89
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء الثالث
ذكر بقية الوقعة بدير الجماجم
فلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة: يا عبد الرحمن بن أبي ليلى! يا معشر القراء! إن الفرار ليس بأحد بأقبح منه منكم غني سمعت علي بن أبي طالب رفع الله درجته في الصالحين وآتاه ثواب الصاديقين والشهداء يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانًا يعمل به ومنكرًا يدعة إليه
فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ومن أنكره بلسانه فقد أجسر وهو أفضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور في قلبه باليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم.
فقال الشعبي: أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم.
وقال سعيد بن جبير نحو ذلك وقال جبلة: احملوا عليهم حملةً صادقةً ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى توقعوا صفهم.
فحملوا عليهم حملةً صادقةً فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها وتقدموا حتى واقعوا صفهم فأزالوه عن مكانه ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلًا لا يدرون كيف قتل.
وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية فلما رأوا أصحاب جبلة قد تقدموا قال بعضهم لبعض: هذا جبلة احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال.
فحملوا عليه فلم يول لكنه حمل عليهم فقتلوه وكان الذي قتله الوليد بن تحيت الكلبي وجيء برأسه إلى الحجاج فبشر أصحابه بذلك.
فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلًا سقط في أيديهم وتنازعوه بينهم فقال لهم أبو البختري: لا يظهرن عليكم قتل جلة إنما كان كرجل منكم أتته منيته فلم يكن ليتقدم ولا ليتأخر.
وظهر الفشل في القراء وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله قد هلكتم وقد قتل طاغيتكم! وقدم عليهم بسطام من مصقلة بن هبيرة السيباني ففرحوا به وقالوا: تقدم مقام جبلة.
وكان قدومه من الري فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة وكان شجاعًا فقاتل يومًا فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن.
فقال الحجاج: منعوا نساءهم لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم.
وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المابرزة فخرج إليه رجل من أهل الشام فتضاربا فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت وإذا هما ابنا عم فتحاجزا.
وخرج عبد الله بن رازم الحارثي فطلب المبارزة فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الرابع خرج فقالوا: جاء لا جاء الله به! فطلب المبارزة فقال الحجاج للجراح: أخرج إليه.
فخرج إليه.
فقال له عبد الله وكان له صديقًا: ويحك يا جراح ما أخرجك قال: ابتليت بك.
قال: فهل لك في خير قال الجراح: ما هو قال عبد الله: أنهزم لك وترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حبًا لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي.
قال: افعل.
فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله فصاح بعيد الله غلامه وكان ناحية معه ماء ليشربه وقال له: يا سيدي إن الرجل يريد قتلك! فعطف عبد الله على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه وقال له: يا جراح بئس ما جزيتني! أردت بك العافية وأردت تقلي! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة.
وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطاهم وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام لأنه كان نزولهم بالجماجم لثلاث مضين من ربيع الأول وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة.
فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا.
فبينا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد وهو في ميمنة الحجاج على الأبرد بن قرة التميمي وهو على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرة من غي قتال يذكر فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس فلما انهزم تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضًا وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي الناس: إلي عباد الله.
فاجتمع إليه جماعة فثبت حتى دنا منه أهل الشام فقاتل من معه ودخل أهل الشام العسكر فأواه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعًا يهلكهم الله به.
فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء ثم رجع الحجاج إلى الكوفة وعاد محمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام وأخذ الحجاج يبايع الناس وكان لا يبايع أحدًا إلا قال له: اشهد أنك كفرت فإن قال: نعم بايعه وإلا قتله فأتاه رجل من خثعم كان معتزلًا للناس جميعًا فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله فقال له: أنت متربص أتشهد أنك كافر قال: بئس الرجل! أنا أعبد الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر! قال: إذًا أقتلك.
قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار.
فقتله ولمي بق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه.
ثم دعا بكميل بن زياد فقال له: أنت المقتص من أمير المؤمنين عثمان قد كنت أحب من أن أجد عليك سبيلًا.
قال: على أينا أنت أشد غضبًا عليه حين أقاد من نفسه أم علي حين عفوت عنه قم قال: أيها الرجل من ثقيف لا تصرف علي أنيابك ولا تكشر على كالذئب والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار اقض ما أنت قاضٍ فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب.
قال الحجاج: فإن الحجة عليك.
قال: ذلك إذا كان القضاء إليك.
فأمر به فقتل وكان خصيصًا بأمير المؤمنين.
وأتي بآخر من بعده فقال له الحجاج: أرى رجلًا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر.
فقال له الرجال: أتخادعني عن نفسي أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون.
فضحك منه وخلي سبيله.
وأقام بالكوفة شهرًا وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها وهو أول من انزل الجند في بيوت غيرهم وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق