44
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قال الواقدي: ومما بلغني أنها قالت في أسر أخيها من المراثي المبكيات: سأبكي ما حييت على شقيق أعز علي من عيني اليمين فلو أني لحقت به قتيلًا لهان علي إذ هو غير هون وكنت إلى السلو أرى طريقًا وأعلق منه بالحبل المتين وإنا معشر من مات منا فليس يموت موت المستكين وإني أن يقال مضى ضرار لباكية بمنسجم هتون وقالوا كم بكاؤك قلت مهلًا أما أبكي وقد قطعوا وتيني قال: فسار أبو عبيدة في مواكبه كما ذكرنا فبينما الروم في خيامها وعسكرها إذ وقع فيهم الصائح بقدوم العرب فركزوا خيولهم وصفوا صفوفهم فأول من أشرف عليهم برايته لسعيد بن زيد وبعده المسيب بن نجبة الفزاري وبعده ميسرة بن مسروق العبسي وبعده أتى خالد بن الوليد وبعدهم أبو عبيدة في مواكبه فنزل كل أمير بقومه فلما نظر هرقل إليهم وأنهم قد نزلوا بفنائه وبنائه ترك على حفظ جيشه صاحبه الأكبر نسطاروس بن روميل وكان من شجعان الروم ودخل إلى كنيسة القيسان وجمع الملوك والبطارقة والسريرية والحجاب وقام هرقل فيهم خطيبًا.
وقال: يا أهل دين النصرانية ويا بني ماء المعمودية قد قرب ما حذرتكم منه من زوال ملككم وذهاب عزكم من أرض سورية وقد كنت حذرتكم من زوال ملككم ومن هذا المقام فلم تقبلوا مني وأردتم قتلي وهؤلاء القوم قد دخلوا بدار ملككم ورياح عزكم فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم وأنفسكم وإياكم والفشل لا يلحقكم في الجهاد فقد جاهدت عنكم جهدي وأتلفت أموالي وخزائني ورجالي عن ديني وملككم فلم تصادفني مساعدة ولا أدركت من القوم فائدة فإن أنتم فشلتم وتقاعستم ولم تجردوا لهؤلاء العرب سيوف العزم وإلا كان العار عليكم والذلة تصل إليكم أين أبناؤكم ومن سلف من آبائكم.
ماتوا كرامًا غير لئام وسكنت ديارهم العرب اللئام وكنائسهم صيروها جوامع وأخربوا البيع والصوامع وأذلوا ملوككم واستعبدوا أبناءكما ونساءكم وملكوا قلاعكم واستولوا على حصونكم ومدائنكم وقد مضى ما مضى فاستأنفوا الأمر وقاتلوا: فكم هلك من الأمم قبلكم على ممالكهم وعلى الغيرة على حريمهم ولقد كانت حكمتي أنتجت لكم أن تنسجوا على منوال المصالحة بينكم وبين هؤلاء العرب فأبيتم ذلك لأن ظلمة جهلكما قد أطفأت نور الحكمة.
أما علمتم أنه قد وجد لوح من الحجر على قبر طيماون تلميذ أفيانوس وفيه مكتوب: الحكمة سلم العالم الأعلى من عدمها فقد عدم القرب إلى بارئه الحكمة حياة القلوب وبغية الأذهان ونزهة النفوس ونور العقول من لم يكن حكيمًا لم يزل سقيمًا من تدبر نظر ومن نظر عرف ومن عرف عمل ومن عمل انفتح ذهنه وعقله ومن انفتح عقله صفت نفسه فقام إليه جبلة بن الأيهم وقال: يا عظيم الروم إنما قتال هؤلاء العرب بقتل خليفتهم عمر بالمدينة فلو أنت أرسلت إليه رجلًا من آل غسان فيكون سبب فشلهم وانتزاع الشام من أيديهم فقال هرقل: هذا شيء لا يصلح أمله ينقضي أجله لأن الآجال مقدرة والأنفاس مقررة ولكن هو شيء تطيب النفس عند سماعه فافعل ما أردت.
قال: فأرسل جبلة من قومه رجلًا يقال له واثق بن مسافر الغساني وكان جريئًا مقدامًا في الحروب فقال له انطلق إلى يثرب فلعلك تقتل عمر فإن أنت فعلت ذلك فأنا أعطيك ما أردته من الأموال.
قال: فانطلق واثق بن مسافر حتى دخل المدينة ليلًا فلما كان الغد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس صلاة الصبح ودعا وخرج إلى ظاهر المدينة يتنسم أخبار المجاهدين بالشام.
قال فسبقه المنتصر وجلس له بأعلى شجرة من حديقة ابن الدحداح الأنصاري واستتر بأغصانها ثم إن عمر قام عن ظاهر المدينة حين حميت الرمضاء وعاد وهو وحده فقرب من الحديقة ودخلها ونام في ظلها فلما نام هم المتنصر بالنزول من الشجرة وجرد خنجره وإذا هو بأسد أقبل وهو بقدر البقرة الكبيرة وطاف حول عمر وجلس عند قدميه يلحسهما وأقام حتى استيقظ فعندها نزل المتنصر وقبل يد عمر وقال له: يا عمر قد عدلت فأمنت.
.
.
بأبي والله من الكائنات تحفظه والسباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه ثم حدثه بأمره وأسلم على يديه.
حدثنا أبو محمد قال: أخبرني أبي عن حسان عن السدي عن يحيى الواقدي عن شهر بن عباس البيروتي أن عمر حدثه عن نزول أبي عبيدة بالمسلمين على أنطاكية.
قال: وعظ هرقل قومه بكنيسة القيسان واستحلفهم أنهم لا ينهزمون أو يموتوا عن دم واحد فحلفوا وخرجوا مع الملك إلى عسكره وقد رفعت الصلبان وقرأت القسوس والرهبان وارتفع الضجيج من أهل الكفر والطغيان واصطفوا للقتال وكان المسلمون قد رتبوا صفوفهم وأوقفوا كل أمير في مكانه ونشرت الرايات والأعلام وأشار أبو عبيدة إلى ربيعة بن معمر الشاعر وكان لسنًا فصيحًا لا يتكلم إلا بالكلام المنظوم.
فقال له: يا ربيعة فوق سهام لفظك ووعظك إلى المجاهدين وحرض المسلمين على قتال المشركين قالت فتقدم ربيعة أمام الصفوف وكان جهوري الصوت يسمعه القريب والبعيد.
فقال: أيها الناس إلى متى هذه المهلة فتأهبوا للحملة فهذه طيور الأرواح قد عولت على فراق أقفاص الأشباح وقد ارتاحت إلى باريها وأجابت صوت مناديها وها هي تخاطبنا بلسان إشارتها عن نطق عبارتها ما هذا الوقوف على بذل أنفسكم وقد اشتراها مؤيدكم أفركنتم إلى حب الحياة الفانية والأنفس الدانية وهذه أوقاتكم بالنصر مؤيدة وهمتكم عن طلب زينة الدنيا متحيدة والمواعظ الصادقة بكلام الحق مقيدة: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وهذه طوالع سعودنا بالإقبال طالعة وشجرة آمالنا بالتأييد يانعة فلله درهم فلقد ظهرت زهرة نجوم المحبة في أفلاك راياتهم وتبلج فجر العشق في سماء سماتهم وأشرقت شموس المعرفة في مشارق عشقهم فلما هموا بالحملة بأجمعهم واصطفوا وقدموا همم النفوس في رضا الملك القدوس واستبقوا وزاحموا بعضهم بعضًا ولم يرفقوا نودوا من صفاء أسرارهم {من المؤمنين رجال صدقوا} [الأحزاب: 23].
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق