1351
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> إنجلترة المرحة -> الفضيلة والرذيلة
3- الفضيلة والرذيلة
إن كل تلميذ ليعرف تنديد روجر أسكام في 1563 بالرجل الإنجليزي الذي يتشبه بالإيطاليين، حيث يقول:-
أني لأعتقد أن الذهاب إلى هناك "إلى إيطاليا".... خطر، أي خطر... لقد جعلت الفضيلة يوماً من هذه البلاد سيدة على العالم. ولكن الرذيلة جعلت منها الآن عبداً لمن كانوا من قبل يلذ لهم أن يخدموها.... إني على العكس من ذلك، أعرف رجالاً غادروا إنجلترا ممن عرفوا فيها بالحياة البريئة والمعرفة الواسعة عادوا من إيطاليا وقد رغبت نفوسهم عن الاستقامة في الحياة وانصرفوا عن العلم، ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل سفرهم إلى الخارج. وإذا ذهب بك الظن إلى أننا لا نقرر الحقيقة. فاستمع إلى ما يقوله الإيطاليون... "إن الإنجليزي الذي يتشبه بالإيطاليين ليحمل بين جنبيه شيطاناً متجسداً فيه".... وكنت أنا نفسي ذات مرة
في إيطاليا، وأحمد الله إني لم أمكث فيها إلا تسعة أيام فقط. ومع ذلك رأيت في هذا الوقت القصير، في مدينة واحدة، من الإباحية والمجون والإثم مالا أكاد أذكره عن مدينتنا الفاضلة لندن في تسع سنوات(21).
ولم يكن معلم إليزابث هو الوحيد الذي ضرب على هذه النغمة. فقد كتب ستيفن جسون Gosson في كتابه "مدرسة الفساد" (1579) "لقد سلبنا إيطاليا دعارتها، انك إذا قارنت بين لندن وروما، وبين إنجلترا وإيطاليا لوجدت أن مسارح الواحدة منها فاسدة والأخرى منتشرة انتشاراً واسعاً بيننا". ونصح سيسل ابنه ألا يسمح لأولاده أن يعبروا جبال الألب. "لأنهم لن يتعلموا هناك شيئاً سوى الغرور وعدم احترام المقدسات والإلحاد(22)". وفي كتابه "تشريح المفاسد"، وصم فيليب ستبز Stubbs- وهو بيوريتاني- الإنجليز في عصر إليزابث- بأنهم أشرار مترفون مزهوون، يفاخرون بخطاياهم. ونعى الأسقف جول Jewel في موعظة ألقاها أمام الملكة- نعى على الناس في لندن أنهم في سلوكهم وأخلاقهم "يهزؤون بكتاب الله المقدس، الإنجيل، ومن ثم يصبحون أكثر فسقاً وأكثر شهوانية وحباً للدنيا وأكثر دعارة، مما كانوا عليه في أي وقت مضى... وإذا كانت حياتنا تشهد بعقيدتنا وتنم عن ديننا، فإنها تنادي بأعلى صوت..... ليس هناك إله(23) .
إن مثار الضجة والنعي على الأخلاق يرجع في كثير منه إلى أساتذة الأخلاق
الذين نددوا أشد التنديد بالنساء والرجال الذين لم يعودوا يلقون بالاً إلى أهوال الجحيم أو يؤمنون بها. ويحتمل ألا يكون الناس في مجموعهم شراً أو خيراً عما كانوا عليه من قبل، ولكن، كما تشددت الأقلية البيوريتانية في أخلاقها وقترت في أموالها واقتصدت في بنات شفاهها، كذلك اتفقت أقلية وثنية مع الإيطاليين على أن التمتع بالحياة، أفضل من إرهاق أنفسنا بالتفكير في الموت دون جدوى. ويمكن أن تكون الأنبذة الإيطالية، التي كان الناس يقبلون عليها في إنجلترا، قد ساعدت على الإباحية في الأخلاق، وبالمثل على توسيع الشرايين، وكان ذلك أبقى أثراً. وربما جاء من إيطاليا ومن فرنسا ومن الآداب القديمة، معنى أصرح إحساساً بالجمال. ولو أن هذا المعنى جلل بشيء من الحزن نتيجة شعور أقوى بقصر عمر الجمال. وحتى جمال الشاب النضير كان يثير الناس في عصر إليزابث أشد إثارة. وأجرى مارلو (في روايته دكتور فاوست) على لسان ميفستوفيلس. امتدحه لفاوست على انه أجمل من السموات. وتأرجحت قصائد شكسبير (Sonnet تتألف من 14 بيتاً) بين عشق المرء لأفراد جنسه وعشقه لأفراد الجنس الآخر. ولم يعد جمال المرأة مجرد خيال شعري، ولكنه ثمل سرى في الدم وفي الآداب وفي البلاط، وحول القراصنة إلى شعراء. وجمع نساء البلاط الظرف وخفة الدم إلى التجميل والتطرية فسحرن ألباب الرجال كما أسرن قلوبهم. وكان في التواضع إغراء بالاقتناص ومضاعفة لسلطان الجمال. وضاعت الابتهالات إلى مريم العذراء وسط استنكار العذرية والانتقاص من قدرها. وتفجر الحب الرومانتيكي في الأغاني مع حرارة الرغبة المتمنعة. وابتهج النساء إذ رأين الرجال يقتتلن من أجلهن، وأسلمن أنفسهن، بالزواج أو بغيره، لمن تكون له الغلبة. وكان من سمات اضمحلال سلطان العقيدة أن موافقة الكنيسة أو مراسمها لم تعد الآن مطلوبة لصحة الزواج، ولو أن الاعتراف به كان يعتبر إساءة للناموس العام، تمييزاً له عن القانون. وكانت معظم الزيجات تدبر عن طريق الوالدين، بعد إطراء متبادل لمزايا الطرفين، ومن ثم تصبح معبودة الساعة المشدوهة، ربة بيت متحررة من الأوهام، منصرفة بكليتها إلى أولادها ومهامها الشاقة، هكذا يعمّر الجنس البشري.
وثمة انحلال خلقي أسوأ دمغت به الحياة العمة، فقد تفشى في الوظائف الرسمية ابتزاز الأموال، قلت أو كثرت، وتغاضت عنه إليزابث، كعذر لها عن عدم زيادة الرواتب(25). وكان أمين صندوق الحرب يحصل على 16.000 جنيه سنوياً علاوة على راتبه. وبالاحتيال القديم قدم الأزل، كانوا يحتفظون بأسماء الجنود الموتى في قوائم الجيش ويضعون مخصصاتهم في جيوبهم ويبيعون الملابس المخصصة لهم(26). وكان الجندي يساوي وهو ميت أكثر منه وهو حي، وقبض ذوو المناصب الكبيرة مبالغ ضخمة من فيليب الثاني ليوجهوا سياسة إنجلترا نحو أهداف أسبانيا(27). ومارس أمراء البحر القراصنة وباعوا الرقيق. وباع رجال الدين رواتب الكنيسة(28)، وكان يمكن إغراء الصيادلة بتسميم الأدوية والأطباء بوصفها للناس. وغش التجار في البضائع، ووصل الأمر إلى فضيحة عالمية، ففي 1585 حدث من الغش في الأقمشة الصوفية وغيرها في إنجلترا أكثر مما حدث منه في أوربا بأسرها(30)، وكانت الأخلاق العسكرية بدائية ساذجة. وكم من مرة حدث الاستسلام بلا قيد ولا شرط، فكان جزاؤه إعمال الذبح في الجنود وفي غير المحاربين على حد سواء. وكان السحرة والعرافون يحرقون. كما كان الجزويت يؤخذون من فوق المشنقة ليقطعوا إرباً(30). لقد جرت ينابيع الرحمة الإنسانية مستأنية في عهد الملكة الفاضل إليزابث.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق