35
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
فقال دامس: شكر الله فضلكم ورزقكم النصر على أعدائكم فإن كانت هذه نيتكم فالتصقوا بنا إلى هذا المكان.
قال: وكانوا ثمانية وعشرين رجلًا واثنان كانوا أرسلوهم إلى الأمير يعلمانه بأن يأتي إليهم في الصبح.
فقال لهم دامس: أفيكم من يقدر على الصعود على هذه القلعة فقلنا له: يا أبا الهول وكيف لنا أن نرقى إليها وعلى أي شيء نصل إلى أعلاها بغير سلم فقال: على رسلكم ثم إنه اختار منا سبعة رجال كالأسد الضواري لو كلفوا حمل ذلك البرج على مناكبهم لما عظم ذلك عليهم ثم جلس على قرافيصه وقال لأحد السبعة: اجلس على منكبي وارم بحبلك إلى الجدار واجلس كما أنا جالس ففعل الرجل ما أمر به وأمر آخر أن يفعل ويصعد على منكبي الآخر وأن يرمي بقوته على الجدار قال ففعل ثم إنه لم يزل يصعد واحد بعد واحد إلى أن صعد الثامن بقوته على الجدار وهم متمسكون به فعند ذلك أمر الأعلى أن يقوم قائمًا وان يطرح حبله على الجدار فقام الأول وقام الثاني ثم قام الثالث ثم قام الرابع والخامس والسادس وكل واحد منهم قد طرح نفسه على الجدار ثم قام دامس آخرهم فإذا الأعلى قد وصل إلى شرافة السور وتعلق بها فاستوى على السور ونظر إلى حارس ذلك المكان فوجده نائمًا وهو ثمل من الخمر فأخذ بيده ورجله ورماه فلما وصل إلى الأرض قطعوه وأخفوا جسده ووجد من أصحابه اثنين سكارى وهم رقود فذبحهم بخنجره ورمى بهم ثم أرخى عمامته لصاحبه ونشله إليه فإذا هو معه على السور وكان دامس قد أعطاه حبلًا فبقوا ينشلون به بعضهم إلى أن تكاملوا على السور وأصعدوا من بقي معهم على الأرض وكان آخر من صعد أبو الهول.
فقال لهم: مكانكم حتى أقفو الخبر وأكشف لكم الأثر ثم إنه أتى إلى دار البطريق وهو في وسط القلعة وإذا عنده سادات البطارقة وأكابرهم وهم جلوس وبين أيديهم بواطي الخمر ويوقنا جالس في وسطهم على بساط من الديباج منسوج من الذهب وعليه بدلة من اللؤلؤ ومحصب بعصابة من الجوهر والقوم يشربون والمسك والبخور يفوح عندهم فعاد دامس إلى أصحابه وقال: اعلموا أن القوم خلق كثير وإن هجمنا عليهم فلا نأمن الغلبة من كثرتهم ولكن ندعهم فيما هم فيه فإذا كان وقت السحر هجمنا على يومنا ومن معه من الملوك نقتلهم بسيوفنا فإذا ظفرنا بهم وذلهم الله لنا وعلى أيدينا فهو الذي نريد وإن كان غير ذلك فيكون الصباح قد قرب ولا شك أن الرجلين من أصحابنا قد أعلما خالد بن الوليد فيأتينا.
فقالوا: ما نخالف لك أمرًا ونحن قد صرنا في قلعة هؤلاء الأعداء وليس ينجينا إلا صدق جهادنا والعزم والشدة من قوتنا.
فقال لهم: مكانكم فلعل أن يفتح الباب.
قال: وكان للقلعة بابان وبينهما دهليز والبوابون داخلهما والرجال تنام عندهم بالنوبة فلما وصل دامس إلى الباب وجده مغلقًا وإذا بالقوم رقود من السكر فعاجلهم بالذبح ثم فتح البابين وتركهما مردودين ورجع إلى أصحابه وقد قرب الفجر فقال لهم: أبشروا فإني قد فتحت البابين وقتلت من كان وراءهما فدونكم والباب فاسبقوهم إليه وخذوه عليهم فقد بقي القوم حصيدًا بأسياف المسلمين إن شاء الله تعالى.
قال: وأرسل من يستعجل خالدًا ويبشره بذلك ثم أرسل خمسة من أصحابه يمسكون الباب وأخذ الباقين ومشى نحو دار يوقنا فصاحوا عليه ووقع الصياح في القلعة فرجعوا بأجمعهم إلى الباب وأخذ كل واحد منهم مكانًا يحميه فعندها جاءت الأبطال وصاحت الروم ويلاه كيف تمت علينا هذه الحيلة وصرخ يوقنا بأصحابه فأتوا من كل جانب فعندها كبر المسلمون ونادوا بلسان واحد: الله أكبر فخيل للروم أن القلعة ملآنة منهم.
قال ابن أوس: وقاتلت الروم قتالًا شديدًا وأما المسلمون فكانوا كالأسد الضارية فما رأيت أقوى بأسًا ولا أشد مراسًا من دامس أبي الهول في ذلك اليوم فلقد عددنا في بدنه بعدما انفصلنا ثلاثة وسبعين جرحًا كلها في مقدم بدنه.
قال فبينما نحن في أشد القتال ونحن يده بعضنا بعضًا وقد بقي منا ثلاثة وعشرون وقتل منا أربعة وهم أوس بن عامر الحزمي
قال الواقدي
: لقد حدثني نوفل بن سالم عن جده غويلم بن حازم وكان ممن صحب دامسًا في قلعة حلب قال: لما قتل من قتل منا وقد قتل أيضًا ملاعب بن مقدام بن عروة الحضرمي وكان ممن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية وتبوك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية وهو ابن أخي كعب الذي تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك وأنزل الله فيه ما أنزل قال وبقينا عشرين رجلًا وتكاثرت الروم علينا في أزيد من خمسة آلاف وهم سد من حديد قال ونحن قد أيسنا من الحياة دخل علينا خالد بن الوليد ومعه جيش الزحف فوجدنا ونحن في أشد ما يكون من القتال فلما دخلوا علينا صاح فيهم خالد فجفلت الروم عنا.
قال أوس: فلما رأينا كذلك وانفرج عنا ما كنا فيه اشتدت قلوبنا فعندها كبرت المسلمون ودخل ضرار وأمثاله يضربون رقابهم فلما رأى الروم ذلك وعلموا أنهم لا طاقة لهم بما وقع بهم ألقوا السلاح ونادوا الغوث الغوث وكفوا أنفسهم عن القتال فكفت المسلمون أيديهم عنهم فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو عبيدة ومعه عساكر الإسلام فأخبروه أن الروم يطلبون الأمان وأن المسلمين قد رفعوا عنهم القتل إلى أن تأتي وترى فيهم رأيك فقال أبو عبيدة: قد وفقوا وسددوا فأمر بإحضار رجالهم ونسائهم وعرض عليهم الإسلام فكان أول من أسلم بطريقهم يوقنا وجماعة من ساداتهم.
قال فرد عليهم أموالهم وأهاليهم واستبقى منهم الفلاحين وعفا عنهم من القتل والأسر وأخذ عليهم العهود أن لا يكونوا إلا مثل أهل الصلح والجزية وأخرجهم من القلعة.
قال: ثم أخرج المسلمون من الذهب والأواني ما لا يقع عليه عمد فأخرج منه الخمس وقسم الباقي على المسلمين وأخذ الناس في حديث دامس وحيله وعجائبه وعالجوا جراحته حتى برأت قال وأعطاه أبو عبيدة سهمين ثم إن أبا عبيدة طلب أمراء المسلمين وأكابرهم وشاورهم في أمره وقال: إن الله وله الحمد قد فتح هذه القلعة على أيدي المسلمين وما بقي لنا موضع نخافه فهل نقصد أنطاكية وهي دار الملك وكرسي عزهم وفيها بقية ملوكهم مع هرقل فما ترون من الرأي.
قال فعندها قام البطريق يوقنا وتكلم بلسان عربي فصيح وقال: أيها الأمير إن الله تبارك وتعالى قد أيدكم وأظفركم بعدوكم ونصركم وما ذاك إلا أن دينكم هو الدين القويم والصراط المستقيم ونبيكم هو المشهور في الإنجيل وهو لا محالة الذي بشر به المسيح ولا شك فيه ولا مراء وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل وهو النبي الكريم اليتيم الذي يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه فهل كان ذلك أم لا أيها الأمير.
فقال أبو عبيدة: نعم هو نبينا صلى الله عليه وسلم وإني يا يوقنا قد حرت في أمرك وأنت بالأمس تقاتلنا ومرادك أن تكسر عسكرنا وتقطع الطريق على علوفتنا واليوم تقول مثل هذا القول وقد بلغني أنك لا تفهم بالعربية شيئًا فمن أين لك حفظها.
فقال: لا إله إلا الله ومحمد رسول الله وإنك تعجب أيها الأمير من هذا الأمر قال: نعم قال له: اعلم أيها الأمير إني كنت البارحة مفكرًا في أمركم وقد وصلتم إلى قلعتنا ونصرتم علينا وإنه لم يكن عندنا أمة أضعف منكم وتوسوست في ذلك فلما نمت رأيت شخصًا أبهى من القمر وأطيب رائحة من المسك الأذفر ومعه جماعة فسألت عنه فقيل لي: هذا محمد رسول الله فكأني أقول إن كان نبيًا حقًا فليسأل ربه أن يعلمني العربي وكان يشير إلي وهو يقول: يا يوقنا أنا محمد الذي بشر بي المسيح وأنا لا نبي بعدي وإن أردت فقل لا إله إلا الله وإني محمد رسول الله فأخذت يده فقبلتها وأسلمت على يديه واستيقظت وفمي من تلك الليلة كالمسك الأذفر وأنا أتكلم بالعربية ثم إني قمت إلى منزل أخي يوحنا وفتحت خزانة كتب فوجدت في بعض الكتب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما يكون من أمره ووجدت كل الصفات صحيحة وإن أبغض الخلق إليه اليهود أكان ذلك أيها الأمير أم لا فقال أبو عبيدة: نعم كانت اليهود تطلبنا أشد الطلب حتى نصرنا الله عليهم وأخذ حصونهم وقتلنا أبطالهم.
قال يوقنا: وجدت هذا في سيرته وجملة أخباره وأن الله تعالى كان يوصيه بأصحابه وبالمسلمين وبالأيتام والمساكين أكان ذلك أم لا.
قال أبو عبيدة نعم أما وصيته من الله على أصحابه.
فقد قال الله تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] وقال في حق اليتيم والمسكين: {فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر} [الضحى: 9 - 10].
فقال يوقنا: كيف قال: {ووجدك ضالًا فهدى} [الضحى: 7] فما معنى وصفه بالضلال وهو عند الله كريم.
فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: وجدناك ضالًا في تيه صحبتنا فهديناك إلى مشاهدتنا وأيضًا سهل لك الوصول إلى سبل المكاشفة ووفقك للوقوف في مقام المشاهدة ووجدك ضالًا في بحار الطلب على مركب العطب فهداك إلى سواحل الحق وقربك إلى ظل حقائق الصدق لتكون بقلبك مائلًا عن الأغيار أو تهيم في قيعان الاختيار متمنيًا ساعات الوصول والتلاق وليس لك منا خبر ولا معك منا أثر ألحنا لك لوائح الرضا وكشفنا لك عن واضح القضا أما علمت يا يوقنا أنه لا شيء عند المؤمن أوفى من العلم ولا أربح من الحلم ولا حسب أوضح من الدين ولا قرين أزين من العقل ولا رفيق أشر من الجهل ولا شيء أعز من التقوى ولا شيء أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة أخزى من الكبر ولا دواء ألين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة أحسن من الصحة ولا معيشة أهنأ من العفة ولا عبادة أفضل من الخشوع ولا زهد خير من القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت فلما سمع يوقنا هذا الكلام من معاذ تهلل وجهه وقال: هكذا قرأته في كتب أخي يوحنا وهو مذكور في الإنجيل والتوراة ثم خز ساجدًا وقبل الأرض شكرًا وقال: الحمد لله الذي هداني إلى هذا الدين ووالله لقد رسخ هذا الدين في قلبي وعلمت أنه الحق وسأقاتل في الله كما كنت أقاتل في طاعة الشيطان ووالله لأنصرن هذا الدين حتى ألحق بأخي يوحنا ثم إنه بكى بكاء شديدًا على ما فرط في أمر أخيه.
فقال له أبو عبيدة: قال الله في حق إخوة يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 64] وقال له: إن أخاك في عليين مع الحور العين وأما أنت فساعة أسلمت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فبكى لذلك وقال: أشهد على المسلمين أني كلما جاهدت وقتلت من المشركين فثوابه في صحيفة أخي يوحنا ولا بد أن أقاتل في سبيل الله وأمحو ما سلف من الفعال.
فقال أبو عبيدة: يا عبد الله دلنا أين نسير.
فقال يوقنا: اعلم أيها الأمير أن حصن عزاز حصن منيع وهو قوي بالرجال والعدد والزاد وفيه ابن عم لي اسمه دراس بن جوفناش وهو ذو شدة وبأس وقوة ومراس جلد في الحرب قوي عند الطعن والضرب وإن أنتم تركتموه ومضيتم إلى نحو أنطاكية أغار على حلب وقنسرين وأذاقهم شرًا.
فقال أبو عبيدة: يا عبد الله قد أنطق الله لسانك بالحق والصواب فما عندك من الحيلة.
.
فقال يوقنا: عندي من الرأي أن أركب جوادي وتضم إلي مائة فارس من المسلمين ولنكن على زي الروم ولباسهم وأتقدم بهم ثم يتقدم أمير من العرب ومعه ألف فارس على خفاف الخيل وأنا في المقدمة بالمائة فارس على مقدار فرسخ كأننا هاربون منكم وأوائل الخيل الألف في طلبنا فإذا أشرفنا على عزاز نلقي الصوت فإذا نظر إلينا صاحبها دراس لا بد أن ينزل إلينا ويلقانا فإذا سألني أخبرته أني أسلمت زورًا ثم هربت فخرجت العرب في طلبي فإذا سمع مني ذلك يصعد بنا إلى حصنه وليكن مقدم الألف بالقرب منا في قرية هناك فإذا كان نصف الليل سرنا في وسط الحصن ونضع السيف في أعدائنا فإذا كان عند صلاة الفجر يأتينا أمير العرب بالألف الذي معه فلما سمع أبو عبيدة ذلك استنار وجهه واستشار خالدًا ومعاذًا في ذلك فقالا: يا أمين الأمة رأي سديد إن لم يغدر هذا الرجل ويرجع إلى دينه.
فقال أبو عبيدة {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 14 ].
فقال يوقنا: أنا والله رجعت عن ديني إلى دينكم بعدما كنت أعظم من تلك الصور والصلبان وما بقي في قلبي سوى محبة الرحمن ومحمد سيد ولد عدنان والجهاد عن أفضل الأديان والله على ما أقول وكيل وحق الذي لا إله إلا هو وحق محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي رأيته وعاينته في المنام إن كنتم تظنون في غير ذلك فلا تتركوني أفعل شيئًا مما ذكرته لكم.
فقال أبو عبيدة: يا عبد الله إن أنت نصحت للمسلمين ولم تغدر بهم كان الله لك معينًا في كل ما تحاوله فاتبع الصدق تنج به فإن ديننا مبني على الصدق واتبع سنن إخوانك المؤمنين واعلم أن المؤمن الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه ما وجد فلا يحزنك ما تركت من ملكك وحكمك وإمارتك فإن الذي تركته فان والذي تطلبه باق لأن نعمة الدنيا فانية والآخرة خير وأبقى واعلم أنك في يومك هذا عار من الشرك واعلم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمؤمن يتيقن أن القبر مضجعه والخلوة مجلسه والاعتبار فكره والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع إدامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة داره واعلم يا يوقنا أن المسيح قال: عجبت لمن ليله غافل وليس بمغفول عنه ومؤمل دنيا والموت يطلبه وباني قصرًا والقبر مسكنه وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: من أعطي أربعًا أعطي أربعًا وتفسير ذلك في كتاب الله تعالى: من أعطي الذكر ذكره الله عز وجل لأن الله تعالى يقول: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152] ومن أعطي الدعاء أعطي الإجابة لأن الله تعالى يقول: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 65] ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة لأن الله تعالى يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7] ومن أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله تعالى يقول: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} [نوح: 10].
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق