46
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قال: فلما رفعت على رأس فلنطانوس سار حتى ورد أنطاكية ونزل على باب هاوس ومعناه باب فارس قال وركب الملك هرقل في موكبه إلى لقائه وضربت سرادقاته بازاء سرادقات هرقل وفرحت الروم وتفاءلت بالنصر وضربت النواقيس ووقعت ضجة عظيمة في جيوشهم وارتفعت أصواتهم وجاءت عيون المسلمين فأخبروهم بقدوم صاحب رومية فرفع أبو عبيدة كفه إلى السماء وقال: اللهم إن أعداءك يستنصرون علينا بكثرة عددهم وتزايد مددهم فشتت كلمتهم ودمر جيوشهم وزلزل أقدامهم وعسر أيامهم واجعل كلمتنا العليا وكلمتهم السفلى وانصرنا كنصر نبتك في يوم الأحزاب: اللهم رد كيدهم في نحرهم وانصرنا عليهم قال: وأمنت المسلمون على دعائه.
قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن العلاء عن أبي يوسف الكندي عن أبي جعفر الدارمي عن الربيع بن أنس عن جعفر بن ميسرة قال: قال لي عمي لما قدم صاحب رومية بجنوده خاف المسلمون ولكن ثبتهم الله وبعث أبو عبيدة معاذ بن جبل ومعه ثلاثة آلاف وقال له: يا صاحب رسول الله إن الروم قد تجمعت من سواحل البحر لنصرة دينها فانهض وشن الغارات على بلاد السواحل واحتفظ أن تؤتي المسلمون من قبلك قال ففعل ذلك معاذ وسار إلى جبلة واللاذقية فاحتوش أموالها وأخذ غنائمها ووجد على باب جبلة عنان بن جرهم الغساني ابن عم جبلة بن الأيهم ومعه ألف دابة محملة برًا وشعيرًا لعسكر الكفر وقد جمعها من طرابلس وعكا وصور وصيدا وقيسارية وقد بعث بها قسطنطين بن هرقل إلى أبيه فلما وصلت مدينة جبلة سلمها العرب المتنصرة لابن عم جبلة وعادوا فوقع بها معاذ رضي الله عنه فأخذها ورجع قافلًا إلى عسكر المسلمين فلما رأوها رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فسأل هرقل عن ذلك فأخبروه بما وقع فغضب على أخذ الميرة التي تتقوت بها عسكر أعدائه.
فقال لبطارقته ما بقي بيننا وبين هؤلاء إلا المصاف ويعطي الله النصر لمن يشاء ثم إنه أمر عساكره بالأهبة للقتال ثم إنه ركب وإلى جانبه فلنطانوس صاحب رومية وصاحب مرعش وصاحب قلعة اسكبادنيس وهي قلعة الروم وصاحب طرطوس وصاحب مصيصة وصاحب قونية وصاحب ماصر وصاحب اقصرا وصاحب قيسارية الروم الأقصى وصاحب قوماط وصاحب انطرانه وصاحب طبرزند وجبلة بن الأيهم.
قال الواقدي: وأقبل يوقنا يرتب الصفوف في الحرب فلما وقف كل ملك بجيشه وكل بطريق بأصحابه أراد فلنطانوس ملك رومية أن يتقرب إلى هرقل بمبارزة العرب فصقع له على قربوس سرجه وقال: أيها الملك ما تركت ملكي وأتيت إلى خدمتك من مائتي فرسخ إلا حتى أرضي المسيح وأخدمه بين يديك وأن كل عسكرك قد قاتلوا وجاهدوا وأريد أن أبرز في هذا اليوم إلى هؤلاء المحمديين وأشفي فؤادك وفؤادي منهم فأراد الملك أن يطيب قلبه.
فقال له: الزم مكانك ولا تخرق بحرمتك وحشمتك حشمة الملوك فأنت أقدم مني في المملكة فدع غيرك يكون لهذا الأمر فما بلغ من شأن العرب أن تخرج أنت إليهم بنفسك.
فقال فلنطانوس: أيها الملك وأي حشمة بقيت لنا مع هؤلاء وقد أهملوا عزنا وأذلوا أعز ديننا والجهاد مفروض على كبيرنا وصغيرنا أما علمت أيها الملك أنه من نظر إلى الدنيا بعين المحبة جذبته الشهوات إلى الغلو في محبتها والتعلق بزخارفها فإذا فعل ذلك ركب غيم كثافة الجهل على صفحة صدره فمنعه ذلك عن طلب معاده ومن سارع إلى طاعة خالقه بترك شهواته ارتقى إلى دار دائرة القدس في محل الأنس ولما علم القديم الأزلي بركون أنفسكم المحجوبة بحجاب الغفلة إلى طلب ما يفنى سقط عليكم أضعف أمة قد أخرجتكم من دياركم وأبعدتكم عن أوطانكم وما ذاك إلا لخلودكم إلى الأهواء الجاذبة إلى مهاويكم وإلى إدراك المهالك لأنكم حكمتم بغير الحق واجترأتم على الرعية بطلبكم منهم ما ليس لكم بحق والجور في أخذ أموالهم وفساد أحوالهم وكثرة الزنا واتباع الخنا فلأجل ذلك لم تنصروا ودارت دائرة السوء عليكم.
قال: ثم تكلم صاحب الملك هرقل الكبير واسمه سروند وصاح عليه وقال له أيها السيد لا تحمل على قلب الملك من كلامك ما لا يطيق في مثل هذه الساعة فقد وعظه من هو أكبر منك فلم يسمع قوله.
قال فغضب فلنطانوس من صياح الحاجب عليه وكتم أمره إلى الليل فلما مضى من الليل ربعه طلب حجابه وخواصه وقال لهم: أرضيتم أن يزعق علي حاجب هرقل ويوبخني بين الملوك وأنتم تعلمون أن بيتي أعظم من بيته ونسبه أدنى من نسبي وملكي أقدم من ملكه.
ولقد قال قسيس حكيم بلاد الذكر المشهور بحكمته وهو الذي وضع المنار الأعظم في يوم كبير كان بين بلاد الجرامقة وبلاد الأنجار وهي مسيرة اثني عشر يومًا ولا يصل إلى أرضها إلا بعد عناء كبير فاحتفر لها بئرًا ووضع في وسطها عمودًا على رأس حجر يدور من صنعة حكمتها يسمع له من حدة النداء من حوله ويرشح له بقدر ما يملأ ذلك الجرن العظيم فإنه قال: لا تسع بقدمك إلى من يراك دونه فتصغر عنده واجعل عز نفسك في مقابلة كبرياء عجبه فإن عزة النفوس تقابل جاه الملوك ولا تصنع صنيعك لغير مستحقه لأنها تجلب عليك لسوء من قبل ذلك فإن ذلك الإحسان لا يزكو إلا عند ذوي الأصول فإنه يندمج عند السفهاء والأرذال لا تصنع إليهم النصيحة فإنك أنت تطلب منفعته وهو يريد هوى نفسه بأذيتك وقد جننا من مائة فرسخ وأكثر إلى خدمة رجل يرى أننا قد قصدنا داره وتاج عزه وأننا نحن من جملة خدمه وأن نور العقل المجوهر للحس يمنعني من اتباع الجهل المظلم للحواس وأن نفسي تأبى ذلك والعز محل جليل ومقام نبيل والذل وبيل وصاحبه قليل وقد عولت أن أسير إلى هؤلاء العرب واختبر ملتهم فإنها هي الملة الواضحة بالحق المؤيدة بالصدق ومن كان عليها أمن في معاده من الهول الأكبر فما أنتم قائلون.
قالوا: أيها الملك وكيف تطيب نفسك بترك دينك وملكك وعزك وتتبع هؤلاء وهم لا فضل لهم ولا عندهم حكمة.
فقال فلنطانوس: أما الحكمة البالغة فعندهم مقرها وفي نفوسهم موطنها.
لأن نور توحيدهم صفى أذهانهم ونور إيمانهم ببركة صاحبهم المسمى في علوم الغيوب لأن مغناطيس حكمته الربانية جذب جوهر عقولهم إلى متابعته والاقتداء بشريعته ومن أراد أن يلقى عالم عليين فلا يقعد على صفحة أرض الجهل: أما علمتم أن النور أنور من الظلمة والموت نهار الحياة: قال: فلما سمعوا قوله قالوا: أيها الملك نحن ما نمنعك من عز دائم يخرجنا من الذل ومهابة الغلبة فإذا كنت تطلب بنا طريقًا يؤدي إلى البقاء ويذهب بالشقاء فالحق اتباع الحق ونفي الباطل فنحن لك وبين يديك.
قال: فخذوا على أنفسكم فإذا كانت ليلة غد ركبنا كأنا نطوف حول البيت نحرسه ونطلب جيش العرب.
قال: ففعلوا ذلك وأخذ فلنطانوس في أمره.
قال ابن وهب وابن صالح عن أبي موسى الأشعري.
قال: لما عزم أن يسير إلى جيش المسلمين أتى إليه يوقنا برسالة الملك هرقل فلما أدى الرسالة وهم بالقيام قال له فلنطانوس من أنت من الحجاب.
قال: أنا يوقنا صاحب حلب.
قال: وكيف تركت بلدك.
قال: استولت عليها العرب وحدثه بحديثه.
فقال فلنطانوس: وما الذي ظهر لك من هؤلاء العرب.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق