453
زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث
فصل
فى النَّفَر الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم ولم يؤمِّنهم
ولما استقر الفتح، أمَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ كُلَّهُم إلا تسعة نَفَر، فإنه أمر بقتلهم،وإن وُجِدُوا تحتَ أستارِ الكعبةِ، وهم عبدُ الله بن سعد بن أبى سَرْح، وعِكْرِمةُ بن أبى جهل، وعبد العُزَّى بن خَطَل، والحارثُ بنُ نُفيل ابن وهب، ومَقِيس بن صُبابة، وهَبَّار بن الأسـود، وقينتان لابن خَطَـل، كانتا تُغَنِّيان بهجاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارةُ مولاةٌ لبعض بنى عبد المطلب.
فأما ابنُ أبى سَرْح فأسلم، فجاء به عثمانُ بن عفان، فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل منه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقومَ إليه بعضُ الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك، وهاجر، ثم ارتدَّ، ورجع إلى مكة.
وأما عِكرمةُ بنُ أبى جهل، فاستأمَنَت له امرأتُه بعد أن فرَّ، فأمَّنه النبى صلى الله عليه وسلم، فَقَدِمَ وأسلم وحَسُنَ إسلامه.
وأما ابنُ خَطَل، والحارث، ومَقِيس، وإحدى القَينتين، فقُتِلُوا، وكان مقيسٌ، قد أسلم، ثم ارتدَّ وقَتَلَ، ولَحِقَ بالمشركين، وأما هَبَّار بن الأسود، فهو الذى عرض لزينبَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخَس بها حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينَها، ففرَّ، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامُه.
واستؤمن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِسارة ولإحدى القَينتين، فأمَّنَهُمَا فأسلمتا.
فلما كان الغدُ مِن يوم الفتح، قامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى الناس خطيباً، فَحَمِدَ اللهَ وأثنَى عليه، ومجَّده بما هُوَ أهلُه، ثم قال: ((يا أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، فهى حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلا يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ أنْ يَسْفِكَ فيها دَماً أوْ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فإنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، ولَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وإنَّمَا حَلَّتْ لى سَاعَةً مِنْ نَهارٍ، وقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كحُرْمَتِهَا بالأمْس، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائبَ)).
ولما فتح اللهُ مكة على رسوله، وهى بلدُه، ووطنُه، ومولدُه، قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسـولَ الله صلى الله عليه وسلم إذ فتحَ الله عليه أرضَه وبلدَه أن يُقيمَ بها، وهو يدعو على الصفا رافِعاً يديه؟ فلما فرغ من دُعائه، قال: ((ماذا قلتم))؟ قالوا: لا شىء يا رسولَ الله، فلم يَزَلْ بهم حتَّى أخبروه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَعَاذَ الله، المحْيَا مَحياكُم، والمَمَاتُ مَمَاتُكم)).
وهمَّ فَضَالةُ بن عُمير بن الملِّوح أن يقتُلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أفَضَالة))؟ قال: نعم فَضَالة يا رسولَ الله، قال: ((ماذا كنتَ تُحَدِّثُ به نفسَك))؟ قال: لا شىء، كنتُ أذكر الله، فَضَحِكَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((اسْتَغْفِرِ الله))، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبُه، وكان فَضَالة يقول: واللهِ ما رَفَعَ يدَه عن صدرى حتى ما خَلَقَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلىَّ منه، قال فَضَالة: فرجعتُ إلى أهلى، فمررتُ بامرأة كنتُ أتحدث إليها، فقالت: هلمَّ إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فَضَالة يقول:
قَالَتْ هَلُمَّ إلى الحَدِيثِ فَقُلْتُ لا يأْبَى عَلَـــيْك اللهُ والإسْــلامُ
لَوْ قـَـدْ رَأَيْتِ مُحَـمَّداً وقَبِيلهُ بِالفَتْـــحِ يَوْم َ تُكَسَّـرُ الأصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِيــنَ اللهِ أَضْـحَى بَيِّناً والشِّـرْكُ يَغْشِى وَجْهـَه الإظْـلامُ
وفرَّ يومئذ صفوانُ بن أُميَّة، وعِكرمةُ بنُ أبى جهل، فأما صفوانُ، فاستأمن له عُميرُ بن وهب الجُمَحى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّنه وأعطاه عِمامته التى دخل بها مكة، فلحقه عميرٌ وهو يُريدُ أن يركب البحر فردَّه،فقال: اجعلنى فيه بالخيار شهرين، فقال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر.
وكانت أُمُّ حكيم بنتُ الحارث بن هشام تحتَ عِكرمة بن أبى جهل، فأسلمت، واستأمنت له رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّنه فَلَحِقَتْ بِهِ باليمن، فأمَّنته فردَّته، وأقرهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو وصفوان على نكاحهما الأول.
ثم أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسيد الخُزاعى فجدَّد أنصاب الحرم.
وبثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التى كانت حولَ الكعبة، فكُسِّرَتْ كُلُّهَا مِنها اللات والعُزَّى، ومنَاةُ الثالثةُ الأُخرى، ونادى منادِيهِ بمكة: ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فلا يَدَعْ فى بَيْتِهِ صَنماً إلا كسَره)).
فبعث خالد بن الوليد إلى العُزَّى لِخمس ليال بقينَ من شهر رمضان ليهدمها، فخرج إليها فى ثلاثين فارساً مِن أصحابِهِ حتَّى انْتَهَوا إليها، فهدمها ثم رجع إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ((هَلْ رَأَيْتَ شَيْئاً))؟ قال: لا، قال: ((فإنَّك لم تَهْدِمْهَا فارْجِعْ إليها فاهدِمْهَا))، فرجع خالد وهو متغيِّظ فجرَّد سيفَه، فخرجت إليه امرأة عجوز عُريانة سوداءُ ناشرة الرأس، فجعل السَّادِنُ يصيحُ بها، فضربها خالد فجزلَها باثنتين، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ((نَعَمْ تِلْكَ العُزَّى، وقَدْ أَيِسَتْ أنْ تُعْبَدَ فى بِلادِكُمْ أَبَداً)) وكانت بنخلة، وكانت لِقريش وجميعِ بنى كِنانة، وكانت أعظمَ أصنامِهم، وكان سدنتُها بنى شيبان.
ثم بعثَ عَمْرَو بن العاص إلى سُواع، وهو صنم لهُذَيْل ليهدمه، قال عَمْرو: فانتهيتُ إليه وعنده السَّادِن، فقال: ما تُريد؟ قلتُ: أمرنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أهْدِمَه، فقال: لا تَقدِرُ على ذلك، قلت: لِمَ؟ قالت: تُمنع. قلتُ: حتَّى الآن أنت عَلى الباطِل، ويحك، فهل يَسْمَعُ أو يُبْصِرُ؟، قال: فدنوتُ منه فكسرتُه، وأمرتُ أصحابى فهدموا بيت خزانته فلم نجدْ فيه شيئاً، ثم قلتُ للسَّادِن:كيف رأيتَ؟ قال: أسلمتُ لله.
ثم بعثَ سعد بن زيد الأشهلى إلى مَنَاة، وكانت بالمُشَلَّل عند قُديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فخرج فى عشرين فارساً حتى انتهى إليها وعندها سادِنٌ، فقال السَّادِنُ: ما تُريدُ؟ قلتُ: هَدْمَ مَنَاة، قال: أنتَ وذاك، فأقبل سعدٌ يمشى إليها، وتخرُج إليه امرأة عُريانة سوداءُ، ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتَضْرِبُ صدرَها، فقال لها السَّادِنُ: مَنَاة؛ دونك بعضَ عُصاتك، فضربها سعد فقتلَها، وأقبل إلى الصنم، ومعه أصحابه فهدمه، وكسروه، ولم يجدوا فى خزانته شيئاً.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق