366
زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث
فصل
وكذلك صالحَ أهلَ خيبرَ لما ظهر عليهم على أن يُجْلِيَهُمْ منها، ولَهُمْ ما حملَتْ رِكَابُهم، ولرسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصَّفراءُ والبيضَاءُ، والحَلْقَةُ، وهى السلاح. واشترط فى عقد الصلح ألا يكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئاً، فإن فعلُوا، فلا ذِمة لهم، ولا عهد، فغيَّبُوا مَسْكاً فيه مال وَحُلِىٌ لِحُـيَىّ بنِ أَخْطَب كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضيرُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعم حُـيَىّ ابنِ أَخطب، واسمه سَعْيةُ: ((مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَىٍّ الَّذِى جَاءَ بهِ مِنَ النَّضير)) ؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال:
((العَهْدُ قَرِيبٌ، والمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذلِكَ)). وقد كان حُيَىّ قُتِلَ مع بنى قُريظة لـمَّا دخل معهم، فدفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمَّه إلى الزُّبير ليستقِرَّه، فَمَسَّهُ بعذاب، فقال: ((قَدْ رَأَيْتُ حُييَّاً يَطُوفُ فى خَربَةٍ ههنا. فذهبوا فطافُوا، فوجدوا المَسك فى الخَرِبَةَ، فقتلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنى أبى الحُقَيْقِ، وأحدهما زوج صفية بنت حُـيَىّ بن أخطب، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنَّكْثِ الَّذى نَكَثُوا، وأرادَ أن يُجليهم مِن خيبر، فقالوا: دعنا نكون فى هذه الأرض نُصلِحُهَا ونقومُ عليها، فنحنُ أعلمُ بها منكم، ولم يكن لِرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غِلمان يكفونهم مؤنتها، فدفعها إليهم على أن لِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ شىءٍ يخرُج منها مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَلَهُمُ الشَّطْرُ، وعَلَى أَنْ يُقِرَّهُم فِيهَا مَا شَاء.
ولم يعمَّهم بالقتل كما عمَّ قُريظة لاشتراك أولئك فى نقض العهد، وأما هؤلاء فالذين عَلِمُوا بالمَسك وغيَّبُوه، وشرطوا له إن ظهر، فلا ذِمة لهم ولا عهد، فإنه قتلَهم بشرطهم على أنفسهم، ولم يتعدَّ ذلك إلى سائر أهلِ خيبر، فإنه معلوم قطعاً أن جميعَهم لم يعلمُوا بمَسك حُـيَىّ، وأنه مدفون فى خَرِبَةٍ، فهذا نظيرُ الذِّمىِّ والمعاهَدِ إذا نقض العهدَ، ولم يُمالِثه عليه غيرُه، فإن حكم النقض مختصٌ به.
ثم فى دفعه إليهم الأرضَ على النصف دليل ظاهر على جواز المساقاة والمزارعة، وكون الشجر نخلاً لا أثر له البتة، فحكم الشىء حكم نظيره، فَـبَلَدٌ شجرُهم الأعناب والتين وغيرهما من الثمار فى الحاجة إلى ذلك، حكمه حكم بلد شجرُهُمْ النخل سواء، ولا فرق.
وفى ذلك دليل على أنه لا يُشترط كونُ البذر من ربِّ الأرضِ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالحهم عن الشطر، ولم يُعْطِهم بذراً البتة، ولا كان يُرسِلُ إليهم بِبِذر، وهذا مقطوع به مِن سِيرته، حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لو قِيل باشتراط كونه مِن العامل، لكان أقوى من القول باشتراط كونِه من ربِّ الأرض، لموافقته لِسُـنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فى أهل خيبر.
والصحيح: أنه يجوز أن يكون من العامل، وأن يكونَ مِن ربِّ الأرض، ولا يُشترط أن يختصّ به أحدُهما، والذين شرطُوه من ربِّ الأرض، ليس معهم حُجةٌ أصلاً أكثرَ من قياسهم المزارعة على المُضاربة، قالوا: كما يُشترط فى المضاربة أن يكون رأسُ المالِ مِن المالك، والعملُ من المضارب، فهكذا فى المزارعة، وكذلك فى المساقاة يكون الشَّجرُ مِن أحدهما، والعملُ عليها من الآخر، وهذا القياسُ إلى أن يكون حجةً عليهم أقربُ من أن يكون حجةً لهم، فإن فى المضاربة يعودُ رأسُ المال إلى المالك، ويقتسمان الباقى، ولو شرط ذلك فى المزارعة، فسدت عندهم، فلم يُجْرُوا البِذْرَ مجرى رأس المال، بل أجَروْهُ مجرى سائر البقل، فبطل إلحاق المزارعة بالمضاربة على أصلهم.
وأيضاً فإن البذر جارٍ مجرى الماء، ومجرى المنافع، فإن الزرعَ لا يتكون وينمُو به وحده، بل لا بُد من السقى والعملِ، والبِذرُ يموتُ فى الأرض، ويُنشىء الله الزرعَ مِن أجزاء أُخر تكون معه من الماء والريح، والشمسِ والتراب والعمل، فحكم البذرِ حكمُ هذه الأجزاء.
وأيضاً فإن الأرض نظيرُ رأس المال فى القِراض، وقد دفعها مالكُها إلى المُزارع، وبِذرُها وحرثُهَا وسقيُهَا نظيرُ عمل المضارب، وهذا يقتضى أن يكون المزارع أولى بالبِذر مِن ربِّ الأرض تشبيهاً له بالمضارب، فالذى جاءت به السُّـنَّة هو الصواب الموافق لقياس الشرع وأُصوله.
وفى القصةِ دليل على جواز عقدِ الهُدنة مطلقاً مِن غير توقيت، بل ما شاء الإمامُ، ولم يجىء بعد ذلك ما ينسخ هذا الحكم البتة، فالصوابُ جوازه وصحته، وقد نصَّ عليه الشافعىُّ فى رِواية المزنى، ونص عليه غيرُه من الأئمة، ولكن لا ينهضُ إليهم ويُحاربهم حتى يُعْلِمَهُمْ على سواء ليستووا هُمْ وهُوَ فى العلم بنقض العهد.
وفيها دليل على جواز تعزيرِ المتهم بالعُقُوبة، وأن ذلك مِن السياسات الشرعية، فإنَّ الله سبحانه كان قادراً على أن يَدُلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الكنز بطريق الوحى، ولكن أراد أن يَسُنَّ لِلأُمَّةِ عقوبةَ المتهمين، ويُوسِّعَ لهم طُرُقَ الأحكام رحمة بهم، وتيسيراً لهم.
وفيها دليل على الأخذ بالقرائن فى الاستدلال على صِحةِ الدَّعوى وفسادها، لقوله صلى الله عليه وسلم لِسِعْيَةَ لما ادَّعى نفادَ المال: ((العَهْدُ قَرِيبٌ، والمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ)).
وكذلك فعل نبى الله سليمان بن داود فى استدلاله بالقرينة على تعيين أم الطفل الذى ذهب به الذئب، وادَّعت كل واحدة من المرأتين أنه ابنُها، واختصمتا فى الآخر، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا إلى سُليمان، فقال: بِم قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِىُّ الله ؟ فأخبرتاه. فقال: ائتونى بالسِّكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعلْ رحمك الله، هو ابنُهَا، فقضى به للصغرى فاستدل بقرينةِ الرحمة والرأفة التى فى قلبها، وعدم سماحتها بقتله وسماحة الأخرى بذلك، لتصير أُسوتها فى فقد الولد على أنه ابن الصغرى.
فلو اتفقت مثلُ هذه القضية فى شريعتنا، لقال أصحابُ أحمد والشافعى ومالك رحمهم الله: عمل فيها بالقافة، وجعلوا القافة سبباً لترجيح المدعى للنسب رجلاً كان أو امرأةً.
قال أصحابُنا: وكذلك لو ولدت مسلمةُ وكافرةُ وَلَدَيْنِ، وادَّعَتِ الكافرةُ ولد المسلمة، وقد سُئل عنها أحمد، فتوقف فيها. فقيل له: ترى القافة ؟ فقال: ما أحْسَنَهَا، فإن لم تُوجد قافةٌ، وحكم بينهما حاكم بمثل حُكم سليمان، لكان صواباً، وكان أولى من القُرعة، فإنَّ القُرعة إنما يُصار إليها إذا تساوى المدعيانِ من كل وجه، ولم يترجَّحْ أحدُهما على الآخر، فلو ترجَّح بيد أو شاهد واحد، أو قرينة ظاهرة مِن لَوْثٍ، أو نُكولِ خصمه عن اليمين، أو موافقةِ شاهد الحال لصدقه، كدعوى كل واحد من الزوجين ما يصلُح له من قماش البيت والآنية، ودعوى كل واحد من الصانعين آلات صنعته، ودعوى حاسِر الرأس عن العمامة عمامة مَن بيده عمامة، وهو يشتد عدواً، وعلى رأسه أخرى، ونظائر ذلك، قُدِّمَ ذلِكَ كله على القُرْعة.
ومن تراجم أبى عبد الرحمن النسائى على قصة سليمان: ((هذا باب، الحكم يُوهم خِلافَ الحق، ليستعلم به الحقَّ))، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يقص علينا هذه القصة لنتخذها سمراً، بل لنعتبرَ بها فى الأحكام، بل الحكم بالقَسامة وتقديم أيمان مدعى القتل هو من هذا استناداً إلى القرائن الظاهرة، بل ومن هذا رجمُ الملاعنة إذا التعنَ الزوجُ ونكَلَتْ عن الالتعان. فالشافعى ومالك رحمهما الله، يقتلانِها بمجرد التعان الزوج، ونكولها استناداً إلى اللَّوْثِ الظاهر الذى حصل بالتعانه، ونكولها.
ومن هذا ما شرعه الله سبحانه وتعالى لنا مِن قبول شهادة أهلِ الكتاب على المسلمين فى الوصيةِ فى السفر، وأن وليي الميت إذا اطَّلعا على خِيانة من الوصيين، جاز لهما أن يحلفا ويستحقا ما حلفا عليه، وهذا لوثٌ فى الأموال، وهذا نظير اللَّوثِ فى الدماء، وأولى بالجواز منه، وعلى هذا إذا اطلع الرجلُ المسروقُ مالُه على بعضه فى يد خائِنٍ معروفٍ بذلك، ولم يتبين أنه اشتراه من غيره، جاز له أن يَحْلِفَ أن بقية ماله عنده، وأنه صاحبُ السرقة استناداً إلى اللَّوث الظاهر، والقرائن التى تكشف الأمر وتوضحه، وهو نظيرُ حَلفِ أولياءِ المقتولِ فى القَسَامَةِ أَن فلاناً قتله: سواء، بل أمرُ الأموالِ أسهلُ وأخفُّ، ولذلك ثبت بشاهدٍ ويمينٍ، وشاهدٍ وامرأتين، ودعوى ونكولٍ، بخلاف الدماء. فإذا جاز إِثْباتُهَا باللَّوثِ، فإثباتُ الأموال به بالطريق الأولى والأحرى.
والقرآن والسُّـنَّة يدلان على هذا وهذا، وليس مع مَن ادَّعى نسخَ ما دلَّ عليه القرآن من ذلك حُجَّةُ أصلاً، فإن هذا الحكم ُ فى سورة ((المائدة))، وهى مِن آخر ما نَزَلَ مِن القرآن، وقد حكم بموجبِهَا أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَه، كأبى موسى الأشعرى، وأقرَّه الصحابةُ.
ومن هذا أيضاً ما حكاه الله سبحانه فى قصة يوسف مِن استدلال الشاهد بِقرينةِ قَدِّ القميصِ مِنْ دُبُرٍ على صِدقه، وكذبِ المرأة، وأنه كان هارباً مُوَلِّياً، فأدركته المرأةُ مِن ورائه، فجبذته، فقدَّت قميصه مِنْ دُبُرٍ، فعلم بعلُها والحاضرونَ صدقه، وقبلوا هذا الحكم، وجعلوا الذنبَ ذنبها، وأمروها بالتوبة، وحكاه الله سبحانه وتعالى حكاية مقرِّرٍ له غيرِ منكر، والتَّأَسِّى بذلك وأمثاله فى إقرار الله له، وعدم إنكاره، لا فى مجرَّدِ حكايته، فإنه إذا أخبر به مقراً عليه، ومُثنياً على فاعله، ومادحاً له، دل على رضاه به، وأنه موافق لحكمه ومرضاته، فليُتَدَبَّر هذا الموضعُ، فإنه نافع جداً، ولو تتبعنا ما فى القرآن والسُّـنَّة، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك لطال، وعسى أن نُفْرِدَ فيهِ مصنفاً شافياً إن شاء الله تعالى. والمقصود: التنبيه على هَديه، واقتباس الأحكام من سيرته، ومغازِيهِ، ووقائعه صلواتُ الله عليه وسلامه.
ولما أَقَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فى الأرض، كان يبعثُ كلَّ عام مَن يَخْرُصُ عليهم الثمارَ، فينظُرُ: كَمْ يُجنى منها، فَـيُضمنهم نصيبَ المسلمين، ويتصرفون فيها.
وكان يكتفى بخارص واحد. ففى هذا دليل على جواز خَرْصِ الثمار البادى صلاحُها كثمر النخل، وعلى جواز قسمة الثمار خرصاً على رؤوس النخل، ويصيرُ نصيبُ أحد الشريكين معلوماً وإن لم يتميز بعد لمصلحة النماء، وعلى أن القسمة إفراز لا بيع، وعلى جواز الاكتفاء بخارص واحد، وقاسمٍ واحد، وعلى أنَّ لِمن الثمارُ فى يده أن يتصرَّف فيها بعد الخرص، ويَضْمَن نصيبَ شريكه الذى خرص عليه.
فلما كان فى زمن عمر، ذهب عبدُ الله ابنه إلى ماله بخيبر، فَعَدَوْا عليه، فألقوه من فوق بيت، ففكُّوا يده فأجلاهم عمر منها إلى الشام، وقسمها بين مَن كان شهد خيبر من أهل الحُديبية.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق