33
أوراق ذابلة من حضارتنا
دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية
القسم الرابع : سقوطنا في العصر الحديث
1- سقوط آخر خلافة إسلامية
عندما تتشقق الحضارة تتحول إلى ذرات متناثرة متنافرة ، شأنها شأن الجدار المتداعي الذي أصابه التآكل فتحولت لبناته إلى لبنات منفصلة تسقط عقب بعضها لبنة لبنة .
ويأخذ الانهيار في العملية الحضارية شكلا غريبا . وبدلا من الانسجام الذي كان سمة الحضارة الناهضة تتنافر أجزاء الحضارة الساقطة أو السائرة في طريق السقوط ، ويكاد ينطبق على عملية السقوط التاريخي قول الله ( كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ) .
وعجيب كل العجب أمر هذا العصر، وليس العجب في هذا العصر كثرة ما بليت به الأمة الإسلامية من هزائم أو انتكاسات . وليس العجب كذلك أن الأمة أصبحت تطلب دواءها من عدوها ، وترفض " الصيدلية والطبيب " الحقيقيين ، كذلك ليس العجب في إصرار عناصر من هذه الأمة ـ بيدهم الأمر ـ على أن يتجنبوا الصواب ـ ويلهثوا وراء طريق الفناء والدمار .
نعم : ليس أمر كل هذا بعجيب .. فعملية السقوط التاريخي تشهد مثل هذه الانقلابات في المعايير .
تشهد انقلاب الحق ـ في العقول ـ إلى باطل ، وانقلاب المعروف ـ في السلوك ـ إلى منكر ، وانقلاب السفلة إلى قادة ، وارتفاع السخافة وانخفاض العلم والنور .. نعم : ليس كل هذا بعجيب في العملية التاريخية .
وإنما العجيب أن تتنكر أمة لليد الكريمة التي أنقذتها ، وأن تبحث جادة عن نفسها، عن طريق لعن الذين أنقذوها لمدة خمس قرون ، كأنها كانت تريد الغرق من قديم .. وبدلا من البحث عن حلول عملية ، وشكر الذين وقفوا معها في دورانها التاريخي والذين تربطهم بها صلات عقيدة وتاريخ وحضارة .
بدلا من هذا تحرف تاريخا لتلعنهم ، وتزيف الحقائق لتحيل إليهم وحدهم أسباب تخلفها .. مع أنها لم تستطع بعدهم أن تتقدم شيئا . بل وقعت في أحابيل أشرار البشر .
كان هذا بالتحديد هو موقف بعض العرب من الدولة العثمانية ، التي حمت الحضارة الإسلامية والعرب خمسة قرون من الزمان !!
يرجع نسب الأتراك العثمانيين إلى قبائل الغزو التركية في بلاد تركستان ، وعندما اجتاح المغول تركستان لجأت هذه القبيلة التركية إلى جنوب القوقاز حيث توفي زعيمها " سليمان " وتسلم القيادة بعده ابنه ( أرطغول ) الذي أنجب عثمان بن ( أرطغول ) الذي تنتسب الدولة إليه .
وعلى يد عثمان هذا تحولت الجماعات العثمانية من أسلوبها القبلي إلى أسلوب " الدولة " على حساب أملاك الدولة البيزنطية ، وخلف عثمان ابنه " أورخان " سنة 726 هـ واستمر ملوكها يتتابعون " مراد الأول " بايزيد ابنه ، محمد بن بايزيد ، مراد الثاني بن بايزيد ، محمد الثاني " ( ومحمد الثاني هذا هو المعروف في التاريخ بمحمد الفاتح الذي ولي الأمور سنة 854 هـ ( 1451م ) والذي نجح في الاستيلاء على القسطنطينية وقتل الإمبراطور البيزنطي " قسطنطين الحادي عشر " سنة 1453 م فقضى بذلك على الإمبراطورية البيزنطية ) .
في ذلك الوقت كان المماليك في البلاد العربية في حالة اجترار ماضيهم ولم يعد لديهم ما يمكن أن يعطوه للوجود الإسلامي ، وكان رأس الرجاء الصالح قد اكتشف ، وبدأت مصر تفقد جزءا كبيرا من أهميتها ، كما أن قانصوه الغوري لم يستطع إيقاف البرتغاليين الذين بدأوا يسيطرون على البحر الأبيض المتوسط عند حدود احترام الأمة الإسلامية .
وفي عهد سليم الأول سنة 1516م ـ 922 هـ " وزحف على مصر وقتل قانصوه الغوري ( تحت سنابك الخيول ) وشنق طومان باي ـ على باب زويلة ـ بعد أن هزمه سليم في موقعة الريدانية .. واستولى على مصر والشام .
ولم يتوان سلطان الحجاز ، فأرسل مفاتيح الكعبة للسلطان سليم ، وحكم الحجاز باسم العثمانيين .. وفي عهد خليفة سليم الأول ( سليمان القانوني ) دخلت معظم البلاد العربية ( اليمن ـ الجزائر ـ تونس ، مراكش ـ العراق ـ ليبيا ) في حوزة العثمانيين .
ولم تمض أكثر من عشرين سنة على اتجاه العثمانيين نحو البلاد العربية حتى كان المشرق العربي كله خاضعا لهم ، نعم : المشرق العربي الذي كان آيلا للسقوط ومفكك الوصال في مطلع العصر الحديث وبداية النهضة الأوروبية ، والذي لولا ظهور العثمانيين الذين كانوا يخيفون أوروبا ويتقدمون في أراضيها ، لولا ظهورهم هذا لتحول المشرق العربي إلى أرض بكر لمغامرات الغرب الأوروبي الخارج من أوحال العصور الوسطى كما فعل بعد ذلك بأربعة قرون بعد أن أسقط الخلافة العثمانية .. أو بعد أن انتهى مما كان يسميه تهويلا لأمره وخوفا منه : " المسألة الشرقية " .
خمسة قرون في حماية المسلمين :
لمدة خمسة قرون ظلت الخلافة العثماني تؤدي الدور الأول والوحيد في حماية المسلمين والعرب .
والغريب أن هذه القرون الممتدة من القرن الخامس عشر حتى مشارف القرن العشرين لم تحظ من المؤرخين باهتمام كاف ، بل إنها ووجهت بتفسيرات غريبة عنصرية أو جدلية مادية أو شعوبية متطرفة . ولم يحدثنا هؤلاء المتطرفون عن حالة العرب مثلا لو لم تكن هناك دولة عثمانية . أو لم يكن من المحتم أن تقع الدولة الإسلامية ـ والعربية ـ تحت براثن الغزو الصليبي قبل وقوعها المعروف بهذه القرون ؟ !!
لقد كان الأوروبيون قد سيطروا على البحر الأبيض المتوسط ، وقد نجحوا في إخفاء صوت الشرق ، وبدأ النهضة تنطلق من أوروبا .. من مصانعها ، ومن تطور وسائل التقنية بها ، وتقدم الفكر الاجتماعي والسياسي .
ولم يكن بقدرة العروبة النائمة، والتي لم تستطع إلى الآن أن تستيقظ اليقظة المرجوة ـ أن تقف في وجه هذا الزحف . وعلى الرغم من تخلف العثمانيين في بعض النواحي ـ كما هو معلوم ـ فقد كانت قوتهم العسكرية تدوي في أوروبا ، وكانت هذه القوة بالنسبة للأوربيين هي القوة التي لا تغلب ولا تهزم ، حتى إن أوروبا لم تجتمع على مسألة إلا على اجتماعها على المسألة الشرقية أو مسألة التهام الرجل المريض ( الخلافة العثمانية ) . وبالطبع فإن العثمانيين لم يستطيعوا ـ شأنهم شأن العالم الذي كان قد بدأ يدخل في طور عملية انقلاب داخلية جديدة ـ تمهيدا لميلاد جديد ـ لم يستطع العثمانيون ـ بدورهم ـ أن يواجهوا هذه الثورة العلمية الزاحفة .
وكما هي عادة المتخلف حضاريا ، والمتقدم عنصريا وعشائريا .. ذهب العرب .. وذهب غيرهم . إلى رمي الخلافة العثمانية ـ حاميتهم ـ بأنها المسئولة عن تخلفهم الذريع . وعندما ماتت هذه الخلافة موتها الحضاري قبل موتها التاريخي سرعان ما سقط هؤلاء في وهدة الغزو الصليبي ولم تنفعهم عنصريتهم القومية ، ومع ذلك لا يزالون يكيلون للخلافة العثمانية الطعنات .
لقد كانت الدولة العثمانية قوية بلا شك طيلة القرون التي حكمت فيها وإلي بداية اضمحلالها ، فلما بدأت سنوات الاضمحلال تحولت أسباب قوتها إلى أسباب ضعف . وهذا هو الشأن في قوانين الحضارة .. إن عوامل القوة تتحول برتابتها وعدم تجديدها لنفسها إلى عالة على حركة التطور ، ولقد أصبحت الإنكشارية ، وأصبحت وسائل الحرب التقليدية عالة على حركة التقدم العثماني ، وانقلبت العسكرية العثمانية التي قدمت ما قدمت للحضارة الإسلامية إلى عبء تنوء به الدولة . وفي ظل قرون القوة التي عاشتها الدولة تمتعت بأنظمة ممتازة من حكومة مركزية ، إلى مجلس وزراء يرأسه الصدر الأعظم، إلى ديوان سلطاني مكون من الوزراء وكبار الموظفين ، على القضاء الذي يرأسه شيخ الإسلام ، على نواب عن الجيش . أما في الولايات فكان يتولى أمر كل ولاية والي ( الباشا ) الذي يعين من قبل الخليفة ، ويعاونه في أعمال إدارة الولاية ( الديوان ) . أما القضاء فكان يتولاه قاضي القضاة ( قاضي العسكري ) . وقد قسمت الولايات إداريا إلى سناجق ، عين على كل منها حاكم سمي بالسنجق، مهمته الإشراف على شئون الأقاليم والحفاظ على الأمن ، وجمع الضرائب ، وفي كل ولاية كان يوجد حاكم عسكري وحامية عسكرية تساعد الباشا على حفظ النظام والأمن ...
كانت هذه هي خلاصة تنظيمات الدولة ، وكانت هذه التنظيمات وسائل قوة ، فلما انقلبت دفة الحضارة ، وظهر أن حركة التاريخ لم تكن في صف الدولة العثمانية تحولت هذه التنظيمات من أدوات قوة إلى أدوات ضعف .. وقد ساعد هذا الضعف على تحقيق أغراضه في تعجيز الدولة عن حماية الأراضي الخاضعة لها عدة عوامل :
أولا : ضعف بعض السلاطين وانغماسهم في الترف .
ثانيا : فساد أجهزة الدولة وانتشار الرشوة .
ثالثا : تدخل رجال الحاشية في شئون الحكم .
رابعا : وثمة عوامل أخرى كثيرة عملت عملها في إفساد الحياة السياسية والعقائدية والفكرية .. وجرت على الخلافة الويلات .
خامسا : ومما لا شك فيه أن " الأعداء " الصليبين ، والأعداء اليهود ـ كجماعات الدونما والماسونية ـ لا شك أن هؤلاء جميعا كانوا عوامل إضعاف للخلافة العثمانية .
وكان أكبر عوامل نجاح اليهود والصليبيين في ضرب الخلافة العثمانية الإسلامية .. هو بعثهم لما يسمى بالنزعات العنصرية . القومية ، الطورانية للترك ، والقومية الكردية ، والبربرية وعشرات القوميات المعروفة الأخرى .
وجروا هؤلاء جميعا إلى ترك الخلافة العثمانية في محنتها ، بل جروا إلى ضرب الخلافة والتجمع ضدها تحت قيادات قومية عميلة للجمعيات اليهودية ، وقد نجح بعض أفراد هذه القيادات نجاحا كبيرا في تبوؤ مناصب كبرى ، وبالتالي في ضرب العثمانيين والإسلام في الصميم .
الصراع العنصري كان سببا في انهيار آخر خلافة إسلامية :
تعتبر قصة سقوط الدولة العثمانية من القصص الغامضة التي لا زالت تحتاج إلى الدرس العميق والتمحيص الموضوعي .. ونحاول إجمال أبرز عناصر هذه القصة في هذه السطور ..... في خلال القرن الثامن عشر كانت أوروبا تكتل أحقادها للانقضاض على الخلافة العثمانية واقتسام أملاك " الرجل المريض " تركيا ـ وأطلقت على هذه النزعة اسم " المسألة الشرقية " باعتبار تركيا العقبة " الشرقية " الوحيدة التي تشكل خطرا على الصليبية الدولية . وحماية حقيقية لبلاد الإسلام المتناثرة .
ولم يكد ينتهي هذا القرن حتى كانت القوى الصليبية الكبرى في ذلك الوقت " بريطانيا وفرنسا والروسيا " تحاول الوصول إلى صيغة ملائمة للانقضاض واقتسام الغنائم . لا سيما وقد اكتشفوا ضعف الجانب التركي في معركة " سان جوتار " وعلى أبواب " فيينا " عموما .. عندما ظهر تخلف العسكرية العثمانية .
وفي سنة 1798 م كان صبي الثورة الفرنسية التي وقف اليهود وراء مبادئها " نابليون بونابرت " يزحف على مصر ليلقنها بمدافعه وخيوله وتحويله الأزهر الشريف إلى إسطبل لخيوله ، وتدميره القرى والمدن على امتداد الطريق بين القاهرة والإسكندرية .. يلقنها بهذه الوسائل وبغيرها من الوسائل الهمجية الأوروبية كالخمور والتحلل الخلقي وإغراء الخادمات المصريات .. يلقن مصر والعالم الإسلامي أو دروس القومية ، والمدنية والمبادئ الثلاثة الماسونية المزيفة التي رفعتها الثورة الفرنسية !!
ولم يكد يمضي على ذلك الحادث أكثر من ست سنوات حتى كانت بريطانيا تحاول غزو العالم العربي مستهلة وجودها فيه بغزو مصر سنة 1807 فيما يسمى بحملة فريزر " .. وبين هذه السنوات ، وبالتحديد في سنة 1803 نجح عميل فرنسي في أن يصل إلى الحكم ، ويعلن أكبر محاولة للانفصال عن الدولة العثمانية .. وكان هذا العميل الفرنسي " محمد علي باشا " صدى باهتا رديئا للغزو النابليوني لمصر .. وكما أهان نابليون بونابرت الأزهر ـ بدل إيقاظه لو كان قائد ثورة ، كذلك أهان محمد علي ـ الأزهر وعلماءه ـ وعلى الرغم من أن محمد علي كان مجرد " عبد " مملوك لا ينتمي إلى الدم العربي ، إلا أنه رفع راية القومية باعتبارها السلاح البراق الذي يمكن به ضرب الوحدة الإسلامية والشعور بالمصير الإسلامي الواحد .. ثم يتبع ذلك وضع العرب على انفراد ـ كما حدث فعلا ـ ، ولعل بعث " محمد علي " غير العربي للفتنة القومية لضرب الخلافة العثمانية ـ لمصلحة فرنسا ـ أكبر دليل على حقيقة جذور هذه اللعبة التي اخترعها تطور الفكر الأوروبي في عصر النهضة ، لكي يقضي على الشعوب ذات الوحدة الأيديولوجية كي تنفرد أوروبا بالتقدم وحدها ، بينما تضيع الدول والأيديولوجيات الأخرى في زحمة الانشقاقات القومية والجنسية ، وهذا ما حدث !!
وبعد أن كانت دولة الخلافة المسكينة تقف على تخوم القرن التاسع عشر تحاول أن تفيق من سكرة لقائها المفاجئ لمنتجات الحضارة الصناعية ، وتحاول أن تبحث عن حل حضاري مضاد .. وجدت دولة الخلافة نفسها متخمة بالمشاكل العنصرية التي أثارها عملاء الغرب .. هؤلاء العملاء الذين أنهكوا قواها ، وحاولوا أن يفرضوا عليها الدواء الأوروبي لعلاج أمراضها دون تبصر بحقيقة أمراضها . وبحقيقة اختلاف بنائها المادي والمعنوي ، ودون وعي بالعلاج الحضاري الناجع!
وامتدادا للخروج الشاذ الذي أعلنه المملوك الآبق " محمد علي " ظهرت محاولات أخرى للخروج وقام بها " بشير الشهابي " في لبنان ، وحركات في المغرب العربي ، بل وحركات داخل تركيا نفسها ترفع القومية الطورانية .
هذا فضلا عن حركات الخروج التي سبقت حركة " محمد علي " تحت تأثير دوافع انفصالية مختلفة ، كحركة علي بك الكبير سنة 1773م في مصر ، وحركة الشيخ ضاهر العمر سنة 1775م في فلسطين ، وفخر الدين المعنى في لبنان قبل سنة 1635م .... وهكذا .. كانت الدولة العثمانية تعاني من الداخل أشد المعاناة ، وتواجه من الخارج بتحديات صليبية غربية .. ففقدت على الطريق ـ بالتالي ـ أملاكها في أوروبا " هنغاريا ، وبلغراد ، وألبانيا ، واليونان ، ورومانيا وصربية ، وبلغاريا " .
وأكبر الظن أن بعض أتباع " لورانس " في ذلك الوقت قد فرحوا لسقوط هذه البلاد من يد الإمبراطورية الإسلامية الكبرى .
فهذا هو الهدف الحقيقي الذي ساقهم إليه أسيادهم من الصليبيين والماسون ! ..
سقطوا حين ساعدوا على سقوطها :
يدرج بعض الكتاب في العالم العربي على وصف الحركات المناهضة للدولة العثمانية ( بالحركات الاستقلالية ) .. !!
وهذا التعبير يوازي بين حركات الاستقلال عن الاستعمار الإنجليزي والفرنسي مثلا وبين حركات التمرد على الخلافة العثمانية . وفي تصور أصحاب هذا التعبير أن الدولة العثمانية لا تعدو أن تكون استعمارا . تماما كالاستعمار الإنجليزي ، وبالتالي يعتبر الانفصال عنها استقلالا ، والانشقاق عنها تحررا دون أية تفرقة بينها وبين الاستعمار الأوروبي .
وهؤلاء الكتاب الذي يفرضون هذه الروح على دراسة ( الخلافة الإسلامية العثمانية ) يتعمدون الوقوع في عدة أخطاء !
أولها : التجاهل التام لوشيجة ( الإسلام ) التي تربط العثمانيين بالعرب ، وهي وشيجة غير متوفرة في الاستعمار الأوربي .
ثانيها : ويتجاهل هؤلاء كذلك أربعة قرون ( أربعة أخماس ) ويذكرون قرنا واحدا هو فترة وقوف الدولة العثمانية في موقف الدفاع عن حياتها ، وتعلقها في سبيل ذلك بأي خيط ، وتخبطها تخبط المشرف على الغرق !!
ثالثها : وهؤلاء يتجاهلون كذلك أن الانفصال عن العثمانيين كان لحساب الاستعمار الأوروبي ، وأنه هو الذي كان يقوده مغذيا في العرب روح الانفصال لمصلحته !! وأن الوعي الديني والقومي الصحيح لو كان موجودا لأوجب التمسك بالخلافة وقيادتها في هذه المرحلة على الأقل كضربة للاستعمار الأوربي !!
لقد قدمت حركات الانفصال هذه أكبر خدمة للاستعمار الأوربي ، وفي الوقت نفسه جرت على الأمة العربية أكبر الويلات . وكان أكبر ويلاتها مأساة فلسطين ثم ما تبعها من هزيمة سنة 1967م .
ولم يقف أمر خطأ هذه الحركات عند هذا الحد ، بل إنها وقعت في خطأ ( أيديولوجي ) آخر ، فتركيا الإسلامية لم تكن أبدا حين بدءوا ينشقون عنها في مرحلة ( استعمار ) فالاستعمار مرحلة تاريخية معينة بحسب تعريفهم له ، تقف في قمة الهرم الرأسمالي أي أنها مرحلة اقتصادية تعني توفر رءوس الأموال لدرجة تتطلب فتح أسواق جديدة وتوفير أيد عاملة ومواد خام ، فهل كان العثمانيون يعيشون ( مرحلة الاستعمار ) هذه ؟ أم أنهم كانوا بحاجة إلى مجرد إصلاح اقتصادي بداخل تركيا نفسها ؟
إن كثيرا من المصلحين لم تفتهم هذه الحقيقة وعلى رأسهم : " الزعيم مصطفى كامل ـ في مصر ، وعبد العزيز جاويش ، ومحمد فريد ، وغيرهم ، بل إنني أشك كثيرا في أن أكثر الزعماء الإسلاميين الإصلاحيين كجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده .. أشك في أن هذه الحقيقة فاتتهم . وما كانت دعوة هؤلاء دعوة انفصالية عن الخلافة ، وإنما كانت دعوة إلى إصلاح أمر الخلافة الذي كان يميل إلى التداعي بفعل مؤثرات خارجية كثيرة ، ومؤثرات أخرى داخلية .
وقد وقعت هذه الحركات في خطأ آخر كبير .
فمنذ أواخر القرن التاسع عشر أخذت الحركة الصهيونية التي بدأت تأخذ شكلا تنظيميا واضحا مرتكزا على الأيديلوجية " الصهيونية " محاولة الوصول إلى أهدافها في إقامة دولة يهودية .
وفي سنة 1897م ( والسلطان عبد الحميد رحمه الله ـ هو الحاكم ) عقد المؤتمر الصهيوني بزعامة هرتزل في مدينة " بال " بسويسرا وهو المؤتمر المعروف باسم " مؤتمر بال " ووضعت خطة إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين .
وقد حاول الصهاينة بقيادة هرتزل إقناع ( السلطان عبد الحميد ) العثماني عدو القوميين العرب ـ بالسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين .. فرفض السلطان رفضا قاطعا ولم يكتف بهذا ، بل وأصدر قانونا بمنع الهجرة اليهودية وبمنع إقامة مستعمرات لليهود في فلسطين .
وكان هذا هو ( قشة البعير ) كما يقولون التي قصمت ظهر الرجل المظلوم ، فقد حرك الصهاينة .. حركات التحرر والحركات القومية ، والاستعمار الإنجليزي ، ووجدت الإمبراطورية العثمانية نفسها أمام طوفان من المشاكل لا ينتهي ، كان أشدها وأبعدها أثرا حركات التمرد الداخلي ، ومن الغريب جدا أن يكون مشعلو الثورات ضد الخلافة الإسلامية في داخل البلدان العربية من الطوائف الإسلامية أو الإسلامية المتطرفة التي تحركها أيديولوجيا وحركيا ـ أيد أجنبية ، لكن مع ذلك ، وبتأثير شعارات براقة صنعها اليهود ، بتأثير هذا وغيره من الوسائل اندمج في هذه التجمعات المضادة للخلافة بعض العناصر الإسلامية .
ولم تأت سنة 1918م إلا وكان السلطان عبد الحميد المظلوم قد سقط ، ووقعت جميع الأٌقطار العربية كمناطق نفوذ لبريطانيا وفرنسا .. وأيضا صدر ( وعد بلفور ) المشئوم في 2 نوفمبر 1917م ، وبدأت فلسطين تقع تحت الظروف الممهدة للزوال ، وكانت أولى الخطوات في ذلك وقوعها تحت الانتداب البريطاني في عام 1920م .
وبين الحربين العالميتين " 1918م ـ 1939م " كان التطبيق العملي للمؤامرة العالمية ، وأيضا في الجانب الآخر الحركات الداخلية الممتصة للطاقة والمبددة لها والصارفة عن الخط الحقيقي لاستهلاكها .. كان ذلك كله يعمل على سقوط الخلافة
العثمانية ، وسقوط العرب بدءا من فلسطين !!
وطوى اليهود .. آخر صفحاتنا المشرقة !
كان رفض السلطان العظيم " عبد الحميد " تهويد فلسطين لطمة لم ينس اليهود أن يردوها للخلافة ردا سخيا لم يكن بوسع السلطان عبدالحميد أن يتخيله !1
فإلى جانب ما ذكرناه من تحريك للقوى المناوئة للدولة ، ومن غرس لبذور الفكرة العنصرية المحاربة للراية الإسلامية الموحدة لربع البشر !!
إلى جانب هذا .. هجم اليهود من الداخل على الدولة العثمانية بواسطة الأسلحة نفسها التي استعملوها في كل بلدان العالم الإسلامي، وهي أسلحة العنصرية والتحضرية، والحرية ، والإخاء ، والمساواة .. وهلم جرا من الشعارات التي اصطنعها الماسون ، وروجوا لها ، واستعملوا بعض المخدوعين لإذاعتها وتفتيت راية الأمة وقبلتها وأهدافها !!
وكانت جماعة تركيا الفتاة ثم الاتحاد والترقي هما الأداتين اللتين سخرهما اليهود وطوعوهما لهذا الغرض . وكانت الكاتبة " خالدة أديب " إحدى المروجات على المستوى الأدبي والفكري لفكرة القومية الطورانية ، بينما كان زعماء تركيا الفتاة هم المنفذون على المستويات الأخرى لعملية إحداث الانقلاب نحو تخلي تركيا عن هويتها ورسالتها الإسلامية ..
وقد أقحم هؤلاء تركيا في الحرب العالمية الأولى دون مبرر معقول أو سبب يتعلق بها . فلما هزم الألمان ، أذعنت تركيا للهزيمة بنفسها ، وسجل رسميا سقوط الكرامة العثمانية الإسلامية بهدنة رودس في 1918م .
وقد غادر زعماء تركيا الفتاة البلاد ، فقصد أحدهم " أنور باشا " روسيا ، وقصد " طلعت باشا " ألمانيا ، ولقد شاء الله أن يقتص منهم قصاصا دنيويا عاجلا ، فلم يلبث " أنور باشا " أن قتل اغتيالا في تركستان ، وأن يصرع طلعت في برلين ، ويغتال جمال في تفليس " أما الكاتبة خالدة أديب .. التي طال بها العمر فترة .. فلم تلبث أن طردت شر طردة ، من تركيا بعد خلاف حاد بينها وبين الزعيم اليهودي الكبير مصطفى كمال أتاتورك !!
ولم تكد الحرب العالمية الأولى توشك على الانتهاء حتى كانت الدول الأوروبية قد أتمت المسرحية الهزلية .. لاقتسام أملاك الخلافة الإسلامية الأخيرة ، ولإبراز رجل ينفذ مخططاتهم وأطماعهم بحذافيرها .. وعلى الرغم من أن الكتابات الاستشراقية والكتابات الصليبية واليهودية والشيوعية تجمع على إخفاء هذه الحقيقة ، فإن الأحداث بطبيعة تطورها تثبت هذه الحقيقة ، ويكاد يصرح بهذه الحقيقة المستشرق " كارل بروكلمان " على الرغم من ذكائه الحاد في تطويع الحقائق ، وبترها وإضفاء جو إنشائي حماسي عليها ، نعم ، يكاد يصرح بهذا في كتابه الشهير " تاريخ الشعوب الإسلامية ـ الدولة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى " وهو يقول : " عند ذلك .. هيأت الدول الحليفة لتركيا ـ لاحظ الحليفة ـ الفرصة السانحة للرجل الذي قدر له أن ينشئ تركية الحديثة ـ يقصد اليهودي الدونمي أتاتورك ـ " ولنا أن نتساءل : أي دول حليفة لتركيا تلك التي حولتها من زعيمة روحية ـ على الأقل ـ لربع البشرية إلى دولة هزيلة تعيش بلا ماض وبلا حاضر وبلا مستقبل ؟ وأي دول هذه التي ساعدت هذا اليهودي على إلغاء الحروف العربية ، وإزالة الأوقاف ، وإغلاق المساجد ، وقصر علماء الدين على ثلاثمائة واعظ في طول البلاد وعرضها ، وتحويل مسجد " أياصوفيا " الشهير إلى متحف ، ومسجد محمد الفاتح إلى مستودع ، وإلغاء الشريعة الإسلامية ، واستبدال القبعة بلباس الرأس الوطني السابق " الطربوش " وفرض اللباس الأوربي بالقوة ،وحذف اللغة العربية واللغة الفارسية من مناهج التعليم بالمرة ، وبيع الكتب والمخطوطات العربية بأبخس الأثمان ، فضلا عن التعليم العلماني الأوروبي ، ليس في المجال التقني كما يجب أن يكون ، بل ـ فقط ـ في المجال الإنساني والأدبي والديني ! .
إن إلغاء الخلافة الإسلامية وإعلان الجمهورية التركية في 29 أكتوبر سنة 1923م ، وانتخاب مصطفى كمال أتاتورك من قبل جمعية لقبت نفسها " بالجمعية الوطنية " ، إن هذا كله لم يكن يعني سقوط تركيا الإسلامية في الحقيقة ، فكم من شعارات براقة زائفة ترفع ثم لا تلبث أن تزول . لكن تمكن الأتاتوركي " الغازي " من السيطرة على البلاد ، بمساعد ( الدول الحليفة لتركيا ) كما يقول بروكلمان وأمثاله ، ثم الاجراءات الخطيرة التي ذكرناها والتي اتخذها أتاتورك بعد ذلك .
هذه في الحقيقة كانت الإلغاء الحقيقي لتركيا الإسلامية وللخلافة العثمانية .
ولم يكن الخليفة العثماني محمد السادس الذي عاصر هذا الانقلاب ، كما لم يكن الخليفة الذي وضعه الانقلابيون مكانه عبد المجيد بن عبد العزيز " لم يكن هذا وذاك أكثر من تحفتين تاريخيتين .. تحملان معالم صورة هزيلة مهتزة ، لحقيقة كانت ـ يوما ما ـ عظيمة قوية ترعب أوربا كلها .
ومع ذلك فلقد أدرك مصطفى كمال الدونمي اليهودي أن البقاء الرمزي الصوري لهذه الحقيقة القوية العظيمة يشكل في حد ذاته خطرا على مخططاته الصهيونية .. ولذا فلم يكد يملك السلطة في يده ويتربع بتؤدة على عرش السيطرة لمدة خمسة أشهر ، حتى أعلن إلغاء الخلافة الإسلامية ، ثم طرد آخر خليفة للمسلمين من البلاد في اليوم الثالث من مارس سنة 1924م .
ولعل العقلاء وحدهم هم الذين يسألون : ماذا استفادت تركيا من هذه الخطوة ؟ وماذا كان يمكن أن تكسب لو أنها مضت في طريق الإصلاح مبقية على مركزها كزعيمة روحية إذا كانت هناك نية إصلاح حقيقية ؟ .
ولعل هذا وذاك يفسران للعقلاء وحدهم أن هناك أمرا كان مبيتا ، وأن العالم الإسلامي والعالم العربي كانا من الأهداف الرئيسية لضرب الخلافة الإسلامية ، ولم تكن أبدا تركيا هي المقصودة وحدها .
وفعلا تداعت تركيا وسقطت ، فلم تقم لها قائمة حتى اليوم وتداعى بعدها ومعها العالم الإسلامي بلدا بلدا ، وفكت أواصر الحب والوحدة .. ونال العرب حظهم من كل ما أصاب العالم الإسلامي .. ولعل الأقدار قد لقنتهم أقسى الدروس ، حين زرعت في قلبهم شوكة الصهيونية .
تؤرق مضجعهم ، وتنتقم للخلافة الإسلامية وتطلعهم بجلاء على حقيقة كمال أتاتورك ، وحقيقة مخططاته .. وأيضا على حقيقة الذين ساروا على هدى أتاتورك في فلسطين العربية وفق انقلابات يقف وراءها اليهود مستترين في كلمات الشيوعية أو الحرية أو " القومية " .. ليزرعوا في القلب العربي أشواكا أخرى !!.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق