إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 25 يونيو 2014

30 مقدمة فتوح الشام أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي ) ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها



30


مقدمة

فتوح الشام

أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )

  ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها

قال الواقدي‏:‏ كان مع أبي عبيدة عشرون ألفًا ومع يزيد وعمرو بن العاص عشرة آلاف‏.‏
قال الواقدي‏:‏ فلما وصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة أنفذ إلى يزيد ثلاثة آلاف فارس مع حرب بن عدي وبقي أبو عبيدة في سبعة عشر ألفًا وأكثرهم من اليمن وكان أبو عبيدة قد صالح أهل قنسرين والعواصم على خمسة عشر ألف مثقال من الذهب ومثلها من فضة وألف ثوب من أصناف الديباج وخمسمائة وسق من التين والزيت فلما تم الصلح وجاءوا بما ضمنوه من مدينتهم كتب لهم كتابًا وشرط فيه الشروط ودخل أبو عبيدة وخالد في رجال من المؤمنين وسادات المسلمين فحطوا بها مسجدًا فبلغ ذلك أهل حلب من الصلح لقنسرين ومسير العرب فاضطربوا اضطرابًا شديدًا وكان عليهم رئيسان أخوان لأب وأم وكانا يسكنان في القلعة ولم تكن القلعة محيطة بالمدينة بل كانت المدينة منفردة بذاتها وكان البطريقان يقال لأحدهما يوحنا والآخر يوحنا وكان أبوهما ملك البلد وأعماله وضياعه ورساتيقه إلى حدود الضروب وإلى حدود الفرات وقد ملك حلب سنين لا ينازعه فيها منازع وكان هرقل طاغية الروم يهابه ويوقره ولا يحاربه كل ذلك لبقاء ملكهم واجتماع كلمتهم لأنه كان قد انتزع من رومية إلى أقصى البلاد لئلا يجيش عليه أحد جيشًا ولا ينازعه في ملكه لكثرة شره وتدبيره وشدة بني عمه فلما نزل بالعواصم استخلص لنفسه قلعة حلب وبناها وحصنها ومكن في البلاد فلما هلك آل الأمر بعده لولده يوحنا وكان الكبير وكان شجاعًا بطلًا جامعًا للأموال مقدامًا للحروب لا يصطلى له بنار ولا يدفع شره وكان أخوه يوحنا دينًا قد نزع يده من الرياسة وترهب وكان أعلم الناس في أهل زمانه وأنه لما بلغهم الخبر أن أبا عبيدة قد قصد إليهم قال لأخيه يوقنا‏:‏ على ماذا عولت‏.‏
قال‏:‏ على قتال العرب ولا أدعهم يقربون من أرضنا وبلادنا حتى يرى العرب أني لست كمن لقوا من بطارقة الشام ولا من غيرها وكان يوحنا قد درس الإنجيل وقرأ المزامير وليس له همة إلا عمارة الكنائس والأديرة وتشييد المواضع وكثرة الشمامسة والقسوس والرهبان والقيام بأمورهم فلما بلغ هذين الأخوين فتح العواصم عنوة وقنسرين صلحًا وأن العرب نازلون عليها وأن خيلهم تضرب إلى الفرات والعواصم والبقاع فأقبل يوحنا على أخيه الأكبر يوقنا‏.‏
وقال‏:‏ يا أخي أريد أن أختلي بك الليلة وأشاورك وأطلعك على سري ورأيي وأشرف على سرك ورأيك‏.‏
قال‏:‏ نعم فلما اجتمعا في الليل في دار كانت لأبيهما في القلعة وجلسا للمشورة أقبل يوقنا على أخيه يوحنا وقال‏:‏ يا أخي ألا ترى ما نزل بنا من العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد وما حل بأهل الشام منهم من القتل والنهب وأخذ الأموال وأنهم لا ينزلون مدينة من مدن الشام قال الواقدي‏:‏ فقال يوحنا‏:‏ يا أخي إذ قد استشرتني في أموك فإني أنصحك ولا أغشك إذا قبلت النصيحة وإن كنت أصغر منك سنًا فإني أعلم عنك بصيرة فوحق المسيح والقربان لئن قبلت مشورتي ليعلون أمرك ويسلم لك مالك ونفسك‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ يا أخي ما علمتك إلا ناصحًا فما عندك من الرأي‏.‏
فقال‏:‏ الرأي عندي أن ترسل رسولًا إلى الحرب وتبذل لهم ما شاءوا وتسألهم الصلح وتتفق معهم على معلوم يدفع لهم في كل عام ما عامت الغلبة لهم فلما سمع يوقنا ذلك من كلام أخيه يوحنا أقبل عليه وقد استوثق منه الغضب وقال‏:‏ قبحك المسيح ما أعجز رأيك ما ولدتك أمك إلا راهبًا أو قسيسًا ولم أقلدك لا ملكًا ولا محاربًا ولا مقاتلًا والرهبان ليس لهم قلوب لأكلهم العدس والزيت والبقل ولا يأكلون اللحم ولا يعرفون النعيم وليس لهم بالقتال بصيرة ولا بملاقاة الرجال خبرة وأما أنا فملك ابن ملك وليس بيني وبينهم إلا الحرب ولا ترى الملوك العجز ويلك كيف نسلم ملكنا العرب ونعطيهم القياد من أنفسنا من غير حرب ولا قتال‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع يوحنا ذلك من أخيه تبسم من كلامه وتعجب كل العجب وقال‏:‏ يا أخي وحق المسيح إن أجلك قد اقترب لأنك صاحب بغي تحب سفك الدماء وقتل النفس وما أظن جموعك أكثر من جموع الملك هرقل التي جمعها باليرموك مع ماهان ويوم أجنادين وهؤلاء القوم قد أيدهم الله عليمًا فاتق الله ولا تسع في قتل نفسك‏.‏
فلما سمع يوقنا كلام أخيه داخله الغضب وقال له‏:‏ قد أكثرت وأطلت في مدحك العرب وإني لست كمن لاقوه من هذه الجموع التي ذكرتها ولا أقاس بهم ومع ذلك أعلم أن كل من ذكرت من أهل المدن وغيرها أسلم بلده عنوة أو صلحًا قبل أن يقاتل بلا عذر في القتال ويبذل المجهود عن نفسه وإنما جمعت الأموال من قبل إلى الآن لأدفع بها الأذى عن نفسي وإني مجمع على قتال العرب ومحاربتهم فإن أظفرني الصليب بهم وأعانني المسيح عليهم طلبت العرب إلى أن أدخل خلفهم الحجاز وأسود على سائر الملوك وأرجع إلى الشام ملكًا فلا يقدر هرقل أن ينازعني وإن هزمتني العرب طلعت إلى قلعتي هذه ولزمتها فإني قد عبيت فيها من الزاد والأطعمة ما يكفيني طول دهري وأكون فيها عزيزًا إلى أن أموت ولا ألقي يدي إلى العرب ولا أبذل أموالي من غير طلب فلا تعارضني في شيء من أمر العرب ولا تدعني إلى الصلح وإلا بطشت بك قبلهم‏.‏
قال الواقدي‏:‏ واحتوى الشيطان على قلب يوقنا وقد سولت له نفسه العمل فلما سمع يوحنا من أخيه يوقنا هذا المقال قال له‏:‏ كلامك علي حرام أبدًا حتى ترجع إلى رأيي وتعود إلى قولي ثم قام عنه مغضبًا فلما كان من الغد جمع يوقنا إليه جميع من التجأ إليه من العسكر من الأرمن والمتنصرة وغيرهم وعرضهم على نفسه فمن أراد سلاحًا أعطاه وفرق فيهم الأموال وجعل يهون العرب عليهم ويقول‏:‏ إنما هم قليل ونحن أكثر منهم لأن جموعهم قد تفرقت منها قال الواقدي‏:‏ وعزم على قتال أبي عبيدة قبل أن يصل إليه وإلى بلده ثم عمد إلى بطريق من بطارقته يقال له كراكس وضم إليه ألف فارس ووكله بحفظ بلده وسار يوقنا بمن معه يريد أن يلقى جيش أبي عبيدة والمسلمين هو وقومه في اثني عشر ألف مدرع غير من كان معه بغير درع ونشرت أمامه الأعلام والصلبان وكان فيها صليب من الذهب والجوهر ومن حوله ألف غلام عليهم ثياب الديباج المنسوج بالقصب‏.‏
قال ابن ثعلبة الكندي‏:‏ فأقام أبو عبيدة على مدينة قنسرين بعد أن فتحها بالصلح وبعد أن أتاه يزيد بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره أن يبعث إلى يزيد بن أبي سفيان طائفة من جيشه فبعث له بثلاثة آلاف فارس لابسين السلاح الكامل وعول أبو عبيدة على المسير إلى حلب فدعا برجل من بني ضمرة وكان بطلًا مجربًا بشدة البأس وكان إذا ثبت على وجه الأرض للقتال لا يهاب الجحافل قلت أو كثرت فضم إليه ألف فارس وصيره على مقدمته وقال‏:‏ يا كعب لا تقاتل جيشًا لا تطيقه واختبر أمر هذا العلج واعرف خبره وأنا راحل من ورائك فسار كعب بن ضمرة يريد حلب وكان يوقنا قدم أمامه عيونًا يأتونه بالأخبار فأتته جواسيسه يخبرونه أن خيول العرب قد أتت تريد بلده وقتاله‏.‏
فقال لهم‏:‏ في كم أتت العرب‏.‏
قالوا‏:‏ في ألف فارس وهم على ستة أميال من بلدك نزول‏.‏
قال‏:‏ فكمن يوقنا كمينًا ثم سار إليهم بجيوشه وبطارقته فلما أشرف عليهم وهم نزول على نهر يسقون خيلهم ويتوضئون فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم يوقنا بجيوشه وبطارقته والصليب أمامه فنادى المسلمون بعضهم بعضًا واستووا على متون خيولهم وورد كعب بن ضمرة على فرسه وسبق في أول الخيل وأشرف على جيش يوقنا فحزره أنه في خمسة آلاف فارس وكان يوقنا قد قسم عسكره شطرين النصف معه والنصف مع الكمين فلما نظر كعب إلى يوقنا وجيشه انقلب إلى أصحابه وقال‏:‏ يا أنصار دين الله إني نظرت عسكر عدوكم وحزرته فهو في خمسة آلاف وهم لكم مغنم ويقاتل الواحد منكم خمسة‏.‏
قالوا‏:‏ بلى والله وأقبل أصحابه يشجع بعضهم بعضًا فقربت الفئة من الفئة وجماح يوقنا بأصحابه ورجاله وغلمانه وعبيده وبطارقته وأمرهم بالحملة على المسلمين فحملوا بأجمعهم حملة صعبة وحمل عليهم المسلمون والتقى الجمعان واشتبك الحرب وقاتل الجمعان قتال الموت وقد أيقن المسلمون بالظفر والغنيمة فطلع عليهم الكمين من ورائهم وأكبوا عليهم جميعًا‏.‏
قال مسعود بن عون العجي‏:‏ شهدت الخيل التي بعثها أبو عبيدة طلائع مع كعب بن ضمرة وكنت فيها يوم التقى الجمعان وقد خرج علينا الكمين ونحن في القتال ونحن لا نظن أن لهم كمينا يطلع من ورائنا وإذا بأصوات حوافر الخيل أكبت علينا وأيقنا بالهلكة بعدما كنا موقنين بالغلبة وصرنا في وسط عسكر الكفار فلم يكن لنا بد من القتال فافترقت المسلمون ثلاث فرق فرقة منهم منهزمة وفرقة قصدت قتال الكمين وفرقة مع كعب بن ضمرة قصدت قتال يوقنا ومن معه‏.‏
قال مسعود بن عون‏:‏ فلله در كندة يومئذ لقد قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاغ حسنًا ووهبوا أنفسهم لله تعالى حتى قتل منهم ذلك اليوم مائة رجل في مقام واحد وعمل أهل الكمين عملًا عظيمًا وكعب بن ضمرة قلق على المسلمين فجاهد عنهم وهو يجول بالراية وينادي‏:‏ يا محمد يا محمد يا نصر الله انزل معاشر المسلمين اثبتوا إنما هي ساعة ويأتي النصر وأنتم الأعلون فاجتمع المسلمون عليه والجراح فيهم فاشية وقتل من المسلمين مائة وسبعون رجلًا من الأعيان‏:‏ منهم عباد بن عاصم النخعي وزفر بن أم راضي وحازم بن شهاب المقري وسهل بن أشيم ورفاعة بن محصن وغانم بن برد وسهيل بن مفلج وكان ممن شهد يوم السلاسل وتبوك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد‏.‏
قال مسعود بن عون‏:‏ والله لقد تأسفنا على قتله ووجدنا فيه أربعين ضربة كلها في مقدمه رضي الله عنه ولم نجد واحدة في ظهره وكان الأعيان أربعين رجلًا لأن الرجل منا ما قتل حتى قتل عددًا من المشركين فلما نظروا إلى ثبات المسلمين مع قلتهم وما هالهم ممن قتل منهم هم المشركون أن ينهزموا فثبتهم يوقنا وقال‏:‏ ويلكم ما العرب إلا مثل الذئاب إن صدمت ولت وإن تركت طمعت ولما نظر كعب بن ضمرة إلى من قتل تحت رايته اغتم لذلك غمًا شديدًا فنزل عن فرسه ولبس درعًا من فوق درعه وشد وسطه بمنطقة ومسح وجه فرسه ومنخره وقتله بين عينيه وكان قد شهد معه المواطن وجاهد معه وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد سماه الهطال‏.‏
فقال‏:‏ يا هطال هذا يومك المحمود عاقبته فأثبت للقتال في طاعة الله ولما استوى على متنه وقف أمام المسلمين وجعل ينظر إلى القتلى وهو متفكر في أمره والراية بيده وهو ينتظر من أبي عبيدة جيشًا يقبل عليه أو طليعة تنجده فلم ير لذلك أثرًا‏.‏
وذلك أن أبا عبيدة ما قطعه عن المسير إليه إلا قدوم أهل حلب عليه وذلك أنه لما سار يوقنا إلى حرب المسلمين اجتمع مشايخ أهل حلب والروسية بعضهم إلى بعض وقالوا‏:‏ يا قوم تعلمون أن هؤلاء العرب قد أطاعهم أهل دين النصرانية والصليب ودخلوا في دينهم ومنهم من رجع إلى دينهم ومنهم من قاتلهم‏.‏
فأما الذي قاتلهم فخسر فهل لكم أن تسيروا إلى أمير المؤمنين ونساله الصلح ونصالح عن مدينتنا وندفع إليه ما أحب من أموالنا فإن ظفر المسلمون بالبطريق يوقنا نكن نحن آمنين غير وجلين منهم ونقر عينا من بأسهم وإن صالح يوقنا القوم نكن نحن قد سبقناه إلى الصلح وإن غلب ورجع سالمًا لم نبلغه ولم نعلمه واستوى رأيهم على ذلك فخرج منهم ثلاثون رجلًا من رؤسائهم وسلكوا طريقًا غير طريق يوقنا حتى أشرفوا على عسكر المسلمين فنادوا‏:‏ الغوث الغوث وكان العرب قد علمت أن الغوث بالرومية هو الأمان وقال لهم الأمير‏:‏ فمن سمعتموه يقولها فلا تعجلوا عليه بالقتل لئلا يطالبكم الله يوم القيامة وعمر بريء منه فكان العرب يعرفونها فمما سمع المسلمون منهم ذلك أسرعوا إليهم وأوقفوهم بين يدي أبي عبيدة‏.‏
فقال خالد‏:‏ يوشك أن هؤلاء يطلبون الصلح والأمان لأنفسهم وهم أهل حلب‏.‏
قال أبو عبيدة‏:‏ أرجو ذلك إن شاء الله تعالى وإن صالحوني صالحتهم وهو لا يعلم ما أصابه من الحرب الشديد والقتل العتيد وكان قدومهم عليه ليلًا والنيران تضرم بين يديه وكان في العسكر رجال قيام في صلاتهم يتلون القرآن فجعل بعضهم يقول لبعض بهذه الفعال ينصرون علينا فلما سمع الترجمان مقالهم أخبر أبا عبيدة بما قد تناجوا بينهم‏.‏
فقال أبو عبيدة‏:‏ إنا قوم قد سبقت لنا العناية من ربنا وإنا رجال لا نريد من الله ورسوله بدلًا ولن نجزع من قتال الأعداء فأخبرهم الترجمان بذلك ثم قال لهم‏:‏ من أنتم‏.‏
قالوا‏:‏ نحن سكان حلب من تجارها وسوقتها ورؤسائها وقد جئنا نطلب منكم الصلح‏.‏
فقال أبو عبيدة‏:‏ فكيف نصالحكم وقد بلغنا أن بطريقكم قد صمم على قتالنا وقد حصن قلعته وجعل فيها ما يقوته سنين واتخذ الجند وأكثر من ذلك وما لكم عندنا صلح‏.‏
فمالوا‏:‏ أيها الأمير إن صاحبنا قد خرج من عندنا يريد حربكم وقتالكم‏.‏
قال أبو عبيدة‏:‏ ومتى خرج‏.‏
قالوا‏:‏ خرج سحرًا ونحن من بعده وسلكنا طريقًا غير طريقه وإنا نرجو أنه هالك لا محالة لأنه ركب البغي ولم يرض بالصلح وقد أطاع هواه فقد وقع في شرك الردى فلما سمع أبو عبيدة بخروج البطريق خاف على طليعته منه‏.‏
فقالا‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هلك والله كعب ومن معه إنا لله وإنا إليه راجعون ثم أطرق إلى الأرض فقالوا لبعض مشايخ أهل حلب‏:‏ كلم لنا الأمير في الصلح قالت فكلمه‏.‏
فقال أبو عبيدة بضجر‏:‏ لا صلح لكم عندنا قال فخاف الشيوخ على أنفسهم وقالوا‏:‏ إنا قد اجتمع عندنا من القرى والرساتيق خلق كثير فإن صالحتمونا عمرنا لكم الأرض وكنا لكم عونًا على عمارتها وعشنا في ظلكم أيام عدلكم وإن أنتم أبيتم ذلك فر الناس عنكم وطلبوا أقصى البلاد وشاع الخبر عنكم أنكم لا تصالحون فلا يبقى حولكم أحد‏.‏
قال فأعلمه الترجمان بما قالوا فجعل ينظر إليهم وإذا قد برز من القوم وصاح رجل أحمر الوجه وكان من حكماء الروم فصيحًا بلسان عربي‏.‏
فقال‏:‏ أيها الأمير اسمع ما ألقيه إليك من العلم الذي أنزل الله في الصحف على الأنبياء‏.‏
قال أبو عبيدة‏:‏ قل لنسمع فإن كان حقًا علمناه وإن كان غير حق لا نسمعه ولا نعمل به وكان اسمه دحداح‏.‏
فقال‏:‏ أيها الأمير إن الله سبحانه وتعالى أنزل على أنبيائه يقول‏:‏ أنا الرب الرحيم خلقت الرحمة وأسكنتها في قلوب المؤمنين وإني لا أرحم من لا يرحم من أحسن أحسنت إليه ومن تجاوز تجاوزت عنه ومن عفا عفوت عنه ومن طلبني وجدني ومن أغاث ملهوفًا أمنته يوم القيامة وبسطت له في رزقه وباركت له في عمره وأكثرت له أهله ونصرته على عدوه ومن شكر المحسن على إحسانه فقد شكرني وإنا قد أتيناك ملهوفين خائفين فأقل عثراتنا وآمن روعاتنا وأحسن إلينا‏.‏
قال‏:‏ فبكى أبو عبيدة من قوله وقرأ‏:‏ ‏{‏إن الله يحب المحسنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ ثم قال‏:‏ اللهم صل على محمد وعلى جميع الأنبياء فبهذا والله أرسل نبينا أرسله الله إلى جميع الخلق والحمد لله على هدايته لنا ثم أقبل على المسلمين وهم حوله وفيهم الرؤساء من المهاجرين والأنصار وقال لهم‏:‏ الحمد لله على هدايته ثم قال‏:‏ إن هؤلاء أهل متجر وسوقة وضياع وهم مستضعفون وقد رأينا أن نحسن إليهم ونصالحهم ونطيب قلوبهم ومتى كانت المدينة في أيدينا والسوقة معنا فإنهم يميروننا بالعلوفة ويعلموننا بما يعزم عليه عدونا ويكونون عونًا لنا عليه‏.‏
فقال رجل من المسلمين‏:‏ أصلح الله الأمير إن مدينة القوم لقرب من القلعة ولا نأمن أن القوم يدلون على عوراتنا ويخبرون بأحوالنا وما أتى القوم ليخدعونا ألا ترى إلى بطريقهم وقد خرج يبغي قتالنا وحربنا فكيف يطلب هؤلاء الصلح منا‏.‏
ولا شك أنهم مكروا بكعب بن ضمرة ومن معه من المسلمين‏.‏
فقال أبو عبيدة‏:‏ أحسن ظنك بالله وثق بالله فإن الله ينصرنا ولا يسلط علينا عدونا فرحم الله من قال خيرًا أو صمت وإذا اشرط عليهم النصيحة في صلحهم للمسلمين ثم أقبل على القوم وقال‏:‏ إني أريد أن تبذلوا في صلحكم ما بذله أهل قنسرين‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الأمير إن قنسرين أقدم من مدينتنا وأكثر جمعًا ومدينتنا خالية من السكان لجور صاحبنا لأنه قد أخذ أموالنا وغلاتنا وأصعد الكل إلى قلعته وما بقي عندنا إلا الضعفاء ومن لا مال له وإنا نسألك الترفق بنا والعدل فينا والإحسان إلينا‏.‏
وقال أبو عبيدة‏:‏ فما الذي تريدون أن تبذلوا في صلحكم‏.‏
قالوا‏:‏ نعطي نصف ما أعطى أهل قنسرين فقال أبو عبيدة‏:‏ قد قبلت منكم ذلك على أننا إذا نزلنا بصاحبكم أعنتمونا بالميرة والعلوفة وتبيعون وتشترون في عسكرنا ولا تكتموا عنا خبرًا تكونون تعلمونه من أعدائنا ولا تتركوا جاسوسًا يتجسس علينا وإن رجع إليكم بطريقكم منهزمًا تمنعوه أن يصل إلى القلعة‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الأمير أما قولك هذا أن نمنع البطريق أن لا يصعد إلى القلعة فما نجد إلى ذلك من سبيل ولا نقول لك ما لا نفعله ما لنا به طاقة ولا بمن معه من أعوانه وجنوده‏.‏
قال أبو عبيدة‏:‏ فلا تمنعوه من الصعود إلى القلعة وعليكم عهد الله وميثاقه والإيمان المؤكدة الغليظة أن لا تقولوا هذا القول وأن توفوا لنا كل شرط تم عليكم ثم حلفهم بالإيمان التي يعرفونها فحلف القوم عن آخرهم وصالحوا عن رجالهم ودوابهم وأبنائهم ونسائهم وعبيدهم وسائر أهاليهم وانتهوا على ذلك‏.‏
فقال أبو عبيدة‏:‏ إنكم قد حلفتم وقد قبل قولكم وأيمانكم فإن أصبنا أحدًا قد أخلف أو علم من البطريق علمًا ولم يعلمنا به فقد وجب عليه القتل وأخذ ماله وولده حلال لنا لا يطلبنا الله بذمته ومتى نقضتم ما شرطنا عليكما فلا عهد لكم عندنا ولا ذمة لكم علينا ولنا عليكم الجزية في العام المتقبل‏.‏
قال سعيد بن عامر التنوفي فرضي أهل حلب بما شرطه عليهم أبو عبيدة وأخذوا عهدهم وكتب أسماءهم وعزم القوم على الانصراف إلى ديارهم وقال لهم أبو عبيدة‏:‏ على رسلكم حتى أبعث معكم من يسير معكم إلى مأمنكم فقد وجب علينا حفظكم إلى أن تعودوا سالمين إلى بلدكم‏.‏
فقال له الدحداح‏:‏ أيها الأمير‏:‏ إننا نرجع من الطريق الذي جئنا منه وما نريد أحدًا يسير معنا فتركهم أبو عبيدة وبات بقية ليلته قلقًا على كعب بن ضمرة ومن معه‏.‏
قال الواقدي‏:‏ ورجع القوم من ليلتهم إلى حلب وانفجر الصبح ولم يصلوا فلما أشرفوا على حلب نظر إليهم بعض أعلاج البطريق وهم راجعون فأقبل إليهم وكأنهم‏:‏ من أين أقبلتم‏.‏
وما صنعتم فظنوا أنه من أهل حلب فأخبروه بصلحهما مع أبي عبيدة فتركهما ومضى وأن القوم استقبلهم أهل حلب فسألهم فأخبروهم بالصلح ففرحوا بذلك وأقبل العلج حتى أشرف على عسكر يوقنا وهو نازل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحاط بهم وهو يظن أنه قد ملكهم وهو يتوقع الصباح إذا أتى عليه العلج‏.‏
فقال له‏:‏ أيها البطريق إنك غافل عما نزل بك ودهمك‏.‏
قال له‏:‏ وما ذاك يا ويلك قال له‏:‏ إن أهل بلدك قد صالحوا العرب وكأنك بهم وقد ملكوا القلعة وأخذوا الأموال والنسوان فلما سمع يوقنا ما أخبر به العلج خشي على قلعته أن يملكوها في غيبته فانعكس عليه ما كان يؤمل أن يفوز به من الظفر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكان قد قتل من المسلمين نيف عن المائتين وكعب قد أجهد نفسه في الحرب وأيقنوا أنهم هالكون لا محالة‏.‏
قال كعب بن ضمرة‏:‏ وكنت ذلك اليوم صاحب القوم وأنا أثبتهم في الحرب وإلى الحرب أنهضم بهمتي وأدفع عنهم بمهجتي فإذا أجحفني القتال وركبني الحرب التجأت إلى أصحابي وأنا مع ذلك أتوقع فرجًا من الله تعالى وأترقب راية أبي عبيدة أن تطلع فبعد علينا ذلك ولم تزل الحرب بيننا يومًا وليلة إلى الصباح من اليوم الثاني فأقسم بالله إن كان أحدنا ليصلي ولا حصل له زاد يأكله ولا ماء يشربه وأنا بين اليأس والرجاء أترقب طريق قنسرين أن تطلع منه علينا راية الإسلام فما أرى لها أثرًا فرأيت عند الصباح جيش العدو وقد اضطرب من جوانبه وقد علت لهم ضجة عظيمة من جميع جوانبه فقلت‏:‏ ما هذا إلا مدد لحقهم من البلد أو من الملك فالتجأت إلى كلمة الشدائد وهي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏
قال كعب بن ضمرة‏:‏ فوعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت الكلمة حتى رأيت جيش العدو وقد انكشف عنا على عقبه فقلت‏:‏ الحمد لله حمد الشاكرين وإني أظن أن صائحًا صاح بهم من السماء فبددهم أو ملائكة نزلت عليهم كيوم بدر فلم أر لهم أثرًا‏.‏
قال كعب‏:‏ فهممت أن أتبعهم فصاح المسلمون إلى أين يا كعب أما كفاك ما نحن فيه أنزل بنا إلى الأرض وأرض بما نحن فيه من التعب والنصب ونؤدي فرضنا ونريح خيولنا فما رد الله هؤلاء القوم إلا بمشيئته وقدرته‏.‏
قال فنزل كعب وشربوا الماء وأسبغوا الوضوء وصلوا ما فاتهم وأكلوا زادهم واستقبلوا الراحة‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وأبطأ خبر كعب على أبي عبيدة فلما صلى الصبح انفتل من صلاته وأقبل على المسلمين وخاطب من بينهم خالدًا وقال‏:‏ يا أبا سليمان إن أخاك أبا عبيدة ما رقد الليلة غفا وإنه كان يجب علينا الشكر بما فتح الله علينا وأن نفسي تحدثني بأن ألفين مع كعب بن ضمرة قد قتلوا لما أخبرني هؤلاء الذين يسألون الصلح أن صاحبهم يوقنا قد سار إليهم ولم أر أثرًا وأظن أنه صادف أصحابنا وقتلهم وأفناهم عن آخرهم فقال خالد‏:‏ والله إني ما نمت مثلك من الغم عليهم فما الذي عزمت أن تصنع قال‏:‏ الرحيل ثم أمر الناس بالرحيل وارتحلوا وساروا يريدون حلب وعلى المقدمة خالد بن الوليد وعلى الساقة أبو عبيدة فما كان غير بعيد حتى أشرف على المسلمين خالد بن الوليد وهم نيام وقد أقاموا لهم من الديدبان من يحرسهم فلما أشرف عليهم خالد والراية في يده رفعها فوق رأسه فلما رآها الديدبان صاح‏:‏ النفير يا أنصار الدين فثاروا عن مضاجعهم كأنهم أسد ثائرة واستووا في متون خيولهم واستقبلوا صاحب الراية فعرفوه فصاح بعضهم ببعض‏:‏ هذه والله راية الإسلام والمسلمين فنزل خالد وسلم عليهم واتصلت بهم الساقة وأقبل أبو عبيدة فلما نظر كعب بن ضمرة حمد الله وأثنى عليه ونظر إلى موضع القتلى مطروحين وما كان من المسلمين ورأوهم فلما نظروا إلى ذلك عاد فرحهم ترحًا واسترجعوا وقالوا‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون وسأل كعبًا‏:‏ كيف قتل أصحابك هؤلاء ومن قتلهم‏.‏



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق