53
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قتل البطريق قيدمون
على يد طلحة ونجا شرحبيل مما كان قد لحقه ورجع إلى عمرو وكان المطر شديدًا فقطع الناس القتال ولحق الناس الأذى لأن أكثرهم بلا أخبية ولا بيوت والتجؤوا إلى الجابية وتستروا بدورها وكان من رحمة الله بالمسلمين أن وقع في قلب فلسطين الفزع والرعب لما قتل قيدمون البطريق وكان ركنه ودعامته فشاور أصحابه في الرجوع إلى قيسارية وقال: يا معاشر الروم أنتم تعلمون أن جيوش اليرموك ما ثبتت لهؤلاء العرب وإن أبي قد ولى إلى القسطنطينية من خوفهم وقد ملكوا الشام جميعه وما بقي غير هذا الساحل وإني أخاف أن ندهي من قبلهم ويملكوا قيسارية والرحيل أوفق من المقام ههنا فأجابوه إلى ذلك فلما كان الليل ارتحل القوم والمطر ينزل.
قال سعيد بن جابر الأوسي: وكان ذلك كله رحمة للمسلمين من الله عز وجل.
قال: فلما كان في اليوم الرابع ارتفع المطر وطلعت الشمس فخرجنا من الجابية نطلب قتال الروم فلم نر لهم أثرًا فوالله لقد فرحنا بطلوع الشمس أكثر من فرحنا برحيل الروم فكتب عمرو بذلك إلى أبي عبيدة كتابًا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص السهمي إلى أمير جيوش المسلمين أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فيا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فلسطين بن هرقل قد أخرج إلى لقائنا ثمانين ألفًا من الروم وكان لقاؤنا معهم على موضع يقال له نخل وأخذ شرحبيل بن حسنة وكان الذي ملك أسره قيدمون ابن خالة هرقل ثم خلصه الله على يد طلحة بن خويلد الأسدي وقتل قيدمون ابن خالة هرقل ثم وجهته بكتاب إلى عمر بن الخطاب وقد انهزم عدو الله فلسطين وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته.
وبعث الكتاب مع جابر بن سعيد الحضرمي فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب فرح بسلامة المسلمين وسير الجواب وقال: إذا قرأت كتابي فانزل على قيسارية وأنا في أثر الكتاب معول على السير إلى صور وعكاء وطرابلس والسلام.
ثم سلم الكتاب إلى جابر بن سعيد وأمره بالرجوع.
فتح صور وعكاء وطرابلس الشام وقيسارية قال: وعول أبو عبيدة على النهوض إلى الساحل فقام إليه عبد الله يوقنا وقال: أيها الأمير اعلم أن الله عز وجل قد أباد المشركين ورفع علم الموحدين وإني أريد أن أسير قبلك إلى الساحل لعلي أفوز من القوم بغزوة.
فقال: يا عبد الله إن أنت عملت شيئًا يقربك إلى الله تجده بين يديك فافعل فوثب يوقنا قائمًا وأخذ أصحابه وكان قد انضاف إليه من كان يخدمه بحلب وكلهم رجعوا إلى الإسلام وكانوا أربعة آلاف وفي عسكر العرب أيضًا ممن أسلم من البطارقة ما يزيد عن ثلاثة آلاف فارس من البطارقة المعدة وعليهم وال يقال له جوفاس.
ولما انهزم فلسطين إلى قيساربة وتحصن بها بعث إلى أهل طرابلس أن يبعثوا له بنجدة فبعثوا له بثلاثة آلاف فارس قال: وساروا يطلبون قيسارية فلما كانوا بالقرب منها نزلوا في مرج ليعلقوا على خيولهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم يوقنا وأصحابه وكان قد صحبهم فلنطانوس صاحب رومية وأصحابه وكانوا معولين على زيارة بيت المقدس والمقام بها فلما أشرفوا على المرج وهم بزيهم ما غيروا منه شيئًا ورآهم جرفاس فركب بنفسه يختبر حالهم فلما قرب منهم سلم عليهم ورحب بهم وقال: من أنتم.
قالوا: نحن الذين لجأنا إلى هؤلاء العرب واستكفينا شرهم وظننا أنهم على شيء فإذا هم طغاة لا دين لهم فهربنا بديننا ونحن أصحاب حلب وقنصرين وعزاز ودارم وأنطاكية ونحن قاصدون إلى الملك هرقل لنكون في جانبه فلما سمع جرفاس من القوم ذلك فرح بهم وأنس لكلامهم وقال أنزلوا عندنا كي تستريحوا ساعة من التعب فلا شك أنكم سرتم الليل والنهار وخافت أنفسكم من العرب قال يوقنا: أين أنتم سائرون قال: بعث إلينا فلسطين لنكون في طرابلس فقال يوقنا: تيقظوا لأنفسكم فإن أمير العرب أبا عبيدة تركناه على نية القدوم إلى الساحل.
فقال جرفاس: وماذا ينفع حذرنا ودولتنا قد اضمحلت وأيامنا قد ولت ولسنا نرى الصليب يغني عن أهله شيئًا.
قال الواقدي: فنزلوا عندهم ساعة وقدموا لهم أزواد فأكلوا ثم ركبوا وهم جرفاس أن يركب لركوبهم.
فقال يوقنا: اشتغل بأصحابك وألبسهم أفخر ثيابهم فإن ذلك مما يظهر الرعب في قلوب أعدائكم.
قال الواقدي: حدثني سليم بن عامر عن نوفل بم عبد الله عنجرير بن البكاء وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال: ما دخل يوقنا إلى ساحل البحر حتى أتقن الحيلة وذلك أنه قد نزل فيه الحرث بن سليم من بني عمه يرعون إبلهم وكانوا في مائتي بيت من العرب فأغار عليهم يوقنا وأخذهم وشدهم كتافًا ودخل بهم إلى بلاد الساحل فلما جن الليل جمعهم إليه وقال: لا تظنوا أني رجعت عن الإسلام وإنما فعلت بكم هذا كي تسمع الروم بسواحلها أني غدرت بالعرب وأخذتهم قال: فاطمأنت العرب إلى كلامه وقالوا له: إن كنت تريد إقامة دين الله فالله ينصرك وبالأعداء يظفرك قال: ووكل يوقنا رجالًا تسوق الأموال وإنما اطمأن جرفاس وأصحابه إلى يوقنا لما رأى الأسارى من العرب والجمال والأنعام فلما ركب يوقنا وأصحابه ورأى أنهم طالبون لساحل البحر نكب عن طريق طرابلس وكمن في الليل على طريق القوم قال: وإن جرفاس فرق خزائنه التي كانت عنده على أصحابه وقعد حتى جن الليل وأكلت الخيل عليقها ثم ركبوا واستقاموا على الطريق فلما توسطوا أطبق عليهم يوقنا وأصحابه وداروا بهم ولم يمهلوهم بالقتل وأخذوهم أخذًا بالكف وانتشرت الخيل في تلك الأرض لئلا يكون قد انفلت من الروم أحد فلما حصلوا على قبضتهم وتحت أسرهم أرادوا أن يطلقوا الحرث بن سليم وأصحابه فقال الحرث: إني أرى من الرأي أن تتركونا على حالنا فإن ثواب الله قد حصل وصبحوا بنا بلاد العدو فإنكم ما تشرفون على بلد من بلاد الساحل إلا فتحه الله لكم.
قال يوقنا: هذا رأي صحيح ثم أمر أصحابه أن يستوثقوا من الأسرى وكمن ألفين من أصحابه فلنطانوس مع الأسرى وهم ثلاثة آلاف فارس وقال: إذا جاءتكم رسلي فاقدموا ثم ألبس أصحابه زي الروم مثل أصحاب قيسارية الذين أخذوهم وساروا نحو طرابلس فلما خرج كل من في البلد إلى لقائهم كان كتاب فلسطين قد وصل إليهم إني قلى بعثت إليكم بثلاثة آلاف فارس مع جرفاس بن صليبا ودخل يوقنا مع أصحابه حتى استقر قراره على دار الإمارة ودخل عليه دار الإمارة ودخل عليه شيوخ طرابلس والبطارقة وأهل الحشمة منهم فلما حصلوا عنده أمر بهم وقبض عليهم وقال: يا أهل طرابلس إن الله سبحانه قد نصر الإسلام وأهله وقد كنا في عيش مظلم نسجد للصلبان ونعظم الصور والقربان ونجعل لله زوجة وولدًا حتى بعث لنا هؤلاء العرب فهدانا وألحقنا بهم ببركة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو النبي المبعوث الذي ذكره الله في التوراة وبشر به عيسى المسيح وإن الإسلام حق وقوله الصدق يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويأتون الزكاة وينطقون بالحق ويتبعون الصدق ويوحدون الله وينزهونه عن الصحبة والولد ويجاهدون في سبيله وهو الذي أمر به أنبياءه ورسله فأما أن ترجعوا إلى دين الإسلام أو تؤدوا الجزية وإلا بعثكم عبيدًا للعرب وهذا ما عندي والسلام.
قال: فلما سمعوا كلامه علموا أن يوقنا اجتاز عليهم وأخذ أصحاب الملك في الطريق فقالوا: أيها السيد نحن نفعل ما أمرتنا به فمنهم من أسلم ومنهم من رضي بالجزية وعدل يوقنا وبعث إلى أصحاب الكمين فحلوا أسرى فعرض عليهم الإسلام فأبوا فأمر بحبسهم وبعث إلى أبي عبيدة بالخبر وما جرى له وبعث الكتاب مع الحرث بن سليم من وادي بني الأحمر وقال: يا عبد الله كن للأمير مبشرًا بهذا الفتح.
قال: سأفعل ذلك إن شاء الله تعالى وسار بالكتاب حتى وصل إلى أبي عبيدة وسلم عليه وناوله الكتاب فلما قرأه وعلم معناه فرح وقال للحرث بن سليم: ألم تستأذني أن تسير أنت وبنو عنك إلى وادي بني الأحمر فمن أوصلك إلى طرابلس قال: أوصلني القضاء والقدر وذلك أن يوقنا أغار علينا وأخذنا أسرى.
وحدثه بحديثهم فعجب من ذلك أبو عبيدة وقال: اللهم ثبتهم وأيدهم بنصرك.
قال: حدثني عامر بن أوس قال: أخبرني ابن سالم قال: حدثني موسى بن مالك قال: إن عمرو بن العاص لما ارتفع المطر رحل من الجابية ونزل على أبواب قيسارية وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه لما ملك طرابلس واحتوى عليه واستوثق من سورها وأبوابها ترك أصحابه على الأبواب وقال: لا تدعو أحدًا يخرج من الأبواب وكان في المرسى مراكب كثيرة فرفع آلاتها وأخذها كل ذلك ولا يعلم أحد من أهل الساحل بما صنع قال: وبعد أيام جاءت مراكب كثيرة زهاء من خمسين مركبًا فتركهم يوقنا حتى نزل أكثرهم إلى المدينة فأمر بهم إليه فاستخبرهم عن حالهم وقال: من أين جئتم قالوا: جئنا من جزيرة قبرص ومن جزيرة أقريش وقالوا: معنا العدد والسلاح مضروبة لملك فلسطين فأراهم الفرح والسرور وسلم عليهم وقال: إني أريد أن أسير معكم ثم أمر بهم إلى دار الضيافة وبعث إلى قواد المراكب فأنزلهم وقدم لهم السماط فلما أكلوا قال إني أريد أن أسير إليكم الزاد والعلوفة وعدة السلاح إلى خدمة الملك ولكن تقيمون عندي ثلاثة أيام.
فقالوا: أيها البطريق إنا على عجل من أمرنا نخاف من لوم الملك ولسنا نقدر على ذلك ولم يزل بهم حتى أذعنوا له.
فقال: أريد أن تنزلوا الشراعات والمقاذيف فتكونوا في المدينة ليطمئن قلبي بذلك ففعلوا وألصقوا المراكب بالسور ونزل كل من في المراكب وما بقي في المراكب إلا ثلاثة رجال فلما دبر هذا التدبير قبض على الجميع فلما كان الليل سلم طرابلس لبني عمه وللحرث بن سليم وفلنطانوس وعمر المراكب برجاله وهم بالصعود إليها وإذا عند غروب الشمس قد أقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في ألف فارس من أصحابه فلما رآهم يوقنا سجد لله شكرًا وسلم على خالد بن الوليد وسلم له المدينة وحدثه بما جرى له وما قد عزم عليه فقال: نصرك الله وأيدك ثم إن يوقنا ركب من ليلته وسار وكان على سور دمشق جيش فلسطين وهو أرمويل بن نشطة ومعه أربعة آلاف فما أصبح يوقنا إلا وهو في مدينة صور فأمر بالبوقات فضربت والرايات فنشرت ووقف الدمستق يختبر خبرهم فعاد صاحب البحرالية.
فقال: هؤلاء أهل قبرص وجزيرة أقريطش قد أقبلوا بالعلوفات والطعام والعدد يريدون قيسارية في خدمة الملك ففرح أهل صور بذلك وأمروهم بالنزول فنزل يوقنا وأصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل وكان قد استخلصهم لنفسه فصنع لهم الدمستق طعامًا ومد لهم سماطًا عظيمًا وأحضر لقوادهم الخلع ويوقنا ينتظر الليل حتى يثور بأصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل كما ذكرنا وترك الباقين في المراكب وقال: إن لم يتم لنا ما نريد ولم نظفر بهم فلا تبرحوا من مراكبهم وأنفذ إلى خالد وأخبره بالقصة.
قال الواقدي: ما سمعت بأعجب من هذه القصة ولقد حدثني ابن مزاحم عن الأرقط بن عامر عن عمار بن ياسر الربعي.
قال: لما حصل يوقنا والتسعمائة بمدينة صور وأكلوا سماط الملك وخلع على كبرائهم.
أقبل عليهم في السر رجل من بني عم يوقنا ممن استحكمت الضلالة قلبه واحتوى الكفر على أقانيم جسده فأقبل إلى الدمستق وحدثه بأمر يوقنا وما قد عزم عليه وأنه مسلم وأنه يقاتلكم مع العرب وقد فتح طرابلس وأخذ البطريق جرمانس صاحب الملك فلما سمع الدمستق بذلك لم يكذب خبرًا دون أن ركب بأصحابه وقبض على يوقنا وأصحابه ووقع الصياح وكثر الضجيج وسمع بذلك أصحاب يوقنا فعلموا أن ذلك بسبب أصحابهم وأنه قبض عليهم فاغتموا لذلك غمًا شديدًا وأخذوا على أنفسهم من عدو يقبل عليهم قال: فلما استوثق عليهم الدمستق أرمويل بن نشطة وكل بهم ألف رجل وقال: سيروا بهم إلى الملك يفعل فيهم ما يريد وأقبلوا يعنفون يوقنا وأصحابه ويقولون لهم: ما الذي رأيتم في دين العرب حتى تبعتموهم وتركتم دينكم ودين آبائكم قد طردكم المسيح عن بابه وأبعدكم عن جنابه فلما هموا أن يسيروا بهم وقع الصياح من الأبواب ونفر أهل القرى ومن كان بالقرب من صور فسألوهم عن أخبارهم.
فقالوا: قدمت العرب عليكم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق