73
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
وأما قوله: {آتاني الكتاب} فمعناه أعلمكم الأحكام وأعرفكم الحلال والحرام وأما قوله: {وأوصاني بالصلاة والزكاة} فمعناه أني مأمور بالطاعة والخدمة والزكاة مثلكم فإن في مالي حقًا لله وأما قوله: {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت} فيعلمهم أنه يموت ومن يموت لا يكون له العزة والجبروت وأما قوله: {ويوم أبعث حيًا} فيعلمهم أنه وإياهم مبعوثون في يوم القيامة وقوف يوم الحشر والندامة ولو كانا إلهين لهما لهما إرادتان ووقع الخلف بينهما وأن الحكمة غير ذلك وهي على وحدانيته شاهدة.
قال فلما سمع أبو ثوب من يزيد بن عامر هذا المقال قال: لقد مثلتم بالأباطيل وغرقتم في بحر الأضاليل.
فقال يزيد: الله أعلم من هو تائه في تيه المحال مشرك بالملك المتعال الذي لا سماء تظله ولا أرض تقله ولا ليل يؤويه ولا نهار يأتيه ولا ضياء يظهره ولا ظلام يستره ولا يقهره سلطان ولا يغيره زمان كل يوم هو في شأن أما لكم بصائر أما منكم من ينظر ويعتبر في قدرة الله القادر.
أما منكم من يعظ نفسه بذهاب النهار وإقبال الليل.
أما آن لكم أن تنزهوه.
أما آن لكم أن توحدوه أما سمعتم ممن تعبدونه وتبرؤون إليه وتعظمون.
فإن المسيح قد أقر له بالعبودية وتبرأ من دعوى الربوبية وقال: إني عبد الله ولقد بشر بنبينا قبل مبعثه وعرف بني إسرائيل بقربه من الحق وكرامته أما سمعتم بمعجزاته وما ظهر من دلالاته.
أما انشق له القمر.
أما كلمه الضب والحجر.
أما خاطبه البعير والشجر.
أما هو من أطيب بيت من مضر.
قال: فعجز أبو ثوب عن رد الجواب ولم يكن له ما يزيل حجته إلا أن قال ليزيد بن عامر: لقد علمنا ما فعل ولكنه كان ساحرًا وإن كان قولك هذا حقًا فادع الله وتوسل إليه بمحمد أن يسقينا الغيث فإن جاء الغيث علمنا أن قولك ليس في شك ونؤمن بالله ونصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال يزيد بن عامر: إن الله يقدر على ما ذكرت فإن الله على كل شيء قدير إن العبد المخلص إذا دعاه أجاب دعوته ولكنه يفعل ما يشاء وأنا أتوسل إلى الله بخير خلقه وصفيه وهو الفعال لما يريد ثم إن يزيد قام وخرج من مجلس أبي ثوب.
فقال له: إلى أين قال: أدعو الذي لو شاء أنزل عليكم رجزا من السماء ثم قرأ {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} [الروم: 9].
قال: حدثنا عاصم عن رويم عن ابن جبير قال: إنما طلب أبو ثوب الغيث واقتصر عليه لأنه كانت له مزرعة بالبعد من النيل ولا يقدر أن يسقيها ولا يصل إليها ماء وكانت قد أشرفت على الهلاك واليبس وكانت منه ببال وكان قد غرس فيها من جميع الثمار والأشجار وصنع لها مصانع تمتلئ بماء المطر فيسقيها وقت الحاجة إليها وكان المطر قد أمسك عنها والمصانع نشفت فلما خرج يزيد إلى البحر توضأ وصلى ركعتين ثم رفع رأسه نحو السماء وقال: اللهم إنك قد أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة فقلت وأنت أصدق القائلين: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186]. وقد دعوت كما أمرت فاستجب كما وعدت يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدًا ولا يحصيه غيرك.
قال ابن جبير: لقد بلغني ممن أثق به أن يزيد بن عامر ما برح يدعو حتى ارتفع السحاب من الجو ووقف وقفة الخاضع ورفع جناح السائل المتواضع وارتفعت سحابة وتألقت والرعد يصول حولها صولة الغاضب وهو لها بصوت البرق يزجر بصلصلة وقعقعة وهرير وهو على ذلك سيره ومسيره وقد أحاطت بالسحابة ملائكة الرحمة متمنطقة بنطاق الخدمة يسوقونها من خزائن رحمته ويجذبونها بأزمة القهر إلى ملك أبديته وهو واضع أجنحة عبوديته موسوم بوسم {ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} [الرعد: 13]. والركام يسري ويسرع إسراع الوجل يسبح من يسجد لجلاله {فترى الودق يخرج من خلاله} [النور: 43]. فإذا هي أشرقت وتكاملت بالماء ووسقت والبروق من أركانها قد انشقت وهبت عليها رياح فذرته من مواضع خزائن رحمته {وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته} [الأعراف: 57]. فعندها تفتح مغاليق أبوابها وترفع ستر حجابها فهمت بدموع أشجانها على أيدي خزانها فتستبشر الأرض عند ورودها وتنتظم عقود الزهر عند ورودها في جيد وجودها وتخرج كنوز ذخائرها {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} [الروم: 50].
قال: ونزل المطر يسكب بقية يومهم وليلتهم فلما كان من الغد حضر يزيد بن عامر مجلس أبي ثوب وقال له: كيف رأيت صنع الله الصانع المتكفل بأرزاق العبيد.
قال: فضحك أبو ثوب وقال: إن سحركم لعظيم وإن مكركم لجسيم وإن سحركم يفعل أكثر من هذا.
فقال: إنما ذلك رحمة من الله قد أبر من أقسم باسمه عليه فلما رأى نزول المطر وظهرت بركات صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على سبيل المكر: الآن تحققت أن دينكم الحق وقولكم الصدق وأنا مؤمن بالله ومصدق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف أعرض دين الإسلام على أهل جزيرتي وأصحابي وأهلي وأبني المساجد وآمر بالمعروف وأنهي عن المنكر.
فقال يزيد: إن أنت فعلت ذلك رشدت وإن نافقت فإن ربك لبالمرصاد ثم خرج منه عنده هو ومن كان معه شطا وغلمانه ومضوا إلى دمياط إلى البامرك وحدثوا بما كان من أبي ثوب.
فقال: والله لقد خدعكم بخديعته ورماكم بسهم مكيدته.
فقال يزيد بن عامر: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران 54] فما لبثوا أيامًا قلائل حتى وصل الخبر أن أبا ثوب جمع من سائر الجزائر وهو قادم عليهم فلما سمع البامرك بذلك قال ليزيد بن عامر: ما الذي ترى من الرأي في أمر هذا العدو فقال يزيد: نستعين بالله ونتوكل على الله ومن قاتلنا قاتلناه.
قال ابن إسحق: وإن البامرك أرسل ولده شطا إلى البرلس ودميرة وطناح ومن تحت يده يطلبهم فجاؤوا من كل جهة وكتب يزيد بلى عمرو بن العاص يعلمه أن أبا ثوب قد جمع الجموع فلما وصل إليه الكتاب أرسل إليهم هلال بن أوس بن صفوان بن ربيعة أحد بني لؤي ومعه ألف فارس وأمره بالمسير إلى دمياط وذلك في العشر الأول من شعبان سنة عشرين من الهجرة وإن لعمر بن الخطاب في الخلافة أربعة سنين ونصف وأما ما كان من أبي ثوب فإنه لما نفر إليه العساكر أخرجهم بظاهر تنيس فكانوا عشرين ألفًا من الرجال ومن الخيل خمسمائة فارس من القبط ومتنصرة العرب وعداهم في المراكب وأتوا نحو دمياط فخرج شطا! بن البامرك فقتل رجالًا وجندل أبطالًا وأنه اشترى الجنة من الله بنفسه ولم يزل يقاتلهم بقية يومه لم إنه عاد من قتال اللئام إلى الصلاة والصيام ولم يزل على قدم الخوف والوجل وهو منكس الرأس من الخجل من الله تعالى عز وجل فلما مضى أكثر الليل وطلع نجم سهيل اضطجع فلما كان وقت الغلس وقرب الصبح وتنفس استيقظ شطا وهو باكي العين فقال له أبوه: يا بني ما الذي أبكاك فقال: رأيت شيئًا في منامي أبصرته وسمعت منه كلامًا وعاينته وحفظته وحررته والدنيا هي طالق وإني بعون ربي واثق ولا شك أني لك مفارق.
فقال أبوه أعوذ بالله يا بني ما هذا الكلام.
ولعل ذلك أضغاث أحلام.
قال: لا والله ما هي أضغاث أحلام لكنه أمر من الملك العلام الذي أجرى الأقلام وخلق الضياء والظلام وبعث سيد الأنام بشرائع الإسلام وإني رأيت في منامي كأن أبواب السماء قد فتحت وأنوار الهداية قد سطعت ولمعت ثم تفتحت أبواب السماء الثانية ثم رأيت ملائكتها سجودًا على جباههم لا يقومون وركعًا لا ينتصبون وقيامًا من هيبة ربهم لا يقعدون وباكين لا تجف لهم دموع ثم كذلك رأيت سماء بعد سماء إلى السماء السابعة ثم رأيت قبة من زمرد أخضر وفيها قناديل من الجوهر وهي تسرج من الأنوار وتوقد من غير نار وفيها أربعون حواء عليهن حلل ما رأيت قط مثلها ولا أبصرت شكلها بوجوه تفتن الإنس وفي أرجلهن نعال الياقوت الأحمر يطأن بها على النمارق والزرابي فصاحت بي إحداهن وهي كبيرتهن وقالت: يا مفتونًا بدار الدنيا أما آن لك أن تذكرنا فقد خلقنا الله لك منذ خلقك وجعل مهرنا منك الجهاد في مرضاة رب العباد وقد ألفت الجفاء وما هكذا صنع أهل الوفاء انظر إلى ما أعد لك وللشهداء قال فنظرت وإذا بقباب معلقة حيث لا يدرك لها نهاية بعدد النجوم وقطرات الغيوم وقد نفد الميقات وانقضت الساعات والأوقات فتيقظ في المنام وارحل إلى دار السلام وقالت: في كل قبة مثل ما رأيت فقلت: ما هذه القباب فقالت: هذه قباب قوام الليل والشهداء يأوون إليها في جنة المأوى ثم إنها جعلت تقول: أنت يا مفتون دوما في الدنا ثم المنام فدع النوم وبادر مثل فعل المستهام وابك بالوحد دوامًا بدموع وانسجام أيها اللائم دعني لست أصغي للملام في عروس قد تبدت فاقت البدر التمام طرفها يرشق باللظ مصيبًا كالسهام ولها صدغ منير مثل نون تحت لام أحسن الأتراب قدا في اعتمال وقوام مهرها إن قام ليلًا وهو باك في الظلام يا عمادي ورجائي ومنائي والمرام فاستمع مني قولي ثم فكر في النظام وغدًا بادر لحرب وإلى ضرب السهام مسرعًا تأتي إلينا بعد ترحال الظلام فقال أبوه: اعلم يا ولدي أن من المنام ما يصدق وما يكذب فلا تشغل نفسك بما رأيت.
فقال: لا والله يا أباه ما بقي لي في الدنيا طمع ولم يزل باقي ليلته يبكي ويتضرع ويقوم على أقدام الخشوع ويخضع وأجفانه بالدوام تدمع إلى أن أصبح الصباح وأشرق بحيائه ولاح فودع شطا أباه دع عنك العتاب فقد قرب لقاء الأحباب فعندها قامت على أبيه المواسم وانهل الدمع الساجم ودنا الفراق وقامت الأشواق وجرى دمع كل عين وأقبل البامرك يودع ولده ويقول: يا بني إن صح منامك وضربت في دار السلام خيامك فاذكرنا بحسن طريقة الوفا وأقرئ سلامي على النبي المصطفى فبرز شطا إلى الحرب ودعا للبراز فخرج إليه واحد فقتله وثان وثالث حتى قتل اثني عشر فارسًا.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق