36
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قال الواقدي: حدثني عامر بن قبيصة اليشكري.
قال حدثني يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه قال شهر بن حوشب عن جده عامر بن زيد قال: كنت ممن شهد فتوح الشام وكنت في فتوح قنسرين وحلب مع أبي عبيدة وكنت كثيرًا ما أصحب الروم الذين دخلوا في ديننا فلم أر منهم أشد اجتهادًا ولا أخلص اعتقادًا ولا أعظم نيةولا أحسن في الجهاد حمية ولا أبلغ في قتال الروم من يوقنا ولقد نصح والله للمسلمين وجاهد في الكافرين وأرضى رب العالمين ولقد فعل في الروم ما لم يقدر أحد عليه من أبناء جنسه من بعدما قاسى المسلمون منه على قلعة حلب وما تركهم ينامون ولا يقرون ليلًا ولا نهارًا وما قتل من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.
ذكر فتح عزاز قال الواقدي: لما وعظ أبو عبيدة يوقنا وفرغ من وعظه ضم إليه مائة فارس وألبسهم زي الروم قال: وكان كل عشرة من قبيلة قال وهم من طيء وفهر وخزاعة وشنيس ونمير والحضارمة وحمير وباهلة وتميم ومراد وجعل على كل عشرة نقيبًا فأه نقيب طيء فخزعل بن عاصم وعلى فهر فهر بن مزاحم وعلى خزاعة سالم بن عدي وعلى شنيس مسروق بن سنان وعلى نمير أسد بن حازم وعلى الحضارمة ماجد بن عمير وعلى حمير ملكهم ذو الكلاع الحميري وعلى باهلة سيف بن قادح وعلى تميم سعد بن حسن وعلى مراد مالك بن فياض فلما كملوا قال لهم أبو عبيدة: اعلموا رحمكم الله أني مرسلكم مع هذا الرجل الذي وهب نفسه لله ورسوله وكل طائفة منكم عليها نقيب وقد وليته عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ما دام مرضاة الله عز وجل قال فلبسوا وركبوا وساروا معه فلما بعدوا بفرسخ أرسل وراءهم ألف فارس وأمر عليهم مالكًا الأشتر النخعي وقال له: سر في أثر القوم وانظر ما يكون من أمر هذا العبد الصالح.
فإذا قربت من هذا الحصن فاكمن إلى وقت السحر ثم تظاهر لإخوانك سر وفقك الله وأرشدك فسار مالك يقدم قومه فساروا بقية يومهم فلما جن عليهم الليل كمنوا في قرية بالقرب من الحصن وهي قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري حدثني الشديد بن مازن عن جده خزعل بن عاصم قال: كنت في خيل يوقنا لما وجهنا أبو عبيدة معه.
قال لما شارفنا عزاز قال لنا يوقنا: اعلموا يا فتيان العرب أنا قد شارفنا هذا العدو فإياكم أن يتكلم أحد منكم فإن لغتكم لا تخفى على الروم وأنا المترجم عنكم وكونوا على يقظة من أمركم.
فإذا رأيتوني وقد بطشت بصاحب الحصن فثوروا على اسم الله تعالى ثم ساروا وليس عنده خبر من تواتر القدر.
قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري.
قال: حدثني عبد الرحمن المازني وكان ممن يكتب فتوح الشام.
قال: حدثني الأكوع بن عباد المازني.
قال: كنت مع مالك الأشتر من جملة الألف حين سرنا في أثر يوقنا صاحب حلب حتى إذا كنا في تلك القرية ونحن ننتظر الصباح وإذا نحن بجيش من ورائنا من غربي القرية فسار مالك الأشتر وقصد الحصن فغاب عنا غير بعيد وعاد ومعه رجل من العرب المتنصرة وقد أقبل به فلما صار بيننا قال: يا فتيان اسمعوا ما يقول هذا الرجل فقلنا: وما الذي يقوله.
قال: اسألوه فإنه يخبركم فسألناه وقلنا: من أي الناس أنت.
قال: من غسان من بني عم جبلة بن الأيهم.
فقال له مالك: ما اسمك.
قال: اسمي طارق بن شيبان.
فقال له: يا طارق بحق ذمة العرب لا تكتمنا أمرًا تعرفه من أعدائنا قال: والله لا أكتم أمرًا أعرفه ولكن خذوا على أنفسكم قبل قدوم عدوكم قال مالك: وكيف ذلك.
قال: لأن البارحة ورد علينا جاسوس من عندكم وهو منا اسمه عصمة بن عرفجة وكان يسمع ما تناجيتم به من الحيلة التي أرادها يوقنا على صاحب عزاز فلما سمع الجاسوس منكم ذلك كتب رقعة وربطها تحت جناح طير كان معه وأطلقه إلى صاحب عزاز فلما قرأها أرسلني إلى صاحب الراوندات لوقا بن شاس يستنجده عليكم فمضيت إليه بالرسالة وهو قادم في خمسمائة فارس وكأنكم بهم وقد هجموا فخذوا حذركم.
قال الواقدي: وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه سار حتى وصل إلى الحصن فوجد صاحبه قد تجهز بنفسه ومعه أصحابه وهو خارج الحصن وكان اللعين يركب في ثلاثة آلاف فارس من الروم وألف من العرب المتنصرة غير من التجأ إليه من السواد فلما قدم عليه يوقنا لم يوهمه في شيء من أمره بل استقبله وترتجل إليه وأقبل كأنه يقبل ركابه وكان في يده سكين أمضى من القضاء فقطع به حزام فرس يوقنا وجذبه إليه وإذا به قد وقع على أم رأسه فأطبق الأربعة آلاف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمهلوهم حتى أخذوهم قبضًا بالكف وشدوهم كتافًا وبصق دراس في وجه يوقنا وقال: لقد غضب عليك المسيح والصليب إذ فارقت دينك ودخلت في دين أعدائك وحق المسيح لا بد لي أن أبعثك إلى الملك الرحيم هرقل يصلبك على باب أنطاكية بعدما أضرب رقاب هؤلاء العرب ثم إنه أصعدهم إلى الحصن.
قال الواقدي: ومن خيرة الله للمسلمين أن الجاسوس لم يكتب لصاحب عزاز في مكاتبته بسير مالك الأشتر.
قال: وإن مالكًا الأشتر لما سمع كلام المتنصر أيقظ أصحابه وربط المتنصر عنده وأقاموا ينتظرون صاحب الراوندات فلما راق الليل سمعوا وقع حوافر الخيل فلم يكلمهم مالك حتى توسطوا الكمين وأطبقوا عليهم فكل اثنين ربطوا واحدًا من الروم وأخذوهم بالكف ولم ينفلت منهم أحد ولبسوا ثيابهم ورفعوا رايتهم وصليبهم كما كانت ثم إن مالكًا قال للمتنصر: هل لك أن ترجع إلى دين الله عز وجل ودين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيمحو عنك ما سلف من الكفر بالإيمان وتبقى لنا من جملة الإخوان.
فقال: إن قلبي ولبي عندكم فلا جزى الله من ألجأنا إلى الدخول في هذا الدين خيرًا وأنا والله من الطائفة التي هي أول من أسلم على يد عمر بن الخطاب وقد سمعنا عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: من بذل دينه فاقتلوه.
فقال له هالك: لقد صدقت في قولك ولكن انسخ هذا الحديث بقول لا إله إلا الله فقد قال الله تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70] الآية وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبة وحشي قاتل عمه حمزة فأنزل الله فيه الآيات فلما سمع الغساني ذلك فرح وقال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله والآن والله يا مالك قد طاب قلبي وانجبر كسري أخذ الله بيدك وأنقذك الله يوم القيامة.
قال: ففرح مالك بالسلامة وقال له: وفقك الله وثبت إيمانك ثم قال له: يا عبد الله إني أريد أن تمحو ما سلف منك بما تفعله.
فقال: وما تريد أيها الأمير.
قال: تمضي إلى صاحب عزاز وتبشره بقدوم صاحب الراوندات إلى نصرته.
فقال: أفعل ذلك إن شاء الله تعالى وإن كنت في شك من أمري فأرسل معي من تثق به حتى يسمع ما أقول فإن الليل قد تنصف والحرس شديد وباب الحصن مقفول وأنا أخاطبهم من شفير الخندق قال فأرسل معه مالك ابن عم له يقال له راشد بن مقبس ووصاه أن يكون مستيقظًا فسارا جميعًا إلى أن وصلا إلى الحصن فوجدا الحرس شديدًا والروم تضرب بوقاتها والصوت عال في وسط الحصن.
فقال طارق لابن عم مالك: ما هذا وحق أبي إلا قتال وضرب وحرب فأنصتا فإذا هو كما قال طارق.
قال الواقدي: وكان السبب في ذلك أن ابن صاحب عزاز شاب شجاع يقال له لاوان كان أبوه دراس في وقت يرسله إلى يوقنا بالهدايا والتحف لما بينهم من القرابة وإن يقيم عنده أشهرًا في أعز مكان وإنه حضر عنده في بعض المرات في عيد الصليب في البيعة التي هي اليوم الجامع وكان يدخل في كل وقت فرأى يوما ابنة يوقنا وهي نجين جواريها وخدمها وحشمها فوقع بقلبه حبها فكتم أمرها وعاد إلى عزاز وشكا حاله إلى أمه وما كان لأبيه ولد غيره وهي تجد له محبة عظيمة فقالت له: أنا أخاطب أباك في ذلك وألزمه أن يرسل ليخطبها من أبيها ويزوجك بها ونبذل له من المال ما أراده وطلبه واشتغل قلب الشاب بحب الجارية وفي أثناء ذلك جاءت العرب إلى بلادهم واشتغلت خواطرهم فلما وقع يوقنا في يد أبيه وكان من أمره ما كان وقبض عليه وعلى المائة من المسلمين وحبسهم جميعًا في دار ولده لأوان ووصاه بحفظهم فقال لأوان في نفسه وحق ديني إن ابن عمنا يوقنا أعلم من أبي بالأديار ولولا أله رأى الحق مع هؤلاء العرب ما تبعهم بعدما قاتلهم أشد القتال وأيضًا إن جيوش الملك ما ساوتهم وأن الله قد نصرهم على ضعفهم وأنا قلبي متعلق بابنته وإني أرى من الرأي السديد أن أحل هؤلاء القوم من الوثاق وأرجع إلى دينهم بعد أن أثق من ابن عمي أن زوجني ابنته فإنه على الحق وأنال ما أطلب بعدها وأتزوج ابنته فلما حدثته نفسه بذلك أقبل إلى يوقنا وجلس بين يديه وقال له: يا عم إني عوات على أن أحل وثاقك أنت وأصحابك وقد اخترتك على أهلي وأبي وملكي وأنت تعلم أن فراق الأهل صعب واخترت الإيمان على الكفر وقد علمت أن دين هؤلاء صحيح ولكن لي عليك شرط أن تزوجني ابنتك ومهرها عتقك أنت وهؤلاء الناس الذين معك.
فقال يوقنا: يا بني ما لك إلى زواجها من سبيل إذا كنت تدخل فيه لأجل غرض الدنيا وليكن دخولك فيه خالصًا من قلبك حتى إن الله يأجرك على ما تفعله وأنا إن شاء الله تعالى أبلغك ما ترومه وتنال عز الدنيا والآخوة فقال: لا وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ثم حل وثاق يوقنا وأعطاه سلاحه وحل المائة وأعطاهم سلاحهم وقال لهم: كونوا على أهبة وأنا أمضي إلى أبي وهو ثمل بالخمر فأقتله وثوروا على بركة الله تعالى في رضا الله فعندها قال يوقنا للمائة: اشهدوا علي أني زوجته ابنتي وجعلت صداقها عتقنا فقبل منه ومضى إلى دار أبيه فوجد أباه مقطوع الرأس وإخوته عنده فقال لهم: من فعل هذا بأبي.
قالوا: نحن قال: ولم ذلك قالوا: أردنا بذلك وجه الله وقد سمعناك وما تحدثت به مع يوقنا وأصحابه فخفنا عليك أن لا يتم لك هذا الأمر ويتكاثر الجمع على القوم ويبلغ أبانا خبرك فيقتلك فبطشنا به قبلك قال: ففرح لاوان بذلك ورجع إلى يوقنا وأصحابه وأعلمهم بما جرى فخرجوا من دار لاوان وتوسطوا الحصن ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير والسراج المنير ووضعوا السيف في الروم قال ووقع الصائح في الحصن كما وصفنا وتبادرت الروم لقتال المسلمين وفي تلك الساعة قدم طارق ورفيقه قال فسمعنا الأصوات قال فرجعنا إلى مالك وأعلمناه بما سمعناه.
فقال مالك لأصحابه اركضوا لأصحابكم فركضوا خيولهم وخلف منهم مائة يحفظون الأسرى فلما قربوا من الحصن وكان يوقنا قد قال للاوان: إن نجمة من المسلمين تأتينا فأتى لاوان فرأى المسلمين قد أتوا ففتح لهم باب الحصن من باب السر وأدخلهم فلما حصل مالك الأشتر في حصن.
عزاز نادى هو ومن معه الله أكبر فتح الله ونصر وخذل من كفر فلما رأى أهل الحصن ذلك رموا سلاحهم ونادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السلاح وأخذوهم أسارى وشكروا ليوقنا ومن معه قال: فحدث يوقنا مالكًا الأشتر بحديث الغلام لاوان فقال مالك: إذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه.
قال الواقدي: حدثني قيس عن عقبة عن صفوان عن عمرو بن عبد الرحمن عن جبير عن أبيه.
قال: سألت أبا لبابة بن المنذر وكان ممن حضر فتوح الشام كيف كانت فتوح عزاز وقتل دراس فإن نفسي تنكر هذا وأريد صحته.
فقال: لما وضعت الحرب أوزارها وجمع مالك الأشتر الأسارى والمال والثياب والذهب والفضة والآنية وأمر بإخراج ذلك من الحصن ووكل به قيس بن سعد وكان ممن حضر وأصابه سهم فعوره وكذلك أبو لبابة بن المنذر وكلاهما حضر بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد في عزاز.
ثم قام مالك فمشى في الحصن وتفقد دارسًا فوجده مقتولًا فقال: من قتل هذا اللعين.
فقال لاوان: قتله أخي لوقا وهو أكبر مني سنًا فأمر مالك بإحضاره وقال: لم قتلته وهو أبوك.
وما سمعنا ولدًا قتل أباه من الروم سواك فقال: حملني على ذلك محبة دينكم لأن في بيعة هذا الحصن قسًا من المعمرين وكنا نقرأ عليه الإنجيل ويعلمنا بعلم الروم وإني كنت في بعض الأيام في البيعة أنا وهو وليس عندنا أحد وكان اسمه أبا المنذر فقلت له: يا أبا المنذر ألا ترى إلى بلاد الشام كيف استولت عليها العرب وملكوا أكثرها وهزموا جيوش الملك وما كنا نظن أن العرب تقدر على ذلك لأنه ليس في الأمم أضعف منهم وأن الله تعالى نصرهم على ضعفهم فهل قرأت ذلك في كتب الروم أو ملاحمهم أو ملاحم اليونانيين.
فقال: يا بني نعم إني قرأت ذلك ولقد أخبرنا الملك هرقل بذلك قبل وقوع هذا الأمر وجمع إليه الملوك والأساقفة والبطارقة وغيرهم وأخبرهم أن العرب لا بد أن يملكوا ما تحت سريري هذا ولقد بلغنا عن نبي القوم أنه قال: زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها فقلت له: يا أبانا فما تقول في نبي القوم.
قال له: يا بني إن في كتبنا أن الله تعالى يبعث نبينا بالحجاز وقد بشر به عيسى المسيح بن مريم ولا ندري أهو هذا أم لا.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق