31
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
فأخبره كعب بقتال يوقنا وأنه أشرف هو وقومه ومن كان معه على الهلاك حتى لم يبق فيهم حركة ونمنا ليلتنا هذه فلما أصبحنا وإذا هم قد صاحوا وانقلبوا راجعين عنا من غير قتال فقال أبو عبيدة: فسبحان مسبب الأسباب ليت أبا عبيدة قتل أمامهم ولم يقتلوا تحت رايته ثم أمر سفن المسلمين بعدما جمعهم زمرًا زمرًا وصلى عليهم ودفنوهم بأسلابهم ودمائهم ثم سال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم لقيامة ودماؤهم على أجسادهم: اللون لون الدم والريح ريح المسك والنور يتلألأ عليهم ويدخلون الجنة ) فلما واروهم في حفرهم قال لخالد: إن كان عدو الله يوقنا رجع إلى القوم وعلم بصلحهم لنا فيلقون منه تعبًا عظيمًا فالحق بهم فقد وجب علينا أن نذب منهم لأنهم تحت ذمتنا وارتحل أبو عبيدة يريد حلب فلما وصل إليها رأى البطريق وجنوده قد أحدقوا بأهل البلد وهم يريدون قتلهم ويقال لهم: يا ويلكم صالحتم العرب عن أنفسكم وصرتم عونًا لهم علينا قالوا: قد فعلنا ذلك وأنهم قوم منصورون فقال: يا ويلكم إن المسيح لا يرضى بفعلكم فوحق المسيح لأقتلنكم عن آخركم أو تخرجون معي إلى قتالهم وتنقضون ما بينكم وبينهم من العهد والميثاق فأخبروني بمن بدأ بهذا الأمر حتى أبدأ به قال: فلم يطيعوه على ذلك.
فقال لعبيده ادخلوا عليهم وائتوني بهم لأقتلنهم فقد أخبرني فلان أنه لقيهم وعرفني بهم فهجم العبيد عليهم وجعلوا يقتلونهم على فرشهم وأبواب منازلهم فسمع أخوه يوحنا الضجة في البلد وهم في القلعة فنظر إلى أخيه وهو يقتل في الناس وقد قتل من أهل البلد ثلثمائة فصاح بهم وبأخيه على رسلك لا تفعل فإن المسيح يغضب عليك وقد نهانا أن نقتل عدونا فكيف بمن هو على ديننا فقال يوقنا لأخيه: إنهم صالحوا العرب عن البلد وصاروا لهم عونًا علينا.
فقال يوحنا: وحق المسيح لا أبقت عليك العرب أبدًا وأن لهم من يقتص منك.
قال: ومن يقتص مني.
قال: المسيح يقتلك كما قتلتهم بغير ذنب فقال يوقنا: أنت حملتهم على ذلك وأنت أول من أبطش به ثم عمد إلى أخيه وقبض عليه وجرد سيفه ليعلوه به فلما نظر يوحنا إلى أخيه وقد جرد سيفه وعلم أنه هالك رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم اشهد على أني مسلم وأني مخالف لدين هؤلاء القوم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ثم قال لأخيه: اصنع ما أنت صانع فإن كنت قاتلي فإني صائر إلى جنات النعيم فورد على يوقنا من إسلام أخيه مورد عظيم منا أهل بلده ومن فزعه من المسلمين فحمله الغيظ على أن يرمي برأس أخيه عن جسمه والتفت إلى أهل البلد فوجدهم يستغيثون فلا يغاثون ويسألونه فلا يجيبهم ولا يكف عنهم فكثر منهم الضجيج وعلت الجلبة وقد أخذوا عليهم البلد من سائر جوانبها وقد أيس أهل حلب من نفوسهم وإذا بالفرج وقد أتى والمعونة وقد أدركتهم وأشرفت عليهم رايات المسلمين وأبطال الموحدين وهم ينادون بكلمة التوحيد ويقدمهم خالد بن الوليد فلما نظر خالد إلى أهل حلب ولهم ضجيج بالصياح والبكاء قال لأبي عبيدة: أيها الأمير هلك والله أهل صلحك وذمامك كما ذكرت فصاح بجواده وحملة الراية وزعق في القوم وقال: أفرجوا معاشر الأعلاج عن أهل صلحنا ثم أجاد فيهم الطعن وحمل المسلمون معه وبذلوا السيف في الأعلاج فلما نظر يوقنا إلى ذلك انهزم إلى القلعة ومعه بطارقته.
قال محصن بن عترة: فرج الله عن أهل البلد بقتل الأعلاج يوم حلب في البلد فمن لجأ إلى القلعة سلم ومن طلب الهرب قتلناه قال: محصن فكان جملة من قتل يوقنا من أهل صلحنا ثلثمائة وقتلنا نحن من أصحابه ثلاثة آلاف أو يزيدون فكانت وقعة عجيبة ففرح المسلمون بها فلما قتل من قتل وفرج الله عن أهل حلب ما يجدون أخبروا أبا عبيدة كيف قتل يوقنا أخاه يوحنا وبالقصة جميعها.
قال الواقدي: فلما سمع يوقنا سيوف المسلمين صعد القلعة هو ومن معه من جنده استعد للحصار ونصب المجانيق ونشر السلاح على الأسوار وكثر آلة الحصار وأما أهل حلب فإنهم أخرجوا لعساكر المسلمين أربعين أسيرًا من البطارقة.
فقال لهم أبو عبيدة: لأي سبب أسرتم هؤلاء قالوا: لأنهم من أصحاب يوقنا هربوا إلينا فلم نر أن نخفيهم شك لأنهم ليسوا منا ولا معنا في الصلح قال فعرض عليهم الإسلام فأسلم منهم سبعة أما الباقون فأبوا فضرب رقابهم وقال لهم: لقد نصحتم في صلحكم وسترون منا ما يسركم وصار لكم ما لنا وعليكم ما علينا وهذا بطريقكم قد تحضن في هذه القلعة فهل محرفون لها عورة تدلونا عليها حتى نقاتلهم منها فإن فتحها الله علينا جعلناها لكم غنيمة مع ما غنمتم من قومكم حتى نكافئكم بفعلكم الجميل فقالوا: أيها الأمير: والله ما نعرف لها عورة وأن يوقنا قد شحن طرقاتها وقطع مسالكها ووعر فجاجها وهذا ما نعلمه ولولا أنه قتل يوحنا لكان أخذها سهلًا لكم.
فقال أبو عبيدة: وما جرى له.
فأخبروه بخبره وحديثه مع أخيه وأنه أسلم بعدما رفع يديه إلى السماء وما ندري ما قال غير أننا سمعنا طرف كلامه وهو يقول: اللهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت وأن عيسى عبدك ورسولك ومحمدًا عبدك ورسولك ختمت به الأنبياء وجعلته سيد المرسلين ولا دين أعلى من دينه فاصنع ما أنت صانع فلما أسلم قتله.
قال: فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال: في أي موضع قتله ثم وثب وأخذ خالدًا معه وجماعة من المسلمين وأتوا إلى موضع قتله وهو رأس سوق الساعة فوجده ملقى على ظهره وكأنه البدر ليلة تمامه مشيرًا بإصبعه إلى السماء وقد مات وأصبعه قائمة فأخذه أبو عبيدة وكفنه وصلى عليه ودفنه في مقام إبراهيم فلما واروه أتى إلى أبي عبيدة رجل من المسلمين فقال: أصلح الله الأمير انظر إلى هؤلاء القوم فإن كانوا من حزبنا نصحوا ودلونا على عورات قومهم.
فقال: لا والله يفعلون ذلك أبدًا فعندها أقبل أبو عبيدة على المسلمين وقال: أشيروا علي رحمكم الله فقال له ذلك الرجل وكان اسمه يونس بن عمرو الغساني وكان رجلًا بصيرًا بالشام وجباله ومدنه وجميع أرضه وعارفًا بطريق الشام: أصلح الله الأمير انظر إلى ما أعرفه من البلد وما عندي من الرأي.
قال أبو عبيدة: تكلم يا أبا عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين.
فقال: إن الله قد فتح على يدك الشام وسهله وجبله وحزنه ووعره وقتل طاغية الكفر وحاميته وأما بقايا عساكرهم فهي من وراء الدروب وهي جبال وعرة ومضايق والقوم قد رعبت قلوبهم مما أباد الله منهم وليس لهم قلوب يقاتلون بها المسلمين فحاصر هذه القلعة وبث الخيل وشن الغارات في بقايا البلاد وشاطئ الفرات فما لهم زاد يقوم بهم فتبسم خالد من كلام الغساني وقال: هذا والله هو الرأي وأنا أشير عليكم بمشورة أخرى: أن نزحف نحو القلعة فلعل الله أن يفتحها في وقتنا هذا فإني أخشى إن طال بنا المقام أن تعطف علينا جيوش الروم من جهة أخرى فيحولوا بينها وبيننا.
قال أبو عبيدة: يا أبا سليمان لقد أشرت فأحسنت وقلت فصدقت ثم أمر أبو عبيدة بالزحف إلى القلعة فترجلت الفرسان عن خيولهم وتجردت من ثيابهم واختلط العبيد والسادات وافتخرت القبائل وانبثت العشائر وتجاوبوا بالأشعار وتداعوا بالأنساب.
قال مسروق بن مالك: فوالله ما رأيت في قتال حصون الشام يومًا كان أعظم من ذلك اليوم لأننا كنا نشبه دوران الحرب كدوران الرحى تهشم ما دارت عليه وقد برزنا إليهم في أول حربهم وتبادرت أبطال اليمن وسادات ربيعة ومضر يتلو بعضهم بعضًا وجعلوا يطلبون القلعة من حيث لا طريق عليها.
فإذا دنوا منها أخذتهم الحجارة من كل جانب ورموهم بالمجانيق والغرازات وكنت أنا وأصحابي أقرب الناس إلى الأرض ففزعنا راجعين على أعقابنا يدفع بعضنا بعضًا لا نظن أن ينجو منا أحد فوقعت الخذلة في المسلمين وقد شدخت منا الحجارة خلقًا كثيرًا فقتلت بعضنا وبعضنا رمته فكان من جملة من قتل يوم حصار قلعة حلب بالحجارة عامر بن الأصلع الربعي ومالك بن خزعل الربعي وحسان بن حنظلة ومروان بن عبد الله وسليمان بن فارغ العامري وعطاف بن سالم الكلابي وسراقة بن مسلم بن عوف العدوي ورجال من أهل اليمن من آل عامر ومن بني كلاب وغيرهم وسبعة من بني عبد الله.
قال مرزوق بن مالك: فلقد كنا نرى بعد ذلك بسنين خلقًا كثيرة عرجًا من يوم حصار قلعة حلب فعندها نصب أبو عبيدة رايته خارج المدينة وجعل ينادي بالمسلمين فاجتمعوا إليه.
فقال: أيها الناس إنكم قاتلتم اليوم على غرة فادفنوا الشهداء وشدوا كل من أصابه جرح فانتدب المسلمون إلى ذلك وفرح الروم بهزيمة المسلمين وما قد نزل بهم.
فقال لهم يوقنا: إن العرب لا تدنوا من القلعة بعد هذا اليوم أبدًا وإن حاصرونا فلأكيدنهم ولأهبطن إلى عسكرهم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق