57
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قال الحكيم ماسوسي: إن الحكمة مرقى جليل وطالبها نبيل وتاركها ذليل لأنها غذاء الأرواح وقوت القلوب واعلموا أني لست أتكلم إلا بالصدق وأنتم تعلمون أن محمدًا في أيامه بعث إلينا يدعونا إلى دينه فاستدليت على صدق قوله بكتابه وما ظهر من معجزاته وقد سمعتم أنه لما بعث ما سمع أحد بذكره إلا وخاف منه وقد سمعتم أن القمر انشق له والذراع المسموم كلمه وقال: يا رسول الله إني مسموم فلا تأكلني وقد كلمه الضب والحجر والشجر والمدر وعرج به إلى السماء وركب أوج الماء وأول من تغلب عليه قومه وحاربه عشيرته حين أنكروا قوله وفعله فنصر عليهم وقهرهم وقد تبين لهم الحق فاتبعوه ونصروه وهم هؤلاء الذين فتحوا الشام وما أنكرت من أمرهم شيئًا فإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون حدود الله التي أمر بها وما في كتابهم شيء إلا وفي الإنجيل مثلها وقد أضلكم بولس وأغواكم حين غر بكم وبدل شرعكم وسماكم باسم لا يليق بكم وكيف وقد عاد بكم من الطريق الواضح وأحل لكم جميع ما حرم عليكم من قبل وهذا هو عين المحال وداعية العمى أن تتعدوا ما قال نبيكم وكيف نبغي لروح الله عيسى ابن مريم أن يكلمكم بما لم يرسله الله إليكم.
ثم إن بولص قال لكم: إنه أحل لكم الخنزير وشرت الخمر وارتكاب المعاصي ما ظهر منها وما بطن فأطعتم أمره وصدقتم قوله وحاشا المسيح أن يفعل ذلك وما كان أحد من الأنبياء إلا على ما جاء به محمد وهؤلاء الحكماء الأولون ما منهم إلا من يتكلم بوحدانية الله تعالى وهذا الحكيم دمونا الذي صنع في براري أخيم أرصادًا وجعلها مثلًا للأمم الآتية وذكر فيها من بأتي من الأمم والأجيال إلى آخر الزمان وصور الحكماء منفردة به والنسر يعقد رأس الحمل والنسر يقيم في كل برج ثلاثة آلاف سنة كما قدر بالمقدار الحكيمي.
وكان قد صور صورة وكتب على رأسها بقلم اليونانية أربعة أسطر.
الأول: من خاف الوعيد سلم مما يريد.
الثاني: من خاف ما بين يديه صان دموعه بما في يديه.
الثالث: إن كنت تريد الجزيل فلا تنم ولا تقيل.
الرابع: بادر قبل نزول ما تحاذر فمن كان هذا كلامهم فكيف صنع سواهم وهذه فريضة هؤلاء القوم المحمديين.
قال: فأطرقوا برؤوسهم إلى الأرض غيظًا على الملك.
قال: وما تكلم المقوقس بهذا الكلام حتى أوقف عنده من مماليكه ألف غلام فوق رأسه بالسيف لأنه كان قد سمع ما جرى لقيصر وهرقل مع بطارقته لما جمعهم ونصحهم فوثبوا عليه وأرادوا قتله.
أما المقوقس فإنه استوثق بمماليكه حتى لا يطمع فيه.
قال: فلما تكلم بذلك قال له وزيره: أيها الملك رأيك راجح وأنا أول من يؤمن بما تقول.
فقال الوزير: اكتب إلى ابنتي كتابًا تأمرها فيه أن تتلطف بالقوم وتعطيهم الأمان وتنفذهم إلينا حتى نخلع عليهم وتطيب قلوبهم ويكونوا معنا يقاتلون من يريد قتالنا وما أراد بذلك إلا أن يسلم مثل يوقنا وأصحابه إذ هم على الحق.
قال: فكتب الوزير إلى الملكة كتابًا بما قاله أبوها فلما وصل الكتاب إليها وقرئ عليها أمرت أصحابها أن يرجعوا عن قتل يوقنا ومن معه فرجعوا وأرسلت إلى يوقنا تعلمه بكتاب أبيها وأرسلت إليه الكتاب فلما قرأه قال لرسولها: امض إليها حتى أستخبر الله تعالى في ذلك.
فقال يوقنا لأصحابه: إن الله قد كشف حجاب الغفلة عن قلب هذا الملك وقد ظهر له ما ظهر لنا من الحق فما الذي ترون من الرأي قالوا: نحن نسمع من رأيك.
فقال: دعوني هذه الليلة.
قال: فلما جن عليه الليل قام يصلي وأمر أصحاب أن لا ينزلوا عن خيولهم مخافة من غدر القوم فبينما هو يصلي وإذا بشخص قد دخل فارتاع منه ثم تأمله فإذا هو عمر بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه يوقنا فرح وكان قد رآه مرارًا فقال له: مرحبًا يا عمرو من أين.
فقال: إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعثني إلى عمرو بن العاص لأحثه على المسير إلى مصر فوجدته قد وصل وها هو منك قريب وقد أرسلني إليك لأعرفه خبرك فأخبره بما وقع له وقال له: امض يا عمرو ودعه يعجل بالمجيء يعيننا على هؤلاء القوم وحدثه بجميع ما جرى علينا.
فرجع عمرو مسرعًا إلى عمرو بن العاص وأعلمه بقصة يوقنا.
قال: فترك عمرو بن العاص الأثقال ومعها من يحفظها وركب وسار بجرائد الخيل وترك مع الأثقال عامر بن ربيعة العامري فما كان قبل طلوع الفجر إلا وهو عند يوقنا فدار بالقوم فلما أحس بهم يوقنا كبر هو ومن معه ورفع الجميع أصواتهم بالتهليل والتكبير ووضعوا السيف في القبط فما طلعت الشمس إلا وقد قتل من القبط أكثر من ألف وأسر منهما خلق كثير وولى الباقي منهزمين وأخذت أرمانوسة ابنة الملك وجميع ما معها من الأموال والرجال والجواري والغلمان.
فقال عمرو بن العاص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل يزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد الطائي والقعقاع بن عمرو التميمي وخالد بن سعيد وعبد الله بن جعفر الطيار وصفوان وأمثالهم: أن الله سبحانه وتعالى قد قال: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] وهذا الملك قد علمتم أنه كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث هدية ونحن أحق بمن كافأ عن نبيه صلى الله عليه وسلم هديته وكان يقبل الهدية ويشكر عليها وقد رأيت أن ننفذ إلى المقوقس ابنته وما أخذنا معها ونحن نتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعته يقول: (ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر) فاستصوبوا رأيه فبعث بها مكرمة مع جميع ما معها مع قيس بن سعد رضي الله عنه.
ذكر فتح مدينة مصر
قال ابن إسحق الأموي رضي الله عنه: لما ورد المنهزمون على الملك وأخبروه بما تم عليهم وعلى ابنته.
ضاق صدره وبقي متفكرًا فيما يصنع وليس له نية في القتال مع الصحابة فبينما هو متفكر إذ جاءه البشير بقدوم ابنته وما معها فخف عنه بعض ما كان يجده فلما دخل عليه قيس رفع مجلسه فوق الملوك والحجاب وأرباب دولته وكانوا قد اجتمعوا يهنئونه بابنته فلما حضر قيس بن سعد سأله الملك عن أشياء لعل أصحابه أن تلين قلوبهم إلى الإسلام.
فقال: يا أخا العرب أخبرني عن صاحبكم ما الذي كان يركب من الخيل قال: الأشقر الأرتم المحجل في الساق وكان اسمه المترجل.
فقال: لقد بلغنا أنة كان لا يركب إلا الجمال.
فقال قيس: إن الله أكرم الإبل وشرفها قال لها: كوني فكانت وأخرج ناقة من الصخر وخص بها العرب من دون غيرهم من بني آدم وكان يركبها لكونها قد جعلها الله مباركة تقنع بما تجد وتصبر على الحمل الثقيل والسير الشديد وتصبر على الماء أيامًا وقد ذكرها ربنا في قوله في كتابه العزيز فقال: {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27] وقال: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج: 36].
ولما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزواته غزوة بدر كان معه مائة ناضح من الإبل وكانمعه فرسان يركب أحدهما المقداد بن الأسود الكندي ويركب الآخر مصعب بن عمير وإنا لقينا قريشًا في عددها وعديدها فهربوا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يتعاقبون في الطريق وكان عليه الصلاة والسلام وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب وغيرهم يتعاقبون شامخًا وكان أيها الملك يركب الحمار الذي أهديته إليه ويردف وراءه معاذ بن جبل وعلى الحمار ركاب من نيف وخطامه ليف واعلم يا ملك القبط أنه كان يخصف نعله ويرفع ثوبه ويقول: (من رغب عن سنتي فليس مني) وكان قميصه من القطن قصير الطول والكفين ليس له أزرار ولقد أهدى إليه ذو يزن جبة اشتراها له قومه بثلاثة وثلاثين بعيرًا فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وأهدى له جبة من الشام فلبسها حتى تخرقت وخفين فلبسهما حتى تخرقا وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعات ونصف وكان له ثوب خز يلبسه للوفد إذا قدموا عليه وكان أفصح الناس إذا تكلم بكلمة يرددها ثلاثًا وكلما رأى قومًا سلم عليهم ورأيته كلما تحدث تبسم في حديثه وكان إذا اجتمع إليه أصحابه وأراد أن ينهض.
قال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك قلنا: يا رسول الله إن هذه الكلمات اتخذتهن عادة.
قال: أمرني بهن جبريل وأخرجت لنا زوجته لما قبض كساء وإزارًا غليظين وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذين.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق