56
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
حدثنا عمر بن حفص ولم ينفرد بهذه الرواية سواه وكان أصحاب السير قد اشتغلوا بوقائع وأرض مصر فيما بعد وكان قد ارتحل عنهم فتركوه لأجل الزيادة والنقصان فيه وإنما انفرد ابن إسحق لأنه انفرد عن مشايخ ثقات قد وثق بهم من آل مخزوم اجتمع بهم في الرملة بعد الفتوح أحدهم نوفل بن ساجع المخزومي وكان عمه خالد بن الوليد وكان من المعمرين شهد تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بعدها الحديبية وشهد يوم اليمامة ومسيلمة وكان مع عمرو بن العاص بأرض مصر في جميع فتوحها والثاني فهد بن عاصم بن عمرو بن سهل بن عمرو المخزومي وغيرهما من الثقات ممن شهد فتوح أرض مصر والوقائع كلها قالوا جميعًا ومنهم من قال: إن عمرو بن العاص لما انفصل من ساحل الشام وكتب الله سلامة المسلمين وسار متوجهًا يريد أرض مصر فلما كان بمكان يقال له رفح قال له يوقنا: يا عمرو أنت تريد أن تدهم مصر على حين غفلة من أهلها وأنا ممن يمكنني ذلك لأن ثواب الله أجل غنيمة فإن قلبي ملوث بحب الدنيا وإني كنت ممن أشرك بالله سواه وأنا أجتهد في الخلاص وأقاتل من كنت أنصره على الكفر وعبادة الصلبان والسجود للصور من دون الله وقد أخذت الإسلام بنية وقبول لأنه الحق وأريد أن أتقدم إلى أرض مصر فلعلي أجد لكم بالحيلة سبيلًا.
فقال عمرو: وفقك الله وأعانك وحفظك وصانك.
قال: فسار يوقنا ليلًا من رفح يطلب الفرماء ولم يقرب من العريش ولا القاربا وكلها حصون عامرة وقد سكنها أقوام من العرب المختلطة وكانوا يؤذون المال إلى الملك المقوقس بن راعيل وسنذكر فتوحها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
قال: وإن يوقنا أشرت على الفرماء وكان بها وال من قبل المقوقس اسمه الرندبان والفرماء على جانب بحيرة تنيس من الشرق فرأى يوقنا خيامًا منصوبة وقبابًا مضروبة فلما رأوا يوقنا ومع الصائح فركب من كان هناك وكانت الأخبار ترد عليهم كل وقت بما صنع الصحابة فلما بلغهم أن قيسارية فتحت اغتموا لذلك لأنه كان فلسطين بن هرقل قد تزوج بابنة المقوقس أومانوسة وكان قد جهزها أبوها وأرسلها مع غلمانها وأموالها إلى بلبيس ثم إنها وجهت حاجبها تميلاطوس إلى الفرماء في ألفي فارس لحفظ ذلك المكان.
الاستعداد حدثنا أبو إسحق أخبرنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أسامة بن زيد بن أسلم.
قال ابن إسحق: حدثني رجل من القبط رأيته وقد دخل في دين الإسلام فقربت إليه وسألته فأخبرني أنه من قبط مصر من جند المقوقس فقلت له: كيف كان من أمركم لما سمعتم بقدوم المسلمين من الشام وكسر جيوش هرقل.
قال: لما بلغنا ذلك بعث المقوقس رسله إلى جميع أطراف بلاده مما يلي الشام بأن لا يتركوا أحدًا من الروم ولا غيرهم يدخل أرض مصر كل ذلك لئلا يتحدثوا بما صنع المسلمون بجنود هرقل فيدخل الرعب في قلوب قومه فلأجل ذلك أنه لما دخل يوقنا أرض مصر لم يعلم به أحد فلما ركبوا إلى لقائه ورأوا حشده وعسكره وكانوا بزي الروم سألوه عن مكانه وكان قد أخبر في طريقه من حصن كيفا وأعلموه بابتعاد فلسطين عن زوجته أرمانوسة.
وأن أباها قد جهزها وهي على مدينة بلبيس.
فقال يوقنا: ومتى تزوجها قالوا: تزوجها والمسلمون على حصن حلب.
فقال لهم: إنه قد ركب في البحر وترث قيسارية وقد أرسلني حتى آخذها في المراكب من دمياط ومضى يوقنا يقول: أنا قد جئت رسولًا من الملك فلسطين إلى الملك المقوقس حتى يرسل معي أبنته إلى زوجها كلما سمعوا كلامه قالوا: إن الملكة في بلبيس وقد أنفذها إليه وما منعها من السير إلا خوف العرب وهروب فلسطين من قيسارية فسار يوقنا حتى قرب من بلبيس فنزل هناك وسار حاجبها إليها وعرفها بما قاله يوقنا.
فقالت: علي به فأتى إليه الحاجب وأموه بالمسير فركب وركبه أصحابه وهم بأحسن زي وأتوا إلى عسكر أرمانوسة وإذا به عسكر كبير أكثر من عشرة آلاف قال: فترجل يوقنا وترجل قومه ووقفوا على باب قصرها واستأذنوا عليها فأذنت لهم بالدخول فلما وقفوا بين يديها خضعوا لها فأمرت لهم بكراسي فوضعت لهم فأمرتهم بالجلوس فجلسوا ووقفت الحجاب والمماليك والخدم فقالت الملكة أرمانوسة له من غير ترجمان: كم لكم عن الملك.
فقال: شهر.
فقالت: أكان رحل من المراكب أم قبل رحيله.
فقال يوقنا: بل قبل رحيله وحين ركب منهزمًا ولما وصلت إلى غزة بلغني أنه سار وقد قال لي في السر بيني وبينه: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء العرب فإن أبي هرقل ترك أنطاكية وذهب وقد قاتلتهم بجميع جنوده واستنصر عليهم بجميع دين النصرانية وأنفذ إليهم ما هان الأرمني إلى اليرموك في ألف ألف فهزموه وقتلوه وإني أريد أن آخذ خزائني وأطلب القسطنطينية ثم إنه وجهني إليك أيتها الملكة لتركبي في المركب إليه.
قال: فلما سمعت ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض ثم رفعت رأسها وقالت: إني لا أقدر أن أصنع شيئًا إلا بأمر الملك أبي وإني مرسلة إليه.
قال: فقام يوقنا وصقع لها ودعا ثم خرج من عندها فوجد غلمانه قد ضربوا خيامه فنزل بها وأرسلت إليه العلوف والضيافة.
قال ابن إسحق الأموي رضي الله عنه: ولقد بلغني أنه لما جن الليل أتت إليها الجواسيس وأعلموها بفتح قيسارية ومدائن الساحل جميعها وبتوجه عمرو بن العاص إلى مصر وبحديث يوقنا صاحب حلب وحذروها منه وعرفوها بجميع الأخبار مفضلة وأنه هم الذي فتح طرابلس وصور وجبلة.
قال: فلما سمعت ذلك دخل في قلبها الرعب وعلمت أنه محتال فطلبت حاجبها وقالت له: مر العسكر بلبس السلاح وأن يكونوا مستيقظين فقد جرى من الأمر كذا وكذا ثم إنها أوقفت مماليكها وغلمانها وقالت لهم: إذا دخل هذا الرجل وخواصه فاقبضوا عليهم فإذا نحن ملكناهم انخذل عسكر المسلمين فلما رتبت هذا أرسلت تطلب يوقنا فذهب حاجبها إليه وقال له: أيها البطريق الكبير إن الملك تطلبك لتوصيك بما تقوله لأبيها فقال له: السمع والطاعة ها أنا راكب وأصحابي فذهب القاصد.
فقال يوقنا لأصحابه: اعلموا أن الملكة شعرت بنا والقوم قد عولوا على قتلنا فإن حصلنا في أيديهم قتلونا لا محالة وتضرب بنا الأمثال لمن يأتي بعدنا فموتوا كرامًا ولا تلقوا بأيديكم إلى القتل بأيدي الكفار وكونوا نصرة لدين الإسلام وما عسى نرجو من هذه الدنيا الغدارة التي ما صفت لأحد إلا وغيرته بالكدر فاعمروا دار البقاء وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده فلعلكم ترضونه بذلك.
قال: فأخذ القوم على أنفسهم واشتدوا وركبوا وتوكلوا على الله في جميع أمورهم.
حدثنا ابن إسحق قال: لقد بلغني أن الملكة أقامت تنتظر قدومهم لتقبض عليهم فاستبطأتهم فبعثت رسولًا ثانيًا تستحثهم.
فقال له يوقنا: ارجع إلى صاحبتك وقل لها ما جرت بذلك عادة الملوك يبعثون يطلبون الرسل إلا لأمر يحدث وقد كنت عندها فما الذي تريده نصف الليل مني.
فعاد الرسول وأخبرها بما قاله فركبت من وقتها وتقدمت وتقدمها حاجبها وأمرت الجيش كله أن يركب ودارت بيوقنا وأصحابه ولم تحدث بشيء إلى الصباح فأقبل صاحب الملكة إليهم وقال: ما حملكم أن تركتم دين آبائكم وهجرتم دين المسيح وأمه وقد جئتم تحتالون علينا ألا وإن المسيح قد غضب عليكم.
فقال يوقنا: إن المسيح عبد من عبيد الله لا يقدر على شيء لأنه مأمور ومكلف وقد أنطقه الله بذلك وهو في المهد فقال: {إني عبد الله} [مريم 30]. وقال: {أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا} [مريم 31] {السلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا} [مريم 33] ومن يؤمر بالصلاة والزكاة ويموت فليس بإله إنما هو عبد الله مكلف بالعبادة مثل واحد منا وأن الله لا يتشبه بأحد منا وأن الله لا يشبه شيء ولا يتشبه بأحد ولقد أضلكم من صدكم عن ذلك وزاغ بكم عن طريق الحق بقوله: على الله والمسيح ولقد كنا مثلكم نسجد للصلبان ونعظم القربان ونسجد للصور ونجعل مع الله إلهًا آخر إلى أن تبين لنا دين محمد صلى الله عليه وسلم فشفانا بعد العمى وشرح صدورنا للهدى ودين الإسلام هو الدين الواضح وكنا نقول مثل قولكم إن المسيح ابن الله وإن إبراهيم وإسحق كانا نصرانيين فكذبنا الله بقوله في كتابه: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين} [آل عمران 67] وقال سبحانه: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران 85] وها نحن قد جئناكم لنجاهدكم إما أن تقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإما الجزية وإما القتال قال: فلما سمع الحاجب كلامه قال لقومه: دونكم وهؤلاء قد جاؤوا يريدون قتلكم وأخذ أموالكم وأولادكم وحريمكم قال: فاحملوا على يوقنا وأصحابه وعمل السيف بينهم بقية يومهم فلما كان من الغد ركبوا وداروا بهم وتصايحت عليهم القبط وقتلوا هم من القبط خلقًا كثيرًا ولكنهم صبروا لأمر الله وقالوا: والله لا نسلم أنفسنا أو نموت كلنا فقد حصل لنا ما كنا نطلب من رضا ربنا قال ابن إسحق: حدثنا سيف بن شريح عن يونس بن زيد عن عبد الله بن عمر بن حفص عن عبد الله بن الحرث.
قال: لما أخبرت الجواسيس أرمانوسة بقصة يوقنا أنفذت كتابًا إلى أبيها المقوقس تعلمه بذلك وأنها مغلوبة معهم وأن العرب متوجهون مع رجل يقال له عمرو بن العاص وأنا منتظرة جوابك.
قال: فلما وصل الكتاب إليه دعا أرباب دولته وقال لهم: قد تم من الأمر علي كذا وكذا فما تشيرون به علي.
قالوا: أيها الملك نوى لك من الأمر أن تنقذ جيشًا إلى الملكة ينصرها على عدوها وتنفذ إلى جلب له ملك البرية تستنصر به على هؤلاء العرب وتنفذ إلى مازع بن قيس ملك البجاوة ينفذ لك جيشًا وتنفذ إلى من بالإسكندرية يأتون وإلى من بالصعيد يأتون فإذا اجتمعت إليك هذه الأمم فالق بهم العرب ولا تأمن لهم فيطمعوا فيك.
فقال: يا أهل دين النصرانية اعلموا أن الملك محتاج إلى سياسة ومن ملك عقله ملك رأيه ومن ملك رأيه أمن من حوادث دهره وليست الغلبة بالكثرة وإنما هي بحسن التدبير والله القد كان قيصر أكثر مني جهدًا وأوسع بلادًا وأعظم عدة وقد جمع من بلاد الروم إلى اليونانية ومن أقاليمه ومن القسطنطينية ومن سائر البلاد وبلاد الأندلس واستنصر بنا وبغيرنا فما أغنى عنه جمعه شيئًا ولا قدر أن يرد القضاء والقدر عنه واعلموا أن العقل أساس الأدمي المخاطب المكلف المفضل به على سائر ما خلق على الأرض فمن ملك عقله ملك أمره ومن لم يجد منه حالًا كان بجهله أرضيًا ولن تنال الحكمة إلا بالعقل.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق