67
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء الاول
ذكر ملك كسرى شيروية بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان
لما ملك شيرويه بن أبرويز وأمه مريم ابنة موريق ملك الروم واسمه قباذ دخل عليه العظماء والأشراف فقالوا: لا يستقيم أن يكون لنا ملكان فإما أن تقتل كسرى ونحن عبيدك وإما أن نخلعك ونطيعه.فانكسر شيرويه ونقل أباه من دار الملك إلى موضع آخر حبسه فيه ثم جمع العظماء وقال: قد رأينا الإرسال إلى كسرى بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها.
فأرسل إليها رجلًا يقال له اسفاذ خشنش كان يلي تدبير المملكة وقال له: قل لأبينا الملك عن رسالتنا: إن سوء أعمالك فعل بك ما ترى منها جرأتك على أبيك وسملك عينيه وقتلك إياه ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في منعنا من مجالسة الناس وكل ما لنا فيه دعةٌ ومنها إساءتك إلى من خلدت في السجون ومنها إساءتك إلى النساء تأخذهن لنفسك وتركك العطف عليهن ومنعهن ممن يعاشروهن ويرزقن منه الولد ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة من العنف والغلظة والفظاظة ومنها جمع الأموال في شدة وعنف من أربابها ومنها تجميرك الجنود في ثغور الروم وغيرها وتفريقك بينهم وبين أهليهم ومنها غدرك بموريق ملك الروم مع إحسانه إليك وحسن بلائه عندك وتزويجه إياك بابنته ومنعك إياه خشبة الصليب التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة فإن كان لك حجة تذكرها فافعل وإن لم يكن لك حجة فتب إلى الله تعالى حتى يأمر فيك بأمره.
قال: فجاء الرسول إلى كسرى أبرويز فأدى إليه الرسالة فقال أبرويز: قل عني لشيرويه القصير العمر لا ينبغي لأحد أن يتوب من أجل الصغير من الذنب إلا بعد أن يتيقنه فضلًا عن عظيمه ما ذكرت وكثرت منا ولو كنا كما تقول لم يكن لك أيها الجاهل أن تنشر عنا مثل هذا العظيم الذي يوجب علينا القتل لما يلزمك في ذلك من العيوب فإن قضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه وينفونه من مضامة أهل الأخيار ومجالستهم فضلًا عن أن يملك مع أنه قد بلغ منا بحمد الله من إصلاحنا أنفسنا وأبناءنا ورعيتنا ما ليس في شيء منه تقصير ونحن نشرح الحال فيما لزمنا من الذنوب لتزداد علمًا بجهلك.
فمن جوابنا: أن الأشرار أغروا كسرى هرمز والدنا بنا حتى اتهمنا فرأينا من سوء رأيه فينا ما يخوفنا منه فاعتزلنا بابه إلى أذربيجان وقد استفاض ذلك فلما انتهك منه ما انتهك شخصنا إلى بابه فهجم المنافق بهرام علينا فأجلانا عن المملكة فسرنا إلى الروم وعدنا إلى ملكنا واستحكم أمرنا فبدأنا بأخذ الثأر ممن قتل أبانا أو شرك في دمه.
وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا فإننا وكلنا بكم من يكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم فتتأذى بكم الرعية والبلاد وكنا أقمنا لكم النفقات الواسعة وجميع ما تحتاجون إليه وأما أنت خاصة فإن المنجمين قضوا في مولدك أنك مثرب علينا وأن يكون ذلك بسببك وإن ملك الهند كتب إليك كتابًا وأهدى لك هدية فقرأنا الكتاب فإذا هو يبشرك بالملك بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكنا وقد ختمنا على الكتاب وعلى مولدك وهما عند شيرين فإن أحببت أن تقرأهما وأما ما ذكرت عمن خلدناه في السجون فجوابنا: إننا لم نحبس إلا من وجب عليه القتل أو قطع بعض الأطراف وقد كان الموكلون بهم والوزراء يأمروننا بقتل من وجب قتله قبل أن يحتالوا لأنفسهم فكنا بحبنا الاستبقاء وكراهتنا لسفك الدماء نتأنى بهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى فإن أخرجتهم من محبسهم عصيت ربك ولتجدن غب ذلك.
وأما قولك: إنا جمعنا الأموال وأنواع الجواهر والأمتعة بأعنف جمع وأشد إلحاح فاعلم أيها الجاهل أنه إنما يقيم الملك بعد الله تعالى الأموال والجنود وخاصة ملك فارس الذي قد اكتنفه الأعداء ولا يقدر على كفهم وردعهم عما يريدونه إلا بالجنود والأسلحة والعدد ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال وقد كان أسلافنا جمعوا الأموال والسلاح وغير ذلك فأغار المنافق بهرام ومن معه على ذلك إلا اليسير فلما ارتجعنا ملكنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة أرسلنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين وقامروسانين فكفوا الأعداء وأغاروا على بلادهم ووصل إلينا غنائم بلادهم من أصناف الأموال والأمتعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد بلغنا أنك هممت بتفريق هذه الأموال على رأي الأشرار المستوجبين للقتل ونحن نعلمك أن هذه الأموال لم تجتمع إلا بعد الكد والتعب والمخاطرة بالنفوس فلا تفعل ذلك فإنها كهف ملكك وبلادك وقوة على عدوك.
فلما انصرف أستاذ خشنش إلى شيرويه قص عليه جواب أبيه ثم إن عظماء الفرس عادوا إلى شيرويه فقالوا: إما أن تأمر بقتل أبيك وإما أن نطيعه ونخلعك فأمر بقتله على كره منه وانتدب لقتله رجالًا ممن وترهم كسرى أبرويز وكان الذي باشر قتله شاب يقال له مهر هرمز بن مردانشاه من ناحية نيمروذ.
فلما قتل شق شيرويه ثيابه وبكى ولطم وجهه وحملت جنازته وتبعها العظماء وأشراف الناس فلما دفن أمر شيرويه بقتل مهرهرمز قاتل أبيه.
وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة.
ثم إن شيرويه قتل إخوته فهلك منهم سبعة عشر أخًا ذوو شجاعة وأدب بمشورة وزيره فيروز.
وابتلي شيرويه بامراض ولم يلتذ بشيء من الدنيا وكان هلاكه بدسكرة الملك وجزع بعد قتل إخوته جزعًا شديدًا ويقال: إنه لما كان اليوم الثاني من قتل إخوته دخلت عليه بوران وازرميدخت أختاه فأغلظتا له وقالتا: حملك الحرص على الملك الذي لا يتم لك على قتل أبيك وإخوتك.
فلما سمع ذلك بكى بكاء شديدًا ورمى التاج عن رأسه ولم يزل مهمومًا مدنفًا.
ويقال: إنه اباد من قدر عليه من أهل بيته.
وفشا الطاعون في أيامه فهلك من الفرس أكثرهم ثم هلك هو.
وكان ملكه ثمانية أشهر.وكان عمره سبع سنين.
فلما توفي شيرويه ملك الفرس عليهم ابنه أردشير وحضنه رجل يقال له بهادر جسنس مرتبته رئاسة أصحاب المائدة فأحسن سياسة الملك فبلغ من إحكامه ذلك ما لم يحس معه بحداثة سن أردشير.
وكان شهربراز بثغر الروم في جند ضمهم إليه كسرى أبرويز وكان قد صلح له بعده ما فعل بالروم مما ذكرناه وكان ينفذ له الخلع والهداية وكان أبرويز وشيرويه يكاتبانه ويستشيرانه فلما لم يشاوره عظماء الفرس في تمليك أردشير اتخذ ذلك ذريعة إلى التعنت وبسط يده في القتل وجعله سببًا للطمع في الملك احتقارًا لأردشير لصغر سنه فأقبل بجنده نحو المدائن فتحول أردشير وبهادر جسنس ومن بقي من نسل الملك إلى مدينة طيسفون فحاصرهم شهربراز ونصب عليهم المجانيق فلم يظفر بشيء فأتاها من قبل المكيدة فلم يزل يخدع رئيس الحرس وأصبهبذ نيمروذ حتى فتحا له باب المدينة فدخلها وقتل جماعةً من الرؤساء وأخذ أموالهم وقتل بعض أصحابه أردشير في إيوان خسروشاه قباذ بأمر شهربراز.
وكان ملكه سنة وستة أشهر.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق