إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 1 ديسمبر 2014

560 زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث فصل فى فقه قصة وفد نجران


560

زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث

فصل

فى فقه قصة وفد نجران

         ففيها: جوازُ دُخولِ أهلِ الكتاب مساجدَ المسلمين.
         وفيها: تمكينُ أهلِ الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً، ولا يُمكَّنون من اعتياد ذلك.
         وفيها: أنَّ إقرارَ الكاهن الكِتابى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبى لا يُدخله فى الإسلام ما لم يلتزِمْ طاعتَه ومتابعته، فإذا تمسَّك بدينه بعد هذا الإقرار لا يكونُ رِدَّة منه، ونظيرُ هذا قول قول الحَبْرينِ له، وقد سألاه ثلاث مسائل، فلما أجابهما، قالا: نشهد أنك نبى، قال: ((فما يمنعُكما مِن اتباعى))؟ قالا: نخاف أن تقتُلَنا اليهودُ، ولم يُلزمهما بذلك الإسلام، ونظيرُ ذلِكَ شهادةُ عمه أبى طالب له بأنه صادق، وأنَّ دينَه مِن خير أديان البرية ديناً، ولم تُدخِلْه هذه الشهادةُ فى الإسلام.
         ومَن تأمَّل ما فى السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة فى الإسلام، علم أنَّ الإسلامَ أمرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفةُ والإقرارُ، والانقيادُ، والتزامُ طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.
          وقد اختلف أئمةُ الإسلام فى الكافر إذا قال: أشهدُ أن محمداً رسولُ اللهِ ولم يَزِدْ، هل يُحكم بإسلامه بذلك؟ على ثلاثة أقوال، وهى ثلاثُ روايات عن الإمام أحمد، إحداها: يُحكم بإسلامه بذلك، والثانية: لا يُحكـم بإسلامه حتى يأتىَ بشهادة أنْ لا إله إلا الله، والثالثة: أنَّه إذا كان مقراً بالتوحيد، حُكِم بإسلامه، وإن لم يكن مقراً، لم يُحكم بإسلامه حتى يأتىَ به، وليس هذا موضعَ استيفاء هذه المسألة، وإنما أشرنا إليه إشارة، وأهلُ الكتابين مجمعون على أنَّ نبياً يخرج فى آخر الزمان، وهم ينتظرونه، ولا يَشُكُّ علماؤهم فى أنه محمدُ بنُ عبد الله بن عبد المطلب، وإنما يمنعُهم من الدخول فى الإسلام رئاستُهم على قومهم، وخضوعُهم لهم، وما ينالونه منهم مِن المال والجاه.
         ومنها: جوازُ مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحبابُ ذلك، بل وجوبُه إذا ظهرت مصلحتُه من إسلام مَن يُرجى إسلامُه منهم، وإقامة الحُجَّة عليهم، ولا يهرُب من مجادلتهم إلا عاجزٌ عن إقامة الحُجَّة، فليوَلِّ ذلك إلى أهله، وليُخَلّ بَيْنَ المَطِىِّ وحَادِيها، والقوسِ وباريها، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرنا مِن الحُجَج التى تلزمُ أهل الكتابَيْنِ الإقرارَ بأنه رسولُ الله بما فى كتبهم، وبما يعتقدونه بما لا يُمكنهم دفعُه ما يزيد على مائة طريق، ونرجو من الله سبحانه إفرادَها بمصنَّف مستقل.
(يتبع...)
@                  ودار بينى وبين بعض علمائهم مناظرةٌ فى ذلك، فقلت له فى أثناء الكلام: ولا يتم لكم القَدح فى نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بالطعن فى الربِّ تعالى والقدح فيه، ونسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد، تعالى الله عن ذلك، فقال: كيف يلزمُنا ذلك؟ قلت: بل أبلغ مِن ذلك، لا يَتمُّ لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى، وبيانُ ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبىٍّ صادق، وهو يزعمكم ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفترىَ على الله، ويتقوَّل عليه ما لم يقُلْه، ثم يتم له ذلك، ويستمر حتى يُحلِّل، ويُحَرِّمَ، ويفرِضَ الفرائضَ، ويشرع الشرائع، وينسخَ المِلل، ويضربَ الرِّقاب، ويقتلَ أتباعَ الرُّسل، وهم أهلُ الحق، ويسبى نساءَهم وأولادَهم، ويَغْنَم أموالهم ودِيارَهم، ويَتِمَّ له ذلك حتى يفتحَ الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له، والربُّ تعالى يُشاهده، وما يفعل بأهل الحقِّ وأتباع الرُّسُل، وهو مستمر فى الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، وهو مع ذلك كُلِّه يُؤيده وينصُره، ويُعلى أمره، ويُمكِّن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البَشَر، وأعجَب من ذلك أنه يُجيب دعواته، ويُهلِكُ أعداءَه من غير فعل منه نفسه ولا سبب، بل تارة بدعائه، وتارة يستأصِلُهم سبحانه من غير دعاء منه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقضى له كل حاجة سأله إياها، ويعده كل وعد جميل، ثم ينجز له وعده على أتمِّ الوجوه، وأهنئها، وأكملها، هذا وهو عندكم فى غاية الكذِب والافتراءِ والظُّلم، فإنه لا أكذبَ ممن كذبَ على اللهِ، واستمرَّ على ذلك، ولا أظلمَ ممن أبطل شرائعَ أنبيائه ورُسُله، وسعى فى رفعها من الأرض، وتبديلها بما يُريد هو، وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رُسُله، واستمرت نصرتُه عليهم دائماً، والله تعالى فى ذلك كُلِّهِ يقره، ولا يأخُذ منه باليمين، ولا يقطَعُ منه الوتَين، وهو يُخبِرُ عن ربه أنه أُوحى إليه أنه لا: {أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِىَ إلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ}[الأنعام: 93]، فيلزمُكم معاشِرَ مَنْ كذَّبه أحدُ أمرين لا بد لكم منهما:
         إما أن تقُولوا: لا صانِع للعالَم، ولا مُدَبِّرَ، ولو كان للعالَم صانع مدبِّرٌ قديرٌ حكيم، لأخذ على يديه، ولقابله أعظمَ مقابلة، وجعله نكالا للظالمينَ إذ لا يليقُ بالملوك غيرُ هذا، فكيف بملك السماواتِ والأرض، وأحكم الحاكمين؟
         الثانى: نِسبةُ الربِّ إلى ما لا يليق به من الجور، والسفه، والظلم، وإضلال الخلق دائماً أبَد الآباد، لا بَلْ نصرة الكاذب، والتمكين له من الأرض، وإجابة دعواته، وقيام أمره مِن بعده، وإعلاء كلماته دائماً، وإظهار دعوته، والشهادة له بالنبوة قرناً بعد قرن على رؤوس الأشهاد فى كل مجمع وناد، فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فلقد قدحتم فى رب العالمين أعظمَ قدح، وطعنتم فيه أشَدَّ طعن، وأنكرتموه بالكلية، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذَّابين قام فى الوجود، وظهرت له شَوْكة، ولكن لم يتم له أمرُه، ولم تطل مدته، بل سَلَّط عليه رُسُله وأتباعهم، فمحقوا أثره، وقطعوا دابره، واستأصلوا شأفته. هذه سُـنَّته فى عباده منذ قامت الدنيا، وإلى أن يرث الأرض ومَن عليها.
          فلما سمع منى هذا الكلام، قال: معاذَ الله أن نقول: إنه ظالم أو كاذب، بل كُلُّ منصف من أهل الكتاب يُقِرُّ بأنَّ مَن سلك طريقه، واقتفى أثَره، فهو مِن أهل النجاة والسعادة فى الأُخرى، قلتُ له: فكيف يكون سالكُ طريق الكذَّاب، ومقتفى أثره بزعمكم مِن أهل النجاة والسعادة؟
         فلم يجد بُداً من الاعتراف برسالته، ولكن لم يُرسَل إليهم. قلت: فقد لزمك تصديقُه ولا بد، وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسولُ رب العالَمين إلى الناس أجمعينَ، كِتَابِيهم وأُمِّيهم، ودعا أهل الكتاب إلى دينه، وقاتل مَن لم يدخُلْ فى دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية، فَبُهِتَ الكافِرُ، ونهض مِن فوره.
         والمقصود: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يزل فى جِدالِ الكفار على اختلاف مِللهم ونِحَلِهم إلى أن تُوفى، وكذلك أصحابُه من بعده، وقد أمره الله سبحانه بجدالهم بالتى هى أحسن فى السورة المكية والمدنية، وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحُجَّةِ إلى المُباهلة، وبهذا قام الدينُ، وإنما جُعِلَ السيفُ ناصِراً للحُجَّة، وأعدلُ السيوفِ سيفٌ ينصُرُ حُجَجَ اللهِ وبيِّناتِه، وهو سيفُ رسوله وأُمته.
        
                    



يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق