1353
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> إنجلترة المرحة -> في البيت
5- في البيت
بدأت الحياة الإنجليزية بمحاولة التغلب على مشكلة وفيات الأطفال، وكانت نسبتها عالية، وكان سير توماس براون من أعلام الطب، ومع ذلك مات ستة من أولاده العشرة في سن الطفولة(39). ثم كانت الأوبئة، مثل "مرض العرق" 1550، والطاعون الذي حل بالبلاد 1563، 1592-1594، 1603، ولا بد أن متوسط الأعمار كان منخفضاً، قدرته بعض الإحصاءات بثمان سنوات ونصف سنة(40). وكبر الناس وإدراكهم الهرم بأسرع مما هو حادث الآن. أما الذين عمروا فهم الشجعان ذوو القدرة على الاحتمال الذين صلبت أعوادهم وقويت أعصابهم بمقارعة الموت، من اجل الخدع الحربية والأسلاب.
وكانت الرعاية الصحية آخذة في التحسن. وبدأ الصابون يكون ضرورياً بعد أن كان ترفاً. وحوالي 1596 ابتدع سيرجون هانجتون مرحاضاً فيه ماء جار. وكانت الحمامات الخاصة قليلة. واستخدمت معظم الأسرات حوضاً خشبياً موضوعاً أما نار مكشوفة. وكان في كثير من المدن حمامات عامة. وهيأ Bath and Buxton للطبقة العليا منشئات أنيقة للاستحمام. وقدمت "الدفيئات" (Hot Itouses) حمام البخار، وقدمت التسهيلات للأكلات واللقاءات الغرامية غير المشروعة، وزودت بيوت الميسورين دون غيرهم بموارد مياه خاصة بهم في منازلهم، أما معظم الأسرات فكانت تلتمس الماء من قنوات عامة مفتوحة على ينابيع مزخرفة.
وبنيت البيوت في القرى والمدن من الآجر والجص، تحت سقوف من القش، ولا يزال كوخ آن هاثاواي بالقرب من ستراتفورد- أون- أفون، محتفظاً به في حالة جيدة، كنموذج لهذه المساكن. أما في المدن الكبرى فكانت البيوت متلاصقة عادةً، واستخدم في بنائها قدر أكبر من الآجر والحجر، وكان لها سقوف من القرميد، وكانت المشربيات المقسمة بأعمدة من الحجر والأدوار العليا الناتئة تلفت أنظار الذين لم يألفوا رؤيتها. وكانت البيوت من الداخل مزدانة بالنقوش والعمدة. وكانت المدفأة تضفي على الغرفة الرئيسية أو القاعة الكبرى جلالاً وتزودها بالدفء، كما كان السقف-من الخشب أو الجص- يقسم إلى رسوم متماثلة أو غريبة. وكانت هناك المداخن التي تنفث الدخان إلى الخارج، وكان من قبل يلتمس له منفذاً من ثقب في السقف. وكانت المواقد تساعد على تدفئة البيت. وكانت النوافذ الزجاجية شائعة آنذاك. ولكن ظلت الإضاءة في الليل بالمشاعل أو الشموع. وغطيت أرضية البيوت بالأسل والأعشاب ذات الرائحة الزكية عندما تكون طازجة، ولكنها لا تلبث أن تصبح كريهة الرائحة، وتؤوي الحشرات. وجاء السجاد بعد ذلك بخمسة وأربعين عاماً. وكانت الجدران تزدان بالأقمشة المزركشة بالصور والرسوم. مما مهد الطريق لرسم اللوحات، في عهد شارل الأول. واستخدم معظم الناس المقاعد الطويلة لشخصين أو أكثر والكراسي ذوات الأرجل الثلاث، أما الكرسي ذو الظهر فكان ترفاً اختص به الضيف الكريم أو رب البيت أو ربته، ومن هنا جاء التعبير "يأخذ الكرسي ذا الظهر" بمعنى "يترأس المجلس"، وفيما عدا هذا كان الأثاث متيناً رائعاً. فكانت، صواوين المائدة (البوفيه) والمنضدة وخزائن النفائس (دولاب الفضية) والصناديق الثمينة والأسرة ذوات القوائم العالية تصنع وتحفر من خشب الجوز أو البلوط، لتعمر قروناً طويلة. وكان السرير المزود بحشايا سميكة من الريش، وبأغطية حريرية (ناموسية)، يتكلف ألفاً من الجنيهات، ويعتبر شيئاً ثميناً يزهو به أهل البيت ويتوارثونه جيلاً بعد جيل. وخلف البيت أو حوله، في كل الطبقات تقريباً، كانت توجد حديقة زاخرة بالأشجار والشجيرات، تهيئ لهم الظل، وتمدهم بالأزهار التي اعتاد النساء أن
يستعملنها فيتزين بيوتهن وشعورهن، واعتاد شكسبير أن يعطر بها شعره-زهرة الربيع، الزنبق، صريمة الجدي (شجيرة أزهارها غنية بالرحيق) وزهر العليق الجميل، والقرنفل الملتحي، والأدريون (القطيفة)، وزهرة كيوبيد وزنبقة الوادي، وغيرها كثير، بالإضافة إلى الورود البيضاء أو الحمراء.... ويقول بيكون: "أن الله سبحانه وتعالى غرس حديقة، لولاها لكانت الأبنية والقصور التي شيدها الإنسان فظة غير مقبولة(41)".
وغالباً ما تكلفت زينة المرء أكثر كثيراً من زخرفة بيته. ولم يبز أي عصر من العصور عصر إليزابث في فخامة الثياب. وكان من بين نصائح بولونيس قوله: "إن الثياب مرهون بما تستطيع أن تدفع". وعند الطبقات الميسورة اجتمعت كل الأزياء من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، لتعوض الإنسان عما سلبته إياه الشهوة والزمن. وسخرت بورشيا من الشاب فالكنبردج قائلة: "أظنه اشترى صداره من إيطاليا وسرواله القصير من فرنسا، وقلنسوته من ألمانيا وسلوكه من كل مكان(42)". وضربت إليزابث مثلاً ونموذجاً للتزين، إلى درجة أنه في عصرها تغيرت الأزياء مراراً وتكراراً، لأن محاكاة الناس لها بشكل عام، كادت تمحو الفروق الطبقية. وتبدي شخصية من شخصيات "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً Much Ado Adout Nothing" "الحزن والأسف على أن" تغير الأزياء يفني من الثياب أكثر مما يفنيه الإنسان(43). وحاولت قوانين الإنفاق أن تضع حداً لهذا الاضطراب والفوضى في حياكة الملابس، فصدر قانون 1574 ليعالج "التبذير والضياع عند عدد كبير من الشبان الذين يلبسون ما يملكون من أرض فوق ظهورهم". وحرم هذا القانون على غير الأسرة الحاكمة، والدوق والمركيز والارل، لبس اللون الأرجواني، أو الحرير أو القماش الموشى بالذهب، أو فراء السمور، كما حرم على غير البارونات وذويهم لبس الفراء والمخمل القرمزي، أو الأصواف المستوردة، والملابس المطرزة بالذهب أو الفضة أو اللؤلؤ(44)، ولكن سرعان ما أمكن التهرب من هذه القوانين، لأن البرجوازية الطامعة استنكرتها لا لأنها مثيرة للاستياء والغضب فحسب، بل لأنها كذلك تعوق التجارة، فألغيت في 1604.
واتخذت القبعات على أي شكل ومن أي لون، من القطيفة أو الصوف أو الحرير أو الشعر الناعم الرقيق، ووضع الناس قبعاتهم على رؤوسهم دائماً تقريباً، خارج البيت أو البلاط، وحتى في الكنيسة كان الرجال يرفعون قبعاتهم-تمسكاً بالمراسيم-عند الالتقاء بالسيدات. ولكنهم يلبسونها فوراً. واحتفظ الرجال بشعورهم الطويلة قدر ما احتفظت النساء بها، وأرخوا اللحى غزيرة. ووضع الجنسان كلاهما حول الرقبة طوقاً مكشكشاً وياقة من الكتان و"الكمبريكي Cambric" (قماش من القطن أو الكتان أبيض ناعم) موضوعة على إطار من الورق المقوى والأسلاك، تيبست في ثنيات أو طيات عريضة حادة، "بمادة سائلة سموها النشا(45)" ظهرت في إنجلترا آنذاك لأول مرة. وكانت كترين دي مديتشي أدخلت هذه البدعة إلى فرنسا 1533 بوصفها شيئاً للتزين والزخرف، ولكن الزي السائد (موضة العصر) توسع فيها حتى جعل منها آلة تعذيب تصل إلى الأذنين.
وجعلت الملابس من النساء لغزاً لا يمكن النفاذ إلى كنهه إلى حين. ولا بد أن نصف يومهم كان يستغرق في اللبس والخلع. ويتم تجهيز السفينة وتزويدها بكل ما يلزمها بأسرع مما تتزين المرأة(46). حتى الشعر كان يمكن أن يلبس أو يخلع، لأن إليزابث رسمت لهم نموذجاً في لبس اللمة أو الشعر المستعار المصوغ بلون خصلاتها الذهبية أيام شبابها، وكان الشعر المستعار شائعاً لأن النساء الفقيرات-كما قال شكسبير-كن يبعن خصلات شعرهن "بالميزان(47)". وبدلاً من القبعات آثر معظم النساء قلنسوة بالغة الصغر أو شبكة شفافة تسمح بإبراز فتنة شعرهن. وكانت أدوات التجميل تصبغ الوجوه وتزجج الحواجب، والأقراط تتدلى من الآذان، والمجوهرات تتألق في كل مكان. وكان الطوق المكشكش للنساء، مثل ما هو للرجال، ولكن كان صدر المرأة في بعض الأحيان عارياً إلى حد ما(48). ولما كانت إليزابث ضامرة الصدر مستطيلة البطن، فقد ابتدعت زياً تطول فيه السترة على شكل مثلث إلى رأس دقيق تحت الخصر المشدود. وكانت التنورة تمتد من الأوراك بواسطة الطوق الموسع. وكانت العباءة المصنوعة من قماش هفهاف بشكل محكم، تغطي الأرجل، وابتدعت الملكة الجوارب الحريرية. وكانت التنورات تتدلى
حتى تمس الأرض، والأكمام منتفخة، والقفازات مطرزة معطرة. وكانت السيدة تستطيع في الصيف أن تتحدث بالمروحة المزدانة بالجواهر، ومن ثم تأتي بأفكار فيها من الرقة ما لا تعبر عنه الكلمات.
ولكن الحياة في البيت نادراً ما كانت بملابس كاملة. وكان تناول الإفطار في الساعة السابعة والغذاء في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، والعشاء في الخامسة أو السادسة. وهكذا ينقضي النهار. وكانت الوجبة الرئيسية يتناولونها قرب الظهر، وكانت وجبة زاخرة بألوان الطعام. وقال أحد الفرنسيين "إن الإنجليز يملئون بطونهم(49)". وظلت الأصابع تقوم مقام الشوكة التي بدأ استعمالها في عهد جيمس الأول. وكانت الأطباق الفضية تزين البيوت الموسرة. وكان اختزانها بالفعل وقاء ضد التضخم. أما الطبقات الوسطى الدنيا فإنها استخدمت أواني من القصدير (البيوتر)، واستخدم الفقراء أطباقاً من الخشب وملاعق من مادة قرنية (من القرون). وكان اللحم والسمك والخبز هي الأطعمة الرئيسية، وكان كل من يداوم عليها تقريباً يعاني من داء النقرس. وكانت منتجات الألبان شائعة مألوفة في الريف لأن وسائل التبريد كانت لا تزال غير متوفرة في المدن. وكان الفقراء فقط يستخدمون الخضراوات بكثرة لأنهم كانوا يزرعونها في أراضي حدائقهم. وكان البطاطس الذي جاء به والتر رالي أثناء رحلاته في أمريكا، من إنتاج الحدائق، لأنه لم يكن قد أصبح من محاصيل الحقول. واشتهر الإنجليز "بالبودنج" (نوع من الحلوى) يستطيبون أكله فوق الفاكهة التي يختمون بها طعامهم. وكان الإنجليز يقبلون على الحلوى، قدر إقبالهم عليها اليوم، ولهذا كانت أسنان إليزابث سوداء.
وتطلبت هذه الأكلات الشهية بعض السوائل المزلقة: الجعة، البيرة، النبيذ أو عصير الفاكهة. ولم يكن الشاي والقهوة قد أصبحتا مشروبات إنجليزية. وشاع شرب الويسكي في أنحاء أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر (وكان يسمى ماء الحياة). وكان تقطيره من الحبوب في الشمال، ومن النبيذ في الجنوب. وكان شرب الخمر بمثابة احتجاج على المناخ الرطب. وتحي عبارة "ثمل كأنه لورد" بأن هذا العلاج كان يتمشى مع السلم الاجتماعي. وأدخل التبغ إلى إنجلترا على يد
جون هوكنز (1564) ودلايك، وسير رالف لين، وجعل رالي من التدخين عادة مألوفة في البلاط، وأخذ منه نفثة أو نفثتين قبل ذهابه إلى المشنقة، وكان التبغ في أيام إليزابث غالي الثمن إلى درجة حالت دون انتشار التدخين، وفي بعض التجمعات التي تسودها الألفة والبهجة، كانوا يعمدون إلى تمرير غليون واحد على كل الضيوف حتى يستمتع كل منهم بنصيبه من التدخين وفي 1604 شن الملك جيمس "هجوماً عنيفاً على التبغ"، ناعياً إدخاله إلى إنجلترا محذراً من "سم معين" فيه، يقول:-
أليس من أشد الحمق والقذارة أنه على المائدة، وهي محل الاحترام والنظافة والتواضع، لا يخجل الناس من أن يتقاذفوا الغلايين وينفثوا الدخان، الواحد منهم في وجه الآخر، فينبعث الدخان والقذر والرائحة الكريهة على الأطباق، ويلوث الهواء؟.
لقد انتشر استعمالها في كل زمان وفي كل مكان بين الناس على اختلافهم... لأنهم، على الأقل، اضطروا إلى تناوله، على كره منهم، خجلاً من أن يرموا بالشذوذ... وفوق ذلك، فإن الزوج لا يخجل من أن يكره زوجته الرقيقة الصحيحة الجسم النظيفة البشرة على هذا الخطر العظيم-التدخين-فتفسد بذلك أنفاسها الزكية، أو توطن النفس على أن تظل دوماً في عذاب ثمل... إنها عادة ضارة بالعينين، كريهة للأنف، مؤذية للمخ، خطرة على الرئتين. إن هذا الدخان الأسود الكريه أقرب الشبه بنار جهنم التي لا قرار لها(50)".
وبرغم هذا، وبرغم الضرائب الباهظة، كان في لندن سبعة آلاف حانوت لبيع التبغ. ولم يحل إشعال الغليون ونفث الدخان محل الحديث والمناقشة، فقد تحدث أفراد الجنسين بصراحة في موضوعات يقتصر فيها الحديث الآن على قاعات التدخين وملتقى الشوارع، أو على رجال العلم. وتنافس النساء مع الرجال فيحلف الأيمان التي تقارب الكفر والتجديف على الله. وفي الدراما في عهد إليزابث يلتصق العاهرات بالأبطال، وترقش التورية "المأساة" العنيفة. وكانت آداب السلوك
متكلفة أكثر منها مهذبة. وغالباً ما تدرجت الكلمات إلى لطمات. وجاءت آداب كما جاءت الأخلاق، من إيطاليا وفرنسا، كما جاءت الكتيبات التي عالجت قواعد السلوك واللياقة، وحاولت أن تجعل الأرستقراطيين سادة أفاضل، ومن الملكات سيدات فضليات. وكانت أساليب التحية مسرفة في التعبير، واقترنت بالتقبيل غالباً. وكانت البيوت بما فيها من الأضواء وحفلات الابتهاج الصاخبة، أكثر مرحاً عن ذي قبل، أيام الإرهاب في العصور الوسطى، وفيما بعد أيام البيوريتانية وما سادها من كآبة. وكانت الأعياد والمهرجانات كثيرة، فأي شيء يمكن أن يبرر إقامة احتفال أو عرض، فالزفاف، أو الولادة، بل حتى الجنازة، قد تهيئ مناسبة للاحتفال، أو على الأقل للولائم. ومارسوا الألعاب على اختلاف أنواعها في البيوت والملاعب، وعلى نهر التاميز. وقد ذكر شكسبير "البلياردو"، وتحدث فلوريد عن "الكركت" وسخر الناس من القوانين الزرقاء وأيام الأحد الزرقاء (قوانين متشددة سنها البيوريتانز يحرمون بها الرقص والألعاب والمهرجانات يوم الأحد...) وإذا كانت الملكة قد خطت الخطوة الحميدة السارة، فلم لا يترسم الناس خطاها ويحذون حذوها؟ لقد رقص كل الناس تقريباً، بما فيهم كما قال بيرتون "عجائز النساء والرجال الذين كان لهم من أصابع القدمين أكثر مما في الأفواه من أسنان". وكان كل الإنجليز يغنون.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق