إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 2 يونيو 2014

316 تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها الجزء الثالث في تاريخ سيناء القديم والحديث الفصل الخامس في تاريخ دير طور سيناء القديم والحديث خبر الراهب أمونيوس عن الآباء القديسين الذين قتلهم البربر في طور سيناء وراية


316

تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها

الجزء الثالث في تاريخ سيناء القديم والحديث

الفصل الخامس في تاريخ دير طور سيناء القديم والحديث

خبر الراهب أمونيوس عن الآباء القديسين الذين قتلهم البربر في طور سيناء وراية

  " كنت جالسا يوما في قلايتي الصغيرة قرب الاسكندرية في الموضع المدعو قانوبوس فخطر لي أن أسافر إلى فلسطين : أولا لأني لم أعد أطيق رؤية المصائب والتعديات الواقعة كل يوم على المؤمنين من عداة الناموس المردة . وكان أبونا الزائد قدسه بطرس بطريركنا يفر متنكرا من مكان إلى مكان غير متمكن من أن يرعى رعيته الجليلة براحة ومجاهرة . وثانيا لأني اشتهيت أن أعاين الأماكن المقدسة وأسجد لقيامة ربنا يسوع المسيح الحببة الطاهرة وللأماكن المقدسة التي جال فيها مكملا أسراره الرهيبة . فمضيت إلى تلك الأماكن وسجدت لها وسررت بكل صنائع الله , ثم أحببت أن أشاهد الجبل الأقدس العلي " طور سيناء " فسرت في البرية وصادفت رفاقا محبين للمسيح ذاهبين إلى ذلك الجبل فوصلنا إليه بمعونة الله بعد ثمانية عشر يوما .فأقمت هناك أياما قليلة متمتعا بالآباء القديسين وكنت أزورهم في قلاليهم كل يوم قصد المنفعة لأنهم كانو يجلسون سكوتا كل الأسبوع إلى عشية السبت إذ كانوا يجتمعون كلهم في موضع واحد ويقيمون الصلوات الليلية وفي صباح الأحد يأخذون أسرار المسيح الطاهرة ويعود كل منهم إلى موضعة . وكانت سيرتهم     ص   479

ملائكية ووجوههم مصفرة وأجسامهم ذائبة من شدة النسك والحمية حتى كانوا كأنهم بلا أجسام لأنهم ما اقتنوا شيئا مما يتنعم الإنسان به لا خمرا ولا زيتا ولا خبزا إلا يسرا قليلا كانوا يقتانون به وبأطراف الشجر حفظا لأجسادهم . وكان رئيس المكان يحفظ عنده خبزات يسيرة لإضافة الغرباء الواردين إلى هناك للصلاة .

  فلما مضت علي هناك بضعة أيام إذ وقد بغتة جمهور من العرب . فقتلوا جميع من وجدوهم في المساكن التي حول الدير . ولما أحس الذين كانوا مقيمين بقرب البرج بالشغب والجلبة لجأوا إلى كنف الأب القديس ذولاس الرئيس الذي كان بالحقيقة عبد المسيح لأنه كانت ذا وداعة وطول أناة لم تكن لغيره حتى كان كثيرون يسمونه موسى الثاني . وبعد أن قتل العرب من وجدوه في المكان المسمة تتراقن . وفي حوريب وقيدار وغيرهما من الأماكن المجاورة للجبل المقدس وصلوا إلينا وقد كادوا يقتلوننا لولا لطف الله بنا فإن الله يمد يده إلى المستغيثينن به فقد أمر أن يظهر لهيب عظيم في أعلى الجبل وعاينا الجبل كله دخان والنار صاعدة إلى السماء فخفنا كلنا وانحلت قوانا من رهبة المنظر وخررنا على وجوهنا ساجدين للرب وتضرعنا إليه أن يفرجنا من هذه الشدة التي دهتنا . ولما عاين البربر ذلك المنظر المخيف ارتعدوا كلهم وركبوا جمالهم وفروا هاربين فشكرنا الله لأنه أراحنا منهم . ثم نزلنا من البرج وفتشنا المواضع التي قتل فيها الآباء فوجدنا ثمانية وثلاثين نفسا قتلى وجريحين وهما شعيا وسابا وكان من القتلى في تتراقن وحدها 12 نفسا وكلهم بحال تفتت الأكباد فمنهم من كان رأسه لا يزال معلقا بجسده يمسكه الجلد وآخر مقطوع من وسطه وآخر قد بترت يداه ورجلاه وانطرح كعود يابس . فدفنا القتلى بنوح عظيم واهتممنا بالجريحين . أما شعيا فإنه تزفي بعد ليلة واحدة . وأما سابا فقد كان يؤمل له الشفاء لأن الضربة التي أصابته لم تكن خطرة فجعل يشكر الله على الأشياء التي عرضت له . ولكنه استعظم الأمر لأنه لم يؤهل لمرافقة القديسين . وقائلا : " ويلي أنا الخاطي ويلي أنا غير المستحق لمصاف الآباء القديسين الذين قتلوا من أجل المسيح ويحي أنا المطروح عند الساعة الحادية عشرة الذي رأى ميناء الملك وما دخل إليه " . وقال " أيها      ص     480

الملك الضابط الكل يامن أرسل ابنه الوحيد لتخليص الجنس البشري أيها الصالح والمحب للبشر لا تفرقني من الآباء القديسين الذي سلفت وفاتهم وليتم بي عدد عبيدك الأربعين " قال هذا وأسلم الروح في اليوم الرابع من وفاة القديسين

  وفيما نحن نائحون والحزن ملء قلوبنا والدموع في عيوننا من أجل القديسين وافانا رجل اسماعيلي فقال إن النساك الساكنين في البرية الجوانية المسماة " راية " قتلهم السودان . والمكان المذكور على مسيرة يومين منا على شاطئ البحر الأحمر . وبعد أيام قليلة جاءنا ناسك نجا من الواقعة فرحب به الرئيس ذو لاس وسأله أن يحدثه عما جرى للآباء القديسين والفضائل التي اتصفوا بها وكيف كانت نجاته هو فقال : " أما أنا فقد سكنت في ذلك الموضع منذ عشرين سنة وأما الرهبان الآخرون فقد سكنوه منذ عهد بعيد البعض منذ أربعين سنة والبعض منذ خمسين سنة والبعض منذ ستين . والمكان سهل فسيح جدا يمتد إلى الجهة القبلية وعرضه من جهة الشرق اثنا عشر ميلا نحيط به الجبال كسور وهي وعرة جدا بتعذر سلوكها على من لا يعرفها . ويحده من جهة الغرب البحر الأحمر . وفوق هذا البحر جبل تخرج منه اثنتا عشرة عينا تسقي أكثر النخل . وعلى أقل من فرسخ منه آبار أخرى وشجر نخل ليس بقليل . في منحدر هذا الجبل كان مسكن كثيرين من المتوحدين يقيمون في المغاور والكهوف . ولم تكن كنيستهم على الجبل نفسه بل بقرب الجبل .

  وكانوا أناسا سماويين يشبهون الملائكة وقد اقتنوا سيرتهم بأتعابهم ونسكهم وزهدهم في هذا العالم متهاونين بأجسادهم كأنها غريبة عنهم . ولا يمكنني أن أصف جهادهم والمحن التي كانو يقاسونها كلها فأذكر سيرة اثنين منهم على سبيل المثال :

  " كان بينهم راهب اسمه موسى ترهب من صغره وسكن ذلك الموضع وكان أصله من فاران عاش هذا في السيرة الملائكية ثلاثا وسبعين سنة مقيما في الجبل في مغارة ليست بعيدة عن الكنيسة وكان ثاني ايليا النبي في سيرته لأن كل الطلبات التي كان يطلبها من الله كان يمنحه إياها وقد أعطاه سلطانا على الأرواح النجسة حتى أنه شفا كثيرين منها وطردها بصلاته من المصابين وقد شابه الرسل القديسين لأنه

ص   481

جعل أكثر الاسماعيليين القطنين في تخوم فاران مسيحيين فإن هؤلاء لما عاينوا تلك الآيات التي صنعها الله على يديه آمنوا بالرب وأقبلوا إلى الكنيسة الجامعة طالبين المعمودية المقدسة . وهذا البار منذ نسك في مغرته ما ذاق خبزا البتة لأن رجال الموضع كانوا يجلبون حنطة من مصر فوق ما كانوا يأكلونه من ثمر النخل . وأما هو فقد كان غذاؤه بسرا قليلا وشرابه من الماء الذي عنده ولباسه من الليف . وكان يحب الصمت جدا ويستقبل من يقصده بنشاط وله أجوبة مقنعة معزية وينام بعد الصلوات الليلية قليلا ثم يقضي ليله ساهرا . وفي صوم الأربعين المقدس كان يقفل فلايته ولا يفتحه إلا يوم الخميس الكبير . وما كان يدع عنده شيئا لغذائه كل تلك المدة سوى عشرين تمرة وقسط واحد من الماء . هذا ما حدثنا به التلميذ الذي كان يخدمه . وفي أحد هذه الأيام الأربعين المقدسة قدم إلى رجل يسمى افاديانوس فيه روح نجس جاءه مستشفيا فلما أصبح على نحو غلوة من قلاية الشيخ طرحه الروح النجس وصرخ صوتا عظيما قائلا يا للغضب أما أمكنني أن أصرف الشيخ عن " قانونه " . وإذ قال هذا خرج من الرجل وبرئ الرجل للحال فعاد إلى منزله معافى ممجدا الله . وقد آمن بالمسيح هو وكثيرون غيره . ثم أن هذا الولي تلمذ رجلا يسمى بسويس في نواحي الصعيد كان يسكن فوق قلايته وقد أقام معه ستا وأربعين سنة لم ينقص من قانونه شيئا بل كان مقتفيا أثره ومثاله . وكنت أنا قد أقمت معه عند أول وصولي إلى هناك ثم فارقته لأني لم أطق الصبر على نقشفه ونسكه .

  " وكان بين هؤلاء الرهبان راهب آخر اسمه يوسف إلياوي الجنس يعني من أهل أيلة يسكن في تلك البقعة على ميلين من الماء وقد بنى مسكنه بيده وكان رجلا بارا متمما لجميع وصايا المسيح وقد أقام في ذلك المكان أكثر من ثلثين سنة فقصده يوما أخ ليسأله عن أمر فقرع بابه فلم ينل جوابا فنظر إليه من المدخل فرآه كله من رأسه إلى قدمه قائما كلهيب نار فارتعد من هذا المنظر وخارت قواه فسقط على الأرض كميت وبقي على ذلك ساعة واحدة ثم نهض وجلس قدام الباب . أما الشيخ فلإشتغله بالمشهد الروحي لم يعلم ما جرى وبعد مضي ثلاث ساعات ظهر كعادته وفتح الباب    ص   482

وأدخل ذلك الأخ وأجلسه معه ثم سأله متى جاء فأجابه إني جئت منذ أربع ساعات لكني لم أقرع الباب لكي لا أزعجك . فعرف الشيخ أن الله قد عرفه بأموره . فأجابه عن جميع المسائل التي سأله إياها وصرفه سلام . ثم اختفى عن عيون الناس فلم يعد يظهر لهم لأنه خشي مجد الناس . وكان له تلميذ يدعى أبا جلاسيوس يسكن بالقرب منه فجاءه فلم يجده فأقام مكانه في قلايته مغموما . وبعد مضي ست سينين عند الساعة التاسعة قرع باب القلاية فخرج أبو جلاسيوس فإذا بمعلمه واقف عند الباب فدهش من رؤيته ولكنه لم يخف بل قال له صل أيها الأب وإذا صلى قبله القبلة المقدسة مسرورا . فقال له الأب ما أحسن ما فعلت يا ولدي إذ التمست الصلاة أولا لأن فخاخ العدو كثيرة فقال التلميذ أيها الأب الكريم ماذا رأيت في مفارقتك إياي وتركي يتيما مغموما لأجلك . فقال له أما السبب في أني لم أظهر فالله يعلمه . ومع ذلك فإني لم أبعد عن هذا المكان ولا مر يوم لم أتناول فيه أسرار المسيح المقدسة معكم كلكم . فتعجب ذلك التلميذ من معلمه كيف كان يدخل إلى الكنيسة مع الإخوة ولم يبصره أحد . ثم سأله لأي شئ جئت الآن إلى عبدك فأجابه إني اليوم أسافر إلى الرب وأخرج من هذا الجسد الشقي فجئت أتركه عندك لتدفنه كما تشاء وحدثه كثيرا عن اغلنفس والسعادة المقبلة ثم بسط يديه ورجليه ورقد بسلام . وجاء الأخ وأعلمنا بذلك فمضينا للحال بالسعف والترتيلات وحملنا جسده المقدس وكان وجهه مشرقا ووضعناه من الآباء السالف وقادهم . وأحدثكم الآن عن مجئ البربر وفعالهم :

  " كان الآباء القديسون المذكورون نامين بكل فضيلة راضين بالمسكنة وعدم القنية من أجل الرب مصابرين التعب والشقاء مشتغلين بالصلوات والطلبات عابدين المسيح الإله . وكان عددنا كلنا ثلاثة وأربعين ناسكا . وفيما نحن كذلك إذ جاءنا جماعة من الأماكن التي على البحر وقالوا إن طائفة كبيرة من البجاة قد عبروا اللجج على أطواف من خشب من جهة الحبشة وهن الآن محاصرون مركبا راسيا عند الشاطئ فيه ركاب من أهل أيلة يريدون المضي إلى القلزم " السويس " في البحر فأمسكوا المركب وقالوا لنا خذونا إلى القلزم فما نقتلكم فوعدناهم بذلك وتظاهرنا  أننا نترقب    ص  483

هبوب الريح القبلية حتى دخل الليل فقررنا منهم وجئنا نخبركم لتأخذوا حذركم لئلا يرسوا في هذا الموضع ويقتلوكم . وعددهم ثلاثمائة رجل . فلما سمعنا هذا احتطنا لأنفسنا وأقمنا حراسا عند البحر حتى إذا ما أبصروا المركب يخبروننا . وصلينا إلى الله إن يفعل بنا ما يوافق نفوسنا . وبعد ليلة واحدة شوهد المركب مقلعا ومقبلا نحونا . وكان الفارانيون الموجودون في ذلك المكان قد صمموا على محاربة البربر " البجاة " من أجل نسائهم وأولادهم وقطارات جمالهم فاصطفوا فوق النخيل وكان عددهم مئتين عدا النساء والأولاد . وأما نحن فقد هربنا إلى كنيستنا التي كان يحيط بها حجارة كبيرة ارتفاعها قامتان . ثم إن البربر بلغوا الميناء الذي أرشدهم إليه النوتية وأقاموا تلك الليلة في جانب الجبل من ناحية المغرب عند العيون فلما أصبحوا أوثقوا النوتية وتركوهم في ذلك الموضع وتركوا في المركب رجلا يحفظه ووضعوا واحدا منهم يرقبه لئلا يقلع به . ثم أقبلوا نحو العيون فالتقاهم الفارانيون للحرب . وانتشبت واقعة قرب العيون بين الجبال وكان رشق النشاب من الفريقين غزيرا كالمطر . ولما كان البربر أكثر عددا من الفارانيين ومرتاضين على القتال غلبوا الفارانيين وقتلوا منهم مئة وسبعة وأربعين رجلا وفر من بقي منهم إلى الجبال واختبأ بعضهم بين الشجر . وأسر البربر النساء والأولاد وجعلوهم عند العيون . ثم أقبلوا علينا عدوا كالوحوش الضارية الى الموضع المدعو " القصر " ظانين أنهم يجدون عندنا أموالا جزيلة مخبوءة فطافوا بالسور وجلبوا وصاحوا بأصوات بربرية فحصل لنا كآبة عظيمة وحرنا في ما نعمل فرفعنا عيوننا إلى الله وبكينا بقلب موجع وهتفنا كلنا بصوت واحد يارب ارحم . ثم نهض أبونا القديس بولس من أهل " بتراء " ووقف في وسط الكنيسة وقال : " أيها الآباء والأخوة اسمعوا مني أنا الخاطي الصغير فيكم أنتم تعلمون أننا من أجل سيدنا وربنا يسوع المسيح اجتمعنا في هذا المكان وإننا من أجل محبته فصلنا أنفسنا عن هذا العالم الباطل وقصدنا هذه البرية المقفرة متحملين الجوع والعطش ونهاية الفقر لنؤهل نحن الخطاة غير المستحقين أن نصير شركاؤه في ملكه . والآن فما يقع علينا شئ بغير علمه وهو لا يعرض عنا في هذه الساعة فإن   ص  484

شاء أن يعتقنا من هذه الحياة الباطلة الزائلة لنكون معه فسبيلنا أن نبتهج ونفرح ونشكره ولا نحزن البتة لأنه لا شئ أشهى وأحلى من معاينة وجهه المحبوب ومجده .

  اذكروا يا إخوتي كيف كنا نطوب القديسين ونشتهي أن نكون معهم فها أن مشتهانا قد تم وآن أن نكون معهم إلى الأبد . فلا تحزنوا ولا تجبنوا ولا تأتوا أمرا يشينكم بل اشطوا وصابروا الموت فيقبلكم الله في ملكه بفرح ومحبة " . فأجابوا كلهم قائلين : " أيها الأب الكريم كما قلت لنا نصنع لأنه بماذا نكافئ الرب عن كل ما صنع لنا نأخذ كأس الخلاص ونستغيث باسم الرب " . ثم دار أبونا وجهه إلى الشرق ورفع يديه إلى السماء وقال " أيها الرب يسوع المسيح إلهنا القابض الكل رجاؤنا ومعونتنا لا تنس عبيدك لكن أذكر مسكنتنا وأيدنا في ساعة الشدة هذه واقبل أرواحنا ذبيحة مرضية نسيما طيبا فإنه بك يليق الاكرام والمجد الآن وإلى الدهر . وإذ قلنا آمين خرج صوت من المذبح سمعناه كلنا يقول " تعالوا إلى أيها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم " . فأحاط بنا الخوف والجزع عند سماع ذلك الصوت وانحلت قوانا لأنه كما قال الرب " الروح نشيط ولكن الجسد ضعيف "

  أما البربر فإذ لم يكن أحد يقاومهم أحضروا أخشابا طويلة وصعدوا بها إلى داخل السور وفتحوا الباب ودخلوا إلينا كذئاب برية وسيوفهم مجردة بأيديهم فصادفوا أولا راهبا اسمه أرميا كان جالسا على باب الكنيسة فسألوه , وكان أحد النوتية يترجم لهم " أين رئيسكم " . فقال بكل شهامة أنا لا أخاف منكم ولا أدلكم على من تطلبون لأنكم أعداء الله . فاغتاظ البربر من جرأة ذلك الراهب واحتقاره لهم وربطوا يديه ورجليه وأقاموه مجردا ورشقوه بالنشاب حتى أنه لم يبق في جسمه موضع إلا أصابته سهامهم فلما رأى أبونا بولس هذه الأمور تقدم إليهم وقال أنا هو الذي تطلبونه مشيرا بأصبعه إلى نفسه فقبضوا عليه وسألوه " أين أموالك فأجابهم بكلام لين ووداعة كجاري عادته صدقوني يا أولادي أني لم أقتن في عمري كله سوى هذين الثوبين الشعريين العتيقين اللذين تعاينونهما على جسدي فشرعوا يضربون عنقه بحجارة ويخزون وجهه بمزاريقهم قائلين له هات أموالك . وبعد أن عذبوه   ص   485

ساعة واستهزأوا به ولم يجدهم ذلك نفعا ضربوه بالسيف على رأسه فانشق ذلك الرأس المقدس فلقتين وتدلى على كتفيه من الجانبين وطعنوه طعنات أخرى في بدنه وهو طريح عند رجلي الأب الذي قتل قبله  

  أما أنا الشقي فإني لما رأيت هذه الأهوال ورأيت دماء القديسين منسكبة وأمعائهم مطروحة على الأرض استولى علي الخوف والجزع والتمست موضعا أهرب إليه لأنجو من القتل . وكان في زاوية البيت سعف نخل قليل وكان البربر مشتغلين ببولس الريس خارج البيت فاختبأت تحت سعف النخل على أن يصير أحد أمرين إما أن لا يلحظني البربر فأنجو وإما أن يعثروا بي فلا أصبر على أكثر مما كنت أصبر عليه لو لم أختبئ . ثم إن البربر بعد قتل الراهبين خارج الكنيسة دخلوا إلى الكنيسة وهن يصيحون ضاربين الهواء بسيوفهم ثم أعملوها في الرهبان بصور تقشعر منها الأبدان " .

  كان الرهب يحدثنا بهذه الأمور وهو يبكي بكاء مرا وقد حركنا نحن أيضا إلى البكاء . ثم قال كيف أصف الأهوال التي رأتها عيناء : كان بين الرهبان فتى حسن الوجه قد ترهب وسنه خمس عشرة سنة فلما أبصره البربر أرادوا أن يستبقوه عبدا لهم فاجتذبه أحدهم إلى خارج الكنيسة بيده فلما رأى الأخ أنه لم يؤهل للموت مع الأخوة وأنه يستعبد لقوم جفاة متوحشين بكى وولول ثم رأى أنه لم ينتفع بالبكاء فبشدد واستبسل واختطف سيفا من أحد البربر وضرب به كتفه وقد قصد بذلك أن يستفزهم لقتله لكن كما أراد فإنهم انقضوا عليه بسيوفهم وقطعوه إربا .

  ثم إن البربر لما قتلوا جميع الرهبان فتشوا كل مكان في الكنيسة ظانين أنهم يجدون أمتعة وأموالا ولم يعلم هؤلاء الذين لا إله لهم أن الشهداء لم يكن لهم شئ على الأرض بل كانت قنيتهم كلها في السماء . وكان البربر لما شرعوا في التفتيش انقطع قلبي من الخوف لأني قلت لا بد أن يفتشوا سعف النخل الذي اختبأت به فيقتلونني شر قتلة وكنت أتضرع إلى الله أن يعمي قلوبهم عني فجاؤا إلي ونظروا إلى الحوض فاحتقروه وانصرفوا عنه ثم عادوا إلى العيون وفي عزمهم أن يتموا طريقهم إلى القلزم . فلما ذهبوا إلى الشاطئ وجدوا المركب مكسرا لأن الرجل الذي أقاموه على حراسته  .    ص   486

كان مسيحيا فقتل البربري الذي ترك معه وقطع حبال المركب وفر هاربا إلى الجبال وقد قذفت الأمواج بالمركب إلى الصخور فحطمته فاغتاظ البربر وحاروا فيما يعملونه لأنه لم يعد لهم سبيل للعودة إلى بلادهم ومن ذدة غيظهم بدأوا بقتل الذين استبقوهم من النساء والأولاد وكانوا كثارا ثم أوقدوا نارا عظيمة وشرعوا في حرق النخيل بلا رحمة . وبينما هم مشتغلون بهذا إذا بست مئة رجل من الإسماعيليين أهل فاران كلهم مسيحيون ورماة بالقوس والنشاب قد أقبلوا مهاجمين فلما شعر البربر بهم استعدوا للحرب وانتشبت بينهم حرب عند شروق الشمس في بسيط من الأرض وتراموا بالنشاب مدة طويلة . وأما البربر فإذ لم يكن لهم سبيل إلى الفرار حاربوا مستقتلين إلى الساعة التاسعة من النهار وقد قتلوا من أهل فاران في ذلك اليوم 74 رجلا وجرحوا كثيرين . ولكن الفارانيين غلبوهم بكثرة العدد وظلوا يقاتلونهم حتى قتلوهم عن آخرهم .

  هذا ولما كان البربر مشتغلين بالحرب مع أهل فاران حصلت لي جرأة يسيرة فخرجت من مخبإي وتفقدت أجساد القديسين فوجدتهم كلهم قد قضوا نحبهم إلا ثلاثة منهم وهم دمنس واندراوس وأوريانس . أما دمنس فإنه كان طريح يتألم من جراحه لأنه كان في جنبه ضربة قتالة . وأما اندراوس فقد كانت فيه جراحات ليست بالغة فشفي منها . وأما أوريانس فإنه لم يمس بسوء لأن بربريا ضربه بالسيف فوقعت ضربته في ثوبه الشعري فمزقت ثوبه ولم تمس جسده فظن البربري أنه قتله فتركه وطرح أوريانس نفسه بين جثث الشهداء متظاهرا بالموت . هذا قام معي فتفقدنا أجساد القديسين ونحن ننتحب ونبكي من هذه الأهوال .

  ثم أن أهل فاران بعد أن قتلوا البربر تركوا جثثهم على شاطئ البحر مأكلا للوحوش وطير السماء وجمعوا أجساد أهلهم المقتولين في هذه الوقعة والتي قبلها وأقاموا عليهم مناحة عظيمة ودفنوهم في مغاور في سفح الجبل بقرب العيون ثم جاؤا إلينا مع رئيسهم أفاذيانوس وساعدوا في دفن أجساد القديسين . وكان البربر قد مثلوا بهم تمثيلا فكان أحدهم قد أصابته ضربة قطعته من كتفه إلى صرته وآخرلا قد شطر شطرين وآخر قد قطعت الضربة رأسه إلى عنقه وآخر نصف أمعائه في جوفه والنصف

ص   487

الآخر متدل إلى الأرض ... ولما جمعنا أجسادهم كلهم جاء أفاذيانوس وباقي رؤساء فاران وقدموا ثيابا بيضاء وأكفانا ثمينة وكفنوا أجساد القديسين وكان عددهم تسعة وثلاثين لأن دمنس الرومي لم يكن قد توفي بعد . وحمل جميع الحضور سعف النخل وجاؤا لإستقبال القديسين فحملوا أجسادهم المقدسة بقراءات وفرح عظيم . ودفناهم كلهم في مكان واحد شرقي القصر . اما دمنس فإنه أسلم الروح عند

 المساء فحملناه ودفناه في موضع منفرد لأننا لم نشأ أن نفتح القبر لندفنه معهم . وكان قتل هؤلاء الشهداء في الرابع عشر من شهر كانون الثاني في الساعة التاسعة من النهار . وأما أندراوس وأوريانس فإنهما أقاما هناك ورأيهما منقسم في الإقامة في ذلك الموضع أو الإنصراف عنه , وأما أنا فلما كنت لم أطق الصبر على البققاء في ذلك الموضع بعد خرابه على تلك الصورة جئت إليكم . وقد تملقني المحب لله أفاذيانوس كثيرا لأبقى هناك ووعد بأن يتعهدنا دائما ويخدمنا بنشاط فلم أذعن له للأسباب التي تقدمت " اه . ثم سألنا الناسك أن نحدثه بما جرى لنا فحدثناه وكان عدد المقتولين هنا وهناك متساويا فصار البكاء والنحيب على الفريقين . ثم قام الأب ذولاس الرئيس وقال : "اما أولئك الإخوان فقد أهلوا للفرح العظيم والملك الدائم بعد تلك الجهادات والأحزان ولبسوا تاج الشهداء . فلنهتم نحن الآن بأنفسنا ونتضرع إليهم أن يتشفعوا بنا إلى الرب ليكون لنا حظ معهم ونخدم الله بكل قوانا ونشكره لأنه نجانا من أيدي الأشرار "

  وأما أنا الخاطئ أمونيوس فقد عدت إلى مصر وسطرت هذه الأخبار كلها في كتاب وما سكنت الموضع القديم المدعو قانوبوس بل سكنت بقرب منف في مسكن جميل بقيت فيه باكيا ذاكرا للصديقين شهداء المسيح وآلامهم ممجدا الإله الضابط الكل مع الابن الوحيد والروح القدس . الآن وإلى أبد الدهور آمين "

  هذه الأخبار وجدتها أنا يوحنا الراهب بتوفيق الله عند راهب متوحد مكتوبة باللغة القبطية وكنت أجيد هذه اللغة فنقلتها إلى اليونانية لمجد الله ومذبح الشهداء القديسين . وكانت شهادة هؤلاء الأبرار القديسين في عهد ديوقلتيانوس الملك الكافر فصلواتهم تحفظنا أجمعين آمين .   ص   488

  هذه هي رواية أمونيوس الراهب عن غزوة البجاة والعرب لرهبان سيناء في ِأِواخر القرن الرابع كما وصلت إلينا , وأما قول المترجم اليوناني أن ذلك كان في عهد الامبراطور ذيوقلنيانوس " 248 : 313 م " ولكن زيارة أمونيوس لسيناء كانت على الأرجح في عهد بطرس الثاني " 373 : 380 م " لأن روايته تنبئ أن رهبان طور سيناء لما هاجمهم العرب لجأوا إلى برج كان لهم هناك قرب مكان العليقة وهذا البرج في المشهور هو من بناء القديسة هيلانة أم قسطنطين الكبير " 323 : 337 م " كما مر أي بعد عهد ديوقلتيانوس وبطرس الأول بسنين . وفوق ذلك فقد رأيت أن أمونيوس حج إلى القدس ثم ذهب منها مع جماعة من الحجاج إلى طور سيناء . والمشهور أن طرق الحجاج إلنصارى لم تؤمن إلا في عهد قسطنطين الكبير الذي اعتنق النصرانية ونصرها وأمن طرقها . بل المشهور أنه لم تكن لليصارى عادة الزيارة إلى القدس وطور سيناء إلا بعد أن زارت أم قسطنطين القدس باحتفال ملكي عظيم وبنت فيها كنيسة القيامة سنة 336 م وأمرت ببناء برجين وكنيسة العليقة عند طور سيناء فأصبح الحج إلى القدس وسيناء عادة للنصارى إلى هذا العهد والله أعلم .

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق