إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 27 يونيو 2014

58 مقدمة فتوح الشام أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )



58


مقدمة

فتوح الشام

أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )

فقال المقوقس‏:‏ هذه والله أخلاق الأنبياء فطوبى لمن اتبعه فإن أمته هي الأمة الموصوفة في الإنجيل فقال بعض من حضر‏:‏ أيها الملك ما تكون أمة عند الله أفضل من هذه الأمة وهم نحن فغضب الملك من قوله وقال‏:‏ وبأي شيء أنتم أفضل عند الله أبأكلكم الحرام وارتكابكم الآثام وصنعكم المنكرات وتجنبكم الحسنات وظلمكم في الرعية وميلكم إلى الدنيا أين أنتم من قوم عبر عليهم الإسكندر فرآهم ليس بينهم قاض ولا حاكم ولا أمير قائم عليه ولا فيهم من يختص بالغنى دون أخيه بل هم سواء في كل ما هم فيه أكلهم وشربهم واحد غير متناف ولا متضاد وملبسهم غير متناف ولا متباعد فتعجب الإسكندر منهم وسأل الأكابر منهم عما رآه من أحوالهم‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الملك إنا وجدنا جمجمة وعليها مكتوب‏:‏ يا ابن آدم ما خلقت إلا من التراب وقد خلوت بما قدمت إما صالحًا فيسرك وإما طالحًا فيضرك فتندم حيث لا ينفعك الندم ولم يكن لك إلى الدنيا مرجع فطوبى للكيس العاقل الذي ليس ببليد ولا غافل يتزود إلى ما إليه يصير ولا يلقي الاتكال على التقصير فبادر إلى الخير قبل الموت واغتنم حياتك قبل الفوت وكأنك بالحي وقد هلك وترك كل ما ملك فلما قرأنا هذا اعتبرنا أيها الملك بهذه الموعظة البالغة ولبسنا أثوابها السابغة فقال‏:‏ ما بال مساجدكم شاسعة نائية وقبوركم دانية فقالوا‏:‏ أما مساجدنا فبعيدة ليكثر الأجر بكثرة الخطا وقبورنا قريبة لنذكر الموت فننتهي عن الخطأ فقال‏:‏ ما لي أرى أبوابكم بغير غلاق‏.‏
قالوا‏:‏ لأننا ما فينا خائن ولا سارق‏.‏
فقال‏:‏ ما لي لا أرى فيكم أميرًا ولا حاكمًا‏.‏
فقالوا‏:‏ لأننا ما فينا معتد ولا ظالم‏.‏
فقال‏:‏ ما لي لا أرى فيكم معسرًا ولا فقيرًا‏.‏
قالوا‏:‏ لأن رزق الله فينا الكبير والصغير ثم إنهم أخرجوا له جمجمتين عظيمتين فقالوا‏:‏ أيها الملك هذه جمجمة رجل عادل سالم وهذه جمجمة رجل ظالم وكلاهما صار إلى هذا المصير ولم يغن عنهما الجمع والتدبير‏.‏
أما العادل فمسرور ريان وأما الظالم فنادم حيران فاز المتقي وخسر الشقي فاختر ما تراه قبل الحين أيها الملك لأنك قد ملكت النواصي ونفذ أمرك في الداني والقاصي واستخلفك الله في الأرض وأمرك بالقيام بالنفل والفرض فتذكر مرجعك ورمسك واعمل لنفسك واعلم أنه لا ينفعك جدك إذا قبضت روحك وأشتمل عليك لحدك فاترك أوامر الشيطان ودواعيه وخذ بأوامر الرحمن ونواهيه ولا يغريك النعيم فتبوء بالإثم العظيم اذكر أيها الملك ما فعل الشيطان بأبيك حين نصب له مكيدته وأدار عليه حيلته فنصب له فخ العداوة وغره فيه بحبة البر‏.‏
فقال قيس‏:‏ أيها الملك أتدري من أولئك‏.‏
قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ هم قوم مؤمنون قال الله عنهم في كتابه‏:‏ ‏{‏وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعملون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 181‏]‏‏.‏ وقد رآهم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به فلما عاد أخبر أصحابه بهم قالوا‏:‏ يا رسول الله أهم قوم مؤمنون بما أنزل عليك فأراد أن يعلمهم أن أمة محمد أفضل منهم فأنزل الله ‏{‏وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 81‏1]‏ فقال المقوقس لقيس بن سعد‏:‏ يا أخا العرب ارجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رأيت وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم‏.‏
فقال قيس‏:‏ أيها الملك لا بد لنا منكم ولا ينجيكم منا إلا الإسلام أو أداء الجزية أو القتال‏.‏
فقال المقوقس‏:‏ أنا أعرض ذلك عليهم واعلم أنهم لا يجيبون لأن قلوبهم قاسية من أكل الحرام‏.‏
حدثنا ابن إسحق رضي الله عنه حدثنا عبد الله بن سهل عن علي بن حاطب عن سليمان بن يحيى قال‏:‏ إن الملك المقوقس كان من عادته أنه في شهر رمضان لا يخرج إلى رعيته ولا يظهر لأحد من أرباب دولته ولا أحد منهم يعلم ما كان يصنع وكانت مخاطبته لقيس بن سعد في أواخر شعبان سنة عشرين من الهجرة فخرج قيس من عنده ومضى إلى عمر بن العاص وحدثه بما كان منه‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ وكان ولي عهد الملك ولده أسطوليس وكان جبارًا عنيدًا وأنه لما سمع ما تحدث به أبوه رأى ميله إلى الإسلام وعلم أنه لا يقاتلهم وربما أسلم وسلم إليهم ملكه صبر إلى أن دخل أبوه إلى خلوته التي اعتاد أن يدخلها ويختلي فيها كل سنة فجمع أرباب الدولة في الخفية لئلا يدري به أحد فيعلم أباه وقال لهم‏:‏ اعلموا أنكم قد ملكتم هذا الملك وأن أبي يريد أن يسلمه إلى العرب لأنني فهمت من كلامه ذلك‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الملك أنت تعلم أن هذا الأمر مرجعه إليك وأنت ولي عهده فاعمل أمرًا يعود صلاحه عليك وعلينا‏.‏
قال‏:‏ فطلب صاحب شراب أبيه وأعطاه ألف دينار ووعده بكل جميل وأعطاه سمًا وقال له‏:‏ ضعه في شرابه‏.‏
قال‏:‏ ففعل الساقي ما أمر به وسقى الملك فمات فأتى الساقي إلى أرسطوليس وأعلمه أن أباه قد مات فذهب إليه ودفنه في الخفية وقتل الساقي وجلس على سرير الملك كأنه نائب عن أبيه إذا غاب كعادته في كل عام ولم يعلم أحد بموته هذا ما كان منه وأما عمرو بن العاص فإنه ارتحل من بلبيس ونزل على قليوب وبعث إلى أهل البلاد والقرى وطيب خواطرهم وقال لهم‏:‏ لا يرحل أحد من بلده ونحن نقنع بما توصلونه إلينا من الطعام والعلوفة فأجابوا إلى ذلك وارتحل من قليوب ونزل على بحر الحصى فارتجت بنزولهم إليها ووقع التشويش فيهم وعلا الضجيج وأغلقوا الدروب والدكاكين ووقف أهل كل درب على دربهم بالسلاح ليحموا حريمهم‏.‏
قال‏:‏ أما عمرو بن العاص فإنه أمر أهل اليمن ومن معه من العربان أن يحدقوا بالبلد وأن أهل ثم إن عمرًا أراد أن يرسل إلى صاحب مصر رسولًا وكان عنده غلام له من أهل الرملة وكان اسمه وردان وكان يعرف سائر الألسن فقال له عمرو‏:‏ يا وردان إنني أريد أن أرسلك إلى هؤلاء القبط فإنك تعرف بلسانهم ولا تظهر لهم أنك تعرفه فقال‏:‏ سمعًا وطاعة فقال‏:‏ أريد أن أكتب معك كتابًا وهم أن يكتب وإذا برسول أرسطوليس قد أقبل وقال‏:‏ يا معاشر العرب إن ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلًا منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله أن يصلح فات بينكم‏.‏
فقال عمرو ليزيد بن أبي سفيان ولهاشم الطائي ولعبد الله بن جعفر الطيار وللنعمان بن المنذر ولسعيد بن وائل‏:‏ اعلموا أني قد ضربت على ملوك الروم ولست أرى من يتكلم مثلي وما يسير إلى هؤلاء إلا أنا فإني أريد أن أرد القوم وأنظر حالهم وما هم فيه من القوة وأن لا يخفى علي شيء من أمرهم فقالوا‏:‏ يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوي الله عزمك وما عندنا إلا النصيحة للدين والنظر في مصالح المسلمين فافعل ما أردت تعان‏.‏
فمال لشرحبيل‏:‏ قد قلدتك أمور المسلمين فكن مكاني حتى أمضي إلى القوم وآتيكم بما فيه‏.‏
فقال له شرحبيل‏:‏ الله يوفقك ويسددك‏.‏
قال‏:‏ فلبس عمرو ثوبًا من كرابيس الشام وتحته جنة صوف وتقلد بسيفه وركب جواده وسار ومعه غلامه وردان وسار الثلاثة إلى قصر الشمع وإذا هم بالمواكب مصطفة والعساكر واقفة وهم بالدروع والجواشن والعدد وقد أظهروا ما أمكنهم من القوة فلما وصلوا إلى قصر الملك أخبروا أرسطوليس أن رسولك أتى بواحد من العرب فأمرهم بإحضاره فدخل عمرو راكبًا وهو متقلد بسيفه فأراد الحجاب أن ينزلوه عن جواده فأبى وأن يأخذوا سيفه فأبى وقال‏:‏ ما كنت بالذي أنزل عن حصاني ولا أسلم سيفي‏.‏
فإن أذن صاحبكم أن أدخل على حالتي وإلا رجعت من حيث أتيت فإننا قوم قد أعزنا الله بالإيمان ونصرنا بالإسلام فما لنا أن ننزل لأهل الشرك والطغيان وأنتم طلبتمونا ونحن لم نطلبكم فأعلموا الملك بما قاله‏.‏
فقال أرسطوليس‏:‏ دعوه يدخل كيف شاء فخرجوا إليه وقالوا له‏:‏ ادخل كيف أردت فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك ورأى السريرية والحجاب وقوفا والبطارقة وهم في زبنة عظيمة فلما رأى عمرو ذلك تبسم وقرأ ‏{‏فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 36‏]‏‏.‏
قال‏:‏ وقال قصر الملك قد بناه الريان بن الوليد بن أرسلاووس وهو الذي استخلف يوسف على مصر بعد العزيز‏.‏
ثم خرب وأقام خرابًا خمسمائة سنة وما بقي إلا أثره فلما بعث عيسى وانتشرت دعوته ورفعه الله إليه وافترقت منه فرقًا وادعوا فيه ما ادعوا من الإلهية وتقول الكذب ولي مصر رجاليس بن مقراطيس بنى ذلك القصر الخراب وهو في وسط قصر الشمع وإنما سمي قصر الشمع لأنه لا خلو من شمع الملوك فلما بناه أحضر الحكماء الذين كانوا قد بنوا في برية أخميم كان المقدم عليهم قربانس‏.‏
فقال لهم‏:‏ إني قرأت كثيرًا من الكتب التي أنزلت على الأنبياء من الله وقرأت صحف موسى ورأيت أن الله يبعث نبيًا قوله حق ودينه صدق أخلاقه طاهرة وشريعته ظاهرة وقد بشر به المسيح فما تقولون فيه فقال قربانس حكيم‏:‏ إن الذي قرأته هو الصحيح‏.‏
قال‏:‏ فثم من يخالف ذلك‏.‏
قالوا‏:‏ نعم‏.‏
قال الحكيم‏:‏ أريد أن أصنع تمثالًا من الحكمة ونجعله بيتًا للعبادة ونجعل على هيكلها تماثيل يكون وجوهها مما يلي التمثال بأعلى قصرك‏.‏
فإذا جاء وقت مبعث هذا النبي يحول كل تمثال وجهه عن صاحبه‏.‏
وأما الذي يجعل على الكنيسة‏.‏
فإنه عند مبعث النبي العربي يقع على وجهه ويكون موضع عبادة القوم وإقامة شرعهم‏.‏
قال‏:‏ فأخذوا في عمل الحكمة وأقاموا التماثيل على ما ذكرنا فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حول كل شخص وجهه عن صاحبه وسقط الذي كان على سطح الكنيسة وهو الجامع اليوم‏.‏
وأما التمثال العالي فبقي على حاله بأعلى القصر فلما دخل عمرو بجواده سمعوا من التمثال صوتًا عظيمًا‏.‏
ثم إنه سقط على وجهه فارتاع له الملك وأرباب دولته وصكوا وجوههم ودخل الرعب في قلوبهم وقالوا بلسانهم‏:‏ ما وقع هذا التمثال إلا عند دخول هذا العربي وما جرى هذا إلا لأمر عظيم ولا شك أنه هو الذي يقلع دولتنا ويأخذ ملكنا فأمروا عمرًا أن ينزل عن جواده فنزل وترتجل وجلس حيث انتهى به المجلس وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبض سيفه ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ ‏{‏ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون وزخرفًا وأن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ اعلموا أن الدنيا دار زوال وفناء والآخرة هي دار البقاء‏.‏

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق