42
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قال الواقدي: إنما تكلم البترك.
بهذا الكلام بين يدي هرقل وهو يظن أنه يطعن في العرب ليسمع جبلة بن الأيهم حكمته وكان جبلة وولده حاضرين وكان بين البترك وبينه عداوة سببها أن البترك كان بنى له ديرًا عظيمًا وجعل له عيداُ في السنة تقصده الروم من كل مكان بالنذور والأموال والستور والشموع وإن ذلك كله برسم البترك قال فأعطى الملك لجبلة تلك الأرض التي فيها الدير فتغلب جبلة على الدير وبنى حوله مدينة وسماها باسمه وهي جبلة هذه.
حدثنا سليمان بن عامر عن منصور الجوني.
قال حجاج بن جريج أخبرني يحيى بن عمارة بن أبي الحسن.
قال: لما سمع رفاعة بن مهير كلام البترك تبسم من قوله وقال: أيها البترك لقد مدحت أقوامًا ليس لهم إلى الفضل سبيل ولا فيهم فاضل ولا نبيل ولا من وحد الملك الجليل الذي ليس له مثيل ولا عديل وما الفضل إلا لولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل الذي لهم البيت الحرام وزمزم والمقام والمشعر الحرام ومنهم التبابعة والأقيال والحماة والأشبار الذين ملكوا الأرض في الطول والعرض ومنهم الملك الصعب الإسكندر الذي ملك قرني الأرض ودخل الظلمات ودخل في طاعته أهل الأرض وبلغ مطلع الشمس ومغربها وأذل ملوكها وجعل له منهم جندًا وأعوانًا وسماه الله ذا القرنين ومنهم سبأ بن يعرب بن قحطان وشداد ين عاد وشديد بن عاد وعمرو ذو الأذقان وهو ابن سكسك والهدهد بن عاد ولقمان بن عاد وشعبان بن أكسير بن تنوخ وعباد بن رقيم وهاديل بن عتبان وكان يتكلم بالحكمة ومناجاة موسى بن جلهمة بن سياسة بن عجلان بن ياقد بن رخ وثمود بن كنعان ومنا سبأ بن يشجب وهو أول متوج منا ثم ولي بعده حمير ثم منا نبع وهو متوج ومنا وائل بن حمير متوج ومنا عاد بن حمير متوج ومنا نبي الله حنظلة بن صفوان من أهل الرس ومنا نفيل بن عبد المدان بن خشدم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود عليه السلام عاش خمسمائة سنة وهو الذي بنى المصانع واستخرج الكنوز وقاد الجيوش وورثه الله علم نبته حنظلة بن صفوان وقد ختم الله شرفنا ورفع قدرنا إذ جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم منا فنحن السادة وأنتم العبيد.
حدثنا سفيان عن عبد ربه.
قال: أخبرها رحيم قال: حدثنا الوليد بن زيادة عن حزام بن حكيم قال: بلغني أن هذا الرجل يعني رفاعة بن زهير بن زياد بن عبيد بن سرية الجرهمي كان عالمًا بأنساب العرب وأخبارهم وملوكهم وكان طالع كتب هود وصالح وحنظلة عليهم السلام فلما تكلم بحضرة الملك هرقل بهذا الكلام أراد البترك أن يعجزه بسؤال يلقيه عليه فقال: يا ذا الهمم العلية والقرائح الذكية بم تصل القلوب إلى نسيم العقل الروحاني وترقى إلى ملكوت اللاهوت والطيور الخفية الغائبة عن الأبصار بالأقطار وترقى في رياضات الألباب المصفاة من الأدناس والأفكار النورانية بصفو أكدار الأخلاق المحيطة بالأفكار من الهياكل الجسمانية.
فعند الصفو من مفارقة الكدر تعيش الأرواح عيشة الأبد الذي لا يصل إليه انحلال ولا اضمحلال فحينئذ يختلط العنصر بالعنصر ويطفو الصفو بالصفو ويرسب الكدر إلى الكدر فقال رفاعة بن زهير: ما أصبت أيها البترك في مقالتك فقال: ولم قال رفاعة: كيف تدل القلوب إلى علام الغيوب وقد حجب عنها صواب المصيب أم كيف يتخلص الصفو من الكدر بغى تهذيب من الكفر وكيف تحلى الأفكار من غوامض الأسرار وهي في حجب الاغترار إذا تناهت الأهوال إلى مفازاتها وقربت الهمم من مواضعها وعادت الفكر إلى عناصرها وعادت متحركات الفكر إلى مساكنها وغاليات الأذهان إلى أماكنها فانحازت الأشكال عن الأشكال بلطف تأثير الهوى فيها وانكبت مشرفة عن هياكلها من أقطار عناصرها.
قال أيها البترك هذا كلام العرب الذي زعمت أن الحكمة ليست من أخلاقهم ولا تباع في أسواقهم ولقد كان ملك من ملوك اليمن اسمه سيف بن ذي يزن الذي بشر بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم بغوامض العلوم الحكمية ووشح بوشاح شكر النعمة ومن جملة ما قال فصيح من فصحائنا اسمه قس بن ساعدة هذه الأبيات: ألا إننا من معشر سبقت لهم أياد من الحسنى فعوفوا من الجهل ولم ينظروا يومًا إلى ذات محرم ولا عرفوا إلا التقية في الفعل وفينا من التوحيد والفعل شاهد عرفناه والتوحيد يعرف بالعقل نعاين ما فوق السماء جميعها معاينة الأشخاص بالجوهر المجلي ونعلم ما كنا ومن أين بدؤنا وما نحن بالتصوير في عالم الشكل وإنا وإن كنا على مركز الثرى فأرواحنا في عالم النور تستجلي وما صعدت كي تستريح وإنما حقيقة ممثول وجلت عن المثل قال الواقدي: قال أبو سعيد: حدثنا شيبة بن أبي عبد الله بن عيسى عن لقية بن هند عن عبد الله بن ربيعة قال: قلت لرفاعة بن زهير لما خلص من قبضة الروم يا عم كيف كان البترك يفهم ما تقول وتفهم ما يقول فقال: يا بني ما رأيت أفصح من اللعين بلسان العربية ولقد سألت عن ذلك من عبد الله يوقنا فقال: أما علمت أن ملوك الروم والبطارقة لا يستقيم ملكهم إلا أن قال الواقدي: وكان لرفاعة بن زهير الجرهمي ولد جاهل.
قال وكان أسر معه قال وكان قلبه يميل إلى الكفر وكان رفاعة يدعو عليه فلما حضر الأسارى في كنيسة القيسان واشتغل رفاعة مع البترك بالمناظرة أقبل ولد عامر يحدق بنظره إلى البيعة وزينتها وصورها وصلبانها ويتأمل نساء الروم وزينتهن فبادر إلى تقبيل الصلبان والإشراك بالرحمن فلما رأى أبوه رفاعة بكى وقال: يا ويلك أكفرت بعد الإيمان يا ويلك طردت عن باب الرحمن يا ويلك كفرت بالملك الديان يا طريد القدرة يا من بعد عن الحضرة فيا ولدي ما بكائي على فراقك وإنما إذا سلكت أنا في طريق وأنت في طريق إذا مضيت أنت إلى دار الأبالسة وحشرت مع الرهبان والشمامسة وتكون في طبقة النار السادسة وأنا أمضي مع محمد إلى دار فيها الأرواح مستأنسة يا بني لا تطلب حياة الدنيا يا بني لا تختر شهوتها على الآخرة وأخجلني من فعالك إذا وقفت بين يد العزيز الجبار.
يا بني لقد فضحت شيبة أبيك إذ كفرت بعالم السر والنجوى يا بني لقد خاب أملي فيك والرجاء.
يا بني كيف طاب قلبك أن تتبرأ من محمد المصطفى.
يا بني ممن تطلب الشفاعة غدًا يا بني غرتك الحياة فصرت تكفر بالعليم يا بني صرت إلى الشقاء من بعد كونك في النعيم.
يا بني أما تخشى العذاب في الجحيم.
أما تستحي من أحمد يوم القيامة.
أما تعلم أن أباك قد غدا من أجل كفرك في هموم.
أين المفر إذا دعاك الله في اليوم العظيم ويقول يا عبدي كفرت بواحد فرد.
يا بني أنت في عيش ذميم.
أما أبوك فإنه يبقى بعز مقيم أسألك يا والدي بما قد كان في الزمن القديم من نحوي وتعطفي حال الرضاعة والفطام إلا رجعت إلى الذي غطاك بالستر العميم.
قال: فقيل له: إن ولدك قد أغلق الباب عليه وأرخى الحجاب فأمر به البترك فحل من الوثاق وأمر به إلى جرن ماء المعمودية فغمسوه فيه ودارت به القسوس والشمامسة وبخروه ووقعت عليه الخلع من البطارقة والملوك ووهب له البترك مركبًا وجارية ومنزلًا وضمه إلى عسكر جبلة بن الأيهم.
ثم قال البترك: يا هؤلاء ما منعكم أن تدخلوا في ديننا كما فعل صاحبكم.
قالوا: منعنا من ذلك صحة ديننا وثبات يقيننا وما نحن من الذين يبذلون إيمانهم بالكفر ولو قتلنا فقال لهم البترك: طردكم المسيح عن بابه وأبعدكم عن جنابه.
فقال له رفاعة: الله يعلم أينا المطرود ومن هو عن رحمة ربه معبود فقال هرقل: يا معاشر العرب قد وصل إلينا أن خليفتكم وأميركم يلبس مرقعة وقد وصل إليه من أموالنا وذخائرنا ما يكل عنه الوصف فما منعه أن يتزيا بزي الملوك.
فقال رفاعة: يمنعه من ذلك طلب الآخرة والفزع من جبار الجبابرة فقال هرقل: ما صفة دار إمارته فقال رفاعة: مبنية بالطين خالية من الحجاب آنسة بالفقراء والمساكين.
قال: فما بساطه.
قال: العدل والتمكين.
قال: فما سريره.
قال: العقل واليقين قال: فما بدلة ملكه.
قال: الزهد والدين.
قال: فما خزائنه.
قال: الثقة برب العالمين.
قال: فمن جنده.
قال: أبطال الموحدين.
أما علمت أيها الملك أن جماعته قالوا له: يا عمر قد منكت كنوز القياصرة وذللت البطارقة والأكاسرة فهلا لبست ثيابًا فاخرة.
قال: أنتم تريدون زينة الحياة الظاهرة وأنا أريد رب الدنيا والآخرة فلما أبدى هذا القول وأضمر أشار إليه منادي القدرة وبشر {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج: 41] قال: ثم إن الملك هرقل أمر بهم إلى السجن الذي هو في كنيسة القيسان وخرج إلى عسكره ليشرف على الخيام فرأى السرادقات قد ضربت لأن البطارقة ضربت سرادقاتها عند خيامه ونونية الملوك قد نصبت بإزاء كل نونية كنيسة من الخشب المدهون بسائر الأصانيع والنواقيس على أبوابها وكان زي الروم ذلك وهذه البيع والخشب كانوا يتنافسون فيها وفي صنعتها وتكون معهم في أسفارهم وعساكرهم وطاف هرقل على عسكره جميعه وأراد الدخول إلى أنطاكية وإذا بفوارس تركض إليه فقالت لهم الحجاب وأصحاب السرير ما وراءكم.
قالوا: ملك جسر الحديد منا وقد حصلت العرب منا على داخل الجسر.
قال: فأيقن الملك بزوال ملكه وقال: وكيف ملكت العرب الجسر والبرجين وفيها ثلثمائة من البطارقة الشداد قالوا: أيها الملك إن المقدم الذي على الأبراج هو الذي سلمهم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق