422
زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث
فصل
فيما كان فى غزوة خَيْبَر من الأحكام الفقهية
فمنها محاربةُ الكفار ومقاتلتُهم فى الأشهر الحُرُم، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجع مِن الحُديبية فى ذى الحِجَّة، فمكث بها أيَّاماً، ثم سار إلى خَيْبَرَ فى المحرَّم، كذلك قال الزُّهرىُّ عن عُروة، عن مروان والمِسور بن مخرمة، وكذلك قال الواقدى: خرج فى أول سنة سبع من الهِجرة، ولكن فى الاستدلال بذلك نظر، فإن خُروجَه كان فى أواخر المحرَّم لا فى أوله، وفتحُها إنما كان فى صَفَر، وأقوى من هذا الاستدلال بيعةُ النبى صلى الله عليه وسلم أصحابَه عند الشجرة بَيْعةَ الرضوان على القتال، وألا يَفِرُّوا، وكانت فى ذى القَعْدَة، ولكن لا دليلَ فى ذلك، لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يُريدون قتاله، فحينئذ بايع الصحابة، ولا خلاف فى جواز القتال فى الشهر الحرام إذا بدأ العدو، إنما الخلاف أن يُقاتل فيه ابتداءً، فالجمهور: جوَّزوه، وقالوا: تحريمُ القِتَال فيه منسوخٌ، وهو مذهبُ الأئمة الأربعة، رحمهم الله.
وذهب عطاء وغيرُه إلى أنه ثابتٌ غيرُ منسوخ، وكان عطاء يحلِفُ بالله: ما يَحِلُّ القِتَالُ فى الشهر الحرام، ولا نسَخَ تحريمَه شىءٌ.
وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلالُ بحصار النبى صلى الله عليه وسلم للطائف، فإنه خرج إليها فى أواخِر شوَّال، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، فبعضُها كان فى ذى القَعَدة، فإنه فتح مكة لِعَشرٍ بقينَ مِن رمضان، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرةَ يقصُرُ الصلاة، فخرج إلى هَوازن وقد بقى من شوَّال عشرون يوماً، ففتح الله عليه هَوازِنَ، وقسم غنائمها، ثم ذهب منها إلى الطائف، فحاصرها بضعاً وعشرين ليلة، وهذا يقتضى أن بعضها فى ذى القَعَدة بلا شك.
وقد قيل: إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة. قال ابنُ حزم: وهو الصحيح بلا شك، وهذا عجيب منه، فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفى ((الصحيحين)) عن أنس بن مالك فى قصة الطائف، قال: ((فحاصرناهُم أربعينَ يوماً، فاستعصوا وتمنعوا)) وذكر الحديث فهذا الحصار وقع في ذي القَعدة بلا ريب، ومع هذا فلا دليل في القصة، لأن غزو الطائف كان مِن تمام غزوة هَوازن، وهم بدؤوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالقتال، ولما انهزموا، دخل ملكُهم، وهو مالكُ بنُ عوف النَّضري مع ثقيف في حِصن الطائف محاربينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان غزوُهُم مِن تمام الغزوة التي شرع فيها، والله أعلم.
وقال اللّه تعالى في (سورة المائدة) وهي من آخر القرآن نزولاَ ، وليس فيها منسوخ : {يَا أيُها الَذِينَ آمَنُوا لا تُحلُوا شَعَائِرَ اللهِ ولا الشَهْرَ الحَرامَ ، ولا الهَدْي ولا القَلائِدَ} [المائدة : 2].
وقال في سورة البقرة : {ويسأَلُونَكَ عَنِ الشَهرِ الحَرامِ قِتالٍ فيه قُل : قِتَالٌ فيهِ كَبير وصدٌ عَنْ سَبيلِ اللهِ} [البقرة: 217]، فهاتان آيتان مدنيتان ، بينهما في النزول نحوُ ثمانيةِ أعوام ، وليس في كتاب الله ولا سنةِ رسوله ناسخ لحكمهما ، ولا أجمعتِ الأمةُ على نسخه ، ومن استدل على نسخه بقوله تعالى: {وقاتِلُوا المُشرِكِينَ كَافَةَ} [التوبة : 36] ونحوِها من العمومات ، فقد استدلَّ على النسخ بما لا يدُلُ عليه ، ومن استدل عليه بان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سريةٍ إلى أوطاس في ذي القَعدة ، فقد استدل بغير دليل ، لأن ذلك كان مِن تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ، ولم يكن ابتداءً منه لقتالهم في الشهر الحرام .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق