيضان جارف من الشعر والنثر كليهما. وإنا لنعرف أسماء مائتين من الشعراء في عهد إليزابث، ولكن النثر كان هو الذي يجذب انتباه الناس ويطرق أسماعهم بقوة في هذا العصر في إنجلترا، حتى أخرج سبنسر "فيري كوين The Faerie Queen" (1590).
وكان جون ليلي أول من عمد إلى هذا اللون في قصته الخيالية يوفيس Eupheus أو "تشريح الذكاء" في 1579. وعرض ليلي أن يظهر كيف أن العقل السليم والخلق الكريم يمكن تكوينهما عن طريق التعليم والتجربة والأسفار والنصح الحكيم. ويوفيس (الكلام الطيب) شاب أثيني تقدم مغامراته مسرحاً لمحادثات مسهبة عن التعليم والسلوك والصداقة والحب والإلحاد-ومما جعل هذا الكتاب أكثر الكتب رواجاً في عصره، هو أسلوبه-فيض من الجناس والطباق والتشبيه والتورية، والجمل المتوازنة والإشارات القديمة والأفكار، مما هاج حاشية إليزابث، وأصبح الأسلوب السائد لمدة جيل، مثال ذلك:
إن هذا الشاب الأنيق الذي يتحلى بالذكاء أكثر مما يملك مالاً، بل يملك من المال أكثر ما لديه من الحكمة، ومذ يرى أنه لا يقل عن غيره من حيث الأفكار الجميلة، فقد حسب أنه يفوق الجميع في التصرفات الأمينة، إلى حد حسب معه نفسه صالحاً لكل شيء، ومن ثم لم يتوفر على شيء قط(10).
ولا يعرف على وجه التحديد من أين أصاب ليلي هذا المرض، من ماريني الإيطالي، أو من جيفارا الأسباني أو من "بلاغة" الفلاندرز، فهذا محل مناقشة، ورحب ليلي على أية حال بهذه السموم العقلية ونقلها إلى كثير من رجال إليزابث فأفسدت كوميديات (ملهاوات) شكسبير الأولى، وتركت مسحة منها على أعمال بيكون، وأثرت في اللغة.
لقد كان العصر يعنى باللفظ. وبذل جبرائيل هارفي-من أساتذة كمبردج-كل نفوذه ليحول الشعر الإنجليزي من النبرات والقوافي إلى الأوزان القديمة المبنية على التفاعيل أو المقاطع. وبتحريض منه أسس سدني وسبنسر في لندن نادياً أدبياً الآريوباجوس Areopagus، كافح لبعض الوقت ليحول النشاط والطاقة الحيوية في عصر إليزابث إلى أشكال فرجيل وصيغه. وقلد توماس ناش، هازئاً، أوزان هارفي السداسية التفاعيل "التي تشبه في وقعها الوثب على قدم واحدة"، وسخر منها واعتبرها غير جديرة بالنظر والاهتمام فعلاً. ولما جمع هارفي بين الشتائم والسباب والحذلقة في التنديد بأخلاقيات جرين صديق ناش، أصبح الهدف الرئيسي لحرب الكتيبات التي جلبت إلى إنجلترا كل ما عرف في عصر النهضة من تراشق وذم وقدح.
إن حياة روبرت جرين لتمثل ألفا من سير الحياة الأدبية البوهيمية التي لا تقيم وزناً للأعراف والقيم، ابتداء من فيللونVillon (شاعر فرنسي غنائي في القرن الخامس عشر) إلى فرلين Verlaine (شاعر رمزي فرنسي في القرن التاسع عشر، وكان رفيق دراسة لهارفي ومارلو في كمبردج)، وسط "أوغاد لا يقلون عنه دعارة وفجوراً"، "أفنى معهم زهرة شبابه":
كان يملؤني الزهو والتيه والغرور. كانت الدعارة رياضتي اليومية، وإدمان الشراب ملذتي الوحيدة... وكنت أبعد ما يكون عن أن أرجع إلى الله، وقليلاً ما كنت أذكره. ولكني كنت أجد لذة كبيرة في الحلف والتجديف على الله. وإذا حققت رغبتي وأنا على قيد الحياة، فإني راض قانع، فلآخذ طريقي إلى الموت
بأية حال، إني لم أخش قضاة المحكمة أكثر مما أخشى حساب الله(11).
وجال جرين في إيطاليا وأسبانيا، ويقص علينا أنه هناك "رأى ومارس من أعمال الخسة والجرائم ما يندى الجبين لذكره." فلما عاد أصبح شخصية بارزة في حانات لندن، بشعره الأحمر ولحيته المحددة وجواربه الحريرية وبطانته الخاصة. وتزوج وكتب كتابة رقيقة عن الإخلاص في الزواج ونعمته. ثم هجر زوجته من أجل سيدة أنفق عليها كل ثروة الزوجة. ومن معرفته الخاصة المباشرة وصف أقانين حياة الرذيلة والإجرام في كتاب A Notable Discovery Of Cozenape، (1591) كشف فيه الغطاء عن الدجالين والمحتالين، وحذر فيه زوار لندن القرويين من أحابيل المخادعين والغشاشين في ورق اللعب، والنشالين والقوادين والعاهرات. مما حدا بهؤلاء أن يحاولوا قتله. وإنه لما يبعث على الدهشة أن جرين، مع انغماسه في حياة الرذيلة إلى هذا الحد، وجد وقتاً ليكتب في سرعة صحفية ونشاط وحيوية، اثنتا عشرة قصة (بأسلوب يوفيس) وخمسة وثلاثين كتيباً، وكثيراً من الروايات الناجحة. وعندما فتر نشاطه وقل دخله وجد للفضيلة بعض المعنى، وندم ندماً شديداً قدر ما كان يأثم إثماً فاحشاً، وعبر عن ندمه وإثمه أبلغ تعبير. ونشر في 1591 كتابه "وداعاً أيتها الحماقة". وفي 1592 نشر كتيبين لهما بعض الأهمية، أحدهما: "ملحوظة ساخرة لرجل البلاط الناشئ " حمل فيه على جبراييل هارفي، أما الثاني "ما يساوي بضعة بنسات من ذكاء جرين يشترى بمليون من التوبة والندم". وفيه هاجم شكسبير وأهاب برفاقه في الفسق والفجور- وواضح أنه يقصد مارلو وبيل وناش-أن يقلعوا عن الآثام والخطايا وينصرفوا معه إلى التقوى والندم. وفي 2 سبتمبر 1592 أرسل إلى زوجته التي هجرها يتوسل إليها أن تدفع عشرة جنيهات إلى صانع أحذية لولا صدقته وإحسانه "لكنت مت جوعاً في الطرقات" وفي اليوم التالي، وفي دار صانع الأحذية هذا، مات جرين- كما يقول هارفي- بسبب "تخمة أصابته من الإفراط في أكل سمك الرنجه المخلل وشرب نبيذ الراين". وتجاوزت صاحبة الفندق عن ديونه من أجل أشعاره، وتوجته بإكليل من الغار، ودفعت نفقات جنازته(13).
وكان توم ناش صديق جرين أشد مؤلفي الكتيبات في عصر إليزابث سلاطة لسان وأكثرهم قراءً. وكان ابناً لمساعد قسيس، وضاق ذراعاً بالحشمة والوقار، وما أن تخرج في أكسفورد حتى أخذ يسرح ويمرح في لندن، ويكسب قوته بنفثات قلمه، وتعلم كيف يكتب بسرعة "قدر ما تسعفه يده". وألف في إنجلترا قصص المتشردين بادئاً بقصته "السائح المنكود الحظ"-أو حياة جاك ولتون (1594). ولما مات جرين، وهاجم هارفي بعنف جرين وناش في كتيبه "أربع رسائل" ثأر ناش بسلسلة من الكتيبات بلغت الذروة في كتيب "خذ معك إلى سافرن والدن Saffron Walden مسقط رأس هارفي في 1596:
"ابتهجوا أيها القراء، فلن أدخر وسعاً في أن أدخل عليكم السرور والبهجة... إن هذا لن يكلفني إلا انحرافاً عن الطريق المستقيم، ولكنه سيطرد من الجامعة مدحوراً... قبل أن أكف عنه... ماذا تمنحونني لو أني أتيت به إلى المسرح في أهم الكليات في كمبردج(14)".
وعمر هارفي بعد هذه المحنة، وعمر بعد هؤلاء البوهيميين ومات في 1630 عن خمسة وثمانين عاماً. وأكمل ناش رواية صديقة مارلو "Diod" واشترك مع بن جونسون في "جزيرة الكلاب" 1597، واتهم بالتحريض على الفتنة، وانزوى في غمرة من الحرص والحذر، وتوج حياة العجلة بموت مبكر.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق