483
زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث
فصل
[فى غزوة حُنَيْن وتُسمى غزوة أوطاس]
وهما موضعان بينَ مكة والطائف، فسُمِّيت الغزوةُ باسم مكانها، وتُسمى غزوةَ هَوازن، لأنهم الذين أَتَوْا لِقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هَوازِنُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فتح اللهُ عليه مِن مكة، جمعها مالكُ بنُ عوف النَّصْرى، واجتمع إليه مع هَوازِن ثقيفٌ كُلُّها، واجتمعت إليه مُضَرُ وجُشَمُ كُلُّها، وسعدُ بن بكر، وناسٌ من بنى هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قَيْس عَيلان إلا هؤلاء، ولم يحضُرْهَا مِن هَوازِن: كعبٌ، ولا كِلاب، وفى جشم: دريدُ بنُ الصِّمة، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيُهُ ومعرفتُه بالحرب، وكان شجاعاً مجرَّباً، وفى ثقيف سيِّدَانِ لهم، وفى الأحلاف: قاربُ بن الأسود، وفى بنى مالك: سُبيع بن الحارث وأخوه أحمر ابن الحارث، وجِماعُ أمر الناس إلى مالك بن عوف النَّصْرى، فلما أجمع السيرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساق مع الناس أموالَهم ونساءَهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناسُ وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمة، فلما نزل قال: بأى واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس . قال: نِعْمَ مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضِرْس، ولا سَهْلٌ دَهْسٌ، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصبى، ويُعار الشاء؟ قالوا: ساق مالِكُ بن عوفٍ مع الناسِ نِساءَهُم وأموالَهم وأبناءهم . قال: أَيْنَ مالك؟ قيل: هذا مالك، ودُعى له . قال: يا مالك ؛ إنك قد أصبحتَ رئيسَ قومك، وإن هذا يومٌ كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وبُكاء الصغير، ويُعار الشاء؟، قال: سقتُ مع الناس أبناءهم، ونساءَهم، وأموالَهم . قال: ولِمَ؟ قال: أردتُ أن أجعل خلفَ كُلِّ رجل أهلَه وماله ليقاتل عنهم . فقال: راعى ضأنٍ واللهِ، وهل يردُّ المنهزمَ شىء، إنها إن كانت لك لم ينفعْك إلا رجلٌ بسيفه ورمحه، وإن كانت عليكَ، فُضِحْتَ فى أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعبٌ وكِلاب؟ قالوا: لم يشهدْها أحدٌ منهم . قال: غاب الحَدُّ والجِدُّ، لو كان يوم علاءٍ ورِفعة، لم تَغِبْ عنه كعبٌ ولا كِلاب، ولوَدِدْت أنكم فعلتم ما فعلت كعبٌ وكلاب، فمَن شهدها منكم؟ قالوا: عَمْرو بن عامر، وعَوْف بن عامر، قال: ذَانِكَ الجَذَعَانِ من عامر، لا ينفعان ولا يضران . يا مالك ؛ إنك لم تصنع بتقديم البَيْضةِ بَيْضةِ هَوازِن إلى نحورِ الخيل شيئاً، ارفعهم إلى مُتمنَّع بلادهم وعُليا قومهم، ثم الق الصُّباة على متون الخيل، فإن كانت لك، لحقَ بك مَنْ وراءَك، وإن كانت عليك، ألْفاك ذلك، وقد أحرزتَ أهلك ومالك . قال: واللهِ لا أفعلُ، إنك قد كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقلُكَ، واللهِ لتُطِيعُنَّنى يا معشَرَ هَوازِن، أو لأتَّكئِنَّ على هذا السيف حتى يخرُجَ مِن ظهرى، وكره أن يكون لِدُريد فيها ذِكر ورأى، فقالوا: أطعناك، فقال دُريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنى .
يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَـــــذَعْ أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَـــــعْ
أقُــودُ وَطْفَاءَ الزَّمَـــعْ كَأَنَّهَا شَاةٌ صَــــــدَعْ
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتمُوهم فاكسروا جُفون سيوفكم، ثم شُدُّوا شدةَ رجل واحد .. وبعث عيوناً مِن رجاله، فأَتَوْه وقد تفرَّقت أوصالُهم، قال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رِجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ، واللهِ ما تماسكنا أن أصابَنَا ما ترى، فواللهِ ما ردَّه ذلك عن وجهه أن مَضَى على ما يُريدُ .
ولما سمع بهم نبىُّ الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم عبد الله بن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى، وأمره أن يدخُل فى الناس، فيُقيم فيهم حتى يعلَم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد، فدخل فيهم حتى سمِعَ وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسَمِعَ مِن مالك وأمر هوازن ما هُم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر
فلما أجمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هَوازِن، ذُكِرَ له أن عند صفوان بنِ أُمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل إليه، وهو يومئذ مشرك، فقال: يا أبا أُمية ؛ أعِرْنا سِلاحك هذا نلقى فيه عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ قال: ((بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ))، فقال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة دِرع بما يكفيها مِن السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيَهم حملها، ففعل .
ثم خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معه ألفانِ مِن أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، وكانوا اثنى عشر ألفاً، واستعمل عتَّابَ بن أسيد على مكة أميراً، ثم مضى يُريد لقاء هوازن.
قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن ابن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: لما اسـتقبلنا وادى حُنَيْن، انحدرنا فى وادٍ من أودية تِهامة أجوفَ حَطُوط، إنما ننحـدر فيه انحداراً. قال: وفى عَماية الصبح، وكان القومُ قد سبقونا إلى الوادى، فكَمَنُوا لنا فى شِعابه وأحْنائه ومضايقه، قد أجمعوا، وتهيؤوا، وأعدوا فواللهِ ما راعنا ونحن منحطُّون إلا الكتائبُ، قد شدُّوا علينا شَدَّةَ رجل واحد، وانشمر الناسُ راجعين لا يَلْوِى أحدٌ منهم على أحد،وانحازرسولُ الله صلىالله عليه وسلم ذاتَ اليمين، ثم قال: ((إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إلىَّ، أنا رَسُولُ الله، أنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله))، وبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ من المهاجرين والأنصارِ وأهلِ بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته: على والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه، والفَضل بن العباس، وربيعةُ بن الحارث، وأُسامةُ بن زيد، وأيمن ابن أُم أيمن، وقُتِلَ يومئذ. قال: ورجل من هَوازِن على جمل له أحمر بيده راية سوداء فى رأس رُمح طويل أمامَ هَوازِن، وهَوازِنُ خلفه، إذا أدرك، طعن برمحه، وإذا فاته الناسُ، رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينا هو كذلك إذ أهوى عليه على بن أبى طالب، ورجـل من الأنصار يُريدانه، قال: فأتى على منْ خَلْفِهِ، فضرب عرقوبى الجـمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصارىُّ على الرجل، فضربه ضربةً أطن قدَمه بنصف ساقه، فانجعفَ عن رحله، قال: فاجتلد الناسُ، قال: فواللهِ ما رجعت راجعةُ الناس مِن هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المسلمون، ورأى مَن كان مَع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن جُفاة أهل مكة الهزيمة، تكلَّم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضِّغنِ، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهُم دونَ البحر، وإن الأزلامَ لمعه فى كِنانته، وصرخ جَبَلَة بن الحنبل وقال ابن هشام: صوابه كَلَدَة : ألا بطل السِّحْرُ اليوم، فقال له صفوانُ أخوه لأُمه وكان بعدُ مشركاً: اسكت فضَّ اللهُ فاك، فواللهِ لأن يَرُبَّنى رَجُلٌ مِن قريش، أحـبُّ إلىَّ من أن يربَّنى رجلٌ مِن هَوازِن.
وذكر ابنُ سعد عن شيبة بن عُثمان الحَجَبى، قال: لما كان عامُ الفتح، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عَنوة، قلت: أسيرُ مع قريش إلى هَوازِن بحُنَيْن، فعسى إن اختلطوا أن أُصيب مِن محمد غِرَّة، فأثارَ منه، فأكون أنا الذى قمتُ بثأر قريش كُلِّها، وأقولُ: لو لم يبقَ مِن العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً، ما تبعتُه أبداً، وكنت مُرْصداً لما خرجتُ له لا يزدادُ الأمر فى نفسى إلا قوةً، فلما اختلط الناسُ، اقتحم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته، فأصلتَ السيف، فدنوتُ أريدُ ما أريدُ منه، ورفعتُ سيفى حتى كِدتُ أشعره إياه، فرُفِعَ لى شُواظٌ مِن نار كالبرق كاد يمحشُنى، فوضعتُ يدى على بصرى خوفاً عليه، فالتفتَ إلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادانى: ((يَا شَيْبُ؛ ادْنُ مِنِّى)) فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَمَسَحَ صَدْرِى، ثم قال: ((اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانَ)) قال: فواللهِ لهو كان ساعتَئِذٍ أحبَّ إلىَّ مِنْ سمعى، وبصرى، ونفسى، وأذهبَ اللهُ ما كان فى نفسى، ثم قال: ((ادْنُ فقاتِلْ))، فتقدمتُ أمامَه أضـربُ بسيفى، الله يعلمُ أنى أحب أن أقيَه بنفسى كُلَّ شئ، ولو لقيتُ تلك الساعة أبى لو كان حياً لأوقعتُ به السيف، فجعلتُ ألزمُه فيمن لزمه حتى تراجعَ المسـلمون، فكرُّوا كَرَّةَ رجل واحد، وقُرِّبَتْ بغلةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فاستوى عليها، وخرج فى أثرهم حتى تفرَّقوا فى كُلِّ وجه، ورجع إلى معسكره، فدخـل خِباءه، فدخلتُ عليه، ما دخل عليه أحدٌ غيرى حباً لرؤية وجهه، وسروراً به، فقال: ((يا شَيْبُ؛ الذى أرادَ اللهُ بكَ خَيْرٌ ممَّا أرَدْتَ لِنَفْسِك))، ثم حدَّثنى بكلِّ ما أضمرتُ فى نفسى ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال: فقلتُ: فإنى أشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأنكَ رسولُ الله، ثم قلت: استغفر لى. فقال: ((غَفَرَ اللهُ لَكَ)).
وقال ابن إسحاق: وحدَّثنى الزُّهْرى، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس ابن عبد المطلب، قال: إنى لمعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم آخذٌ بِحَكَمَةِ بغلته البيضاء، قد شَجَرْتُها بها، وكنت امرءاً جسيماً شديدَ الصوت، قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس: ((إلى أيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ)). قال: فلم أر الناس يَلْوُون على شىء، فقال: ((يا عَبَّاسُ اصْرَخْ: يا مَعْشَر الأنْصَارِ، يَامَعْشَرَ أَصْحَاب السَّمُرَةِ))، فأجابوا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ.قال: فيذهبُ الرجلُ ليثنى بعيرَه، فلا يقدِرُ على ذلك، فيأخذ دِرعه فيقذفها فى عُنُقه، ويأخذ سيفَه وقوسه وتُرسَه، ويقتحِمُ عن بعيره، ويُخلى سبيلَه، ويؤم الصوت حتى ينتهىَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة، استقبلُوا النَّاس، فاقتتلُوا فكانت الدعوة أوَّلَ ماكــانت: يا للأنصـار، ثم خلصت آخراً: يا للخزرج، وكانوا صُبُرَاً عند الحرب، فأشرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى ركائبه، فنظر إلى مُجْتَلَدِ القوم، وهم يَجْتَلِدُونَ، فقال: ((الآنَ حَمِىَ الوَطيسُ)) وزَاد غيره:
أنَا النَّبِىُّ لاَ كَذِبْ أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ
وفى ((صحيح مسلم)): ثم أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَصيَاتٍ،فرمى بها فى وجوه الكُفَّارِ،ثم قال:((انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ))، فما هو إلا أن رماهم، فما زِلْتُ أرى حَدَّهُم كليلاً، وأمرَهم مُدْبِرَاً.
وفى لفظ له: إنه نزل عن البغلة، ثم قبضَ قبضة مِن تُراب الأرض، ثم استقبل بها وجوهَهم، وقال: ((شَاهَتِ الوُجُوهُ))، فما خلق اللهُ منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولَّوا مدبرين.
وذكر ابن إسحاق عن جُبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمةِ القوم، والناس يقتتلون يومَ حُنَيْنٍ مثلَ البَجادِ الأسود، أقبل مِن السماء حتى سقط بيننا وبينَ القوم، فنظرتُ فإذا نمل أسودُ مبثوث قد ملأ الوادى، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فلم أشك أنها الملائكة.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون، أتوا الطائف، ومعهم مالكُ بن عَوْف، وعسكر بعضُهم بأوطاس، وتوجَّه بعضُهم نحو نخلةَ، وبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى آثار مَن توجَّه قِبل أوطاس أبا عامر الأشعرىَّ، فأدرك مِن الناس بعضَ مَن انهزم، فناوشُوه القِتَال، فرُمِى بسهم فقُتِل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى، وهو ابن أخيه، فقاتلهم، ففتح الله عليه، فهزمهم اللهُ، وقتل قاتل أبى عامر، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لعُبَيْدٍ أبى عَامِرٍ وَأَهْلهِ، واجْعَلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ)) واستغفر لأبى موسى.
ومضى مالكُ بن عوف حتى تحصَّن بحصن ثقيف، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالسَّبْى والغنائمِ أن تُجْمَعَ فَجُمِعَ ذلكَ كُلُّهُ، ووجَّهوه إلى الجِعْرَانَةِ، وكان السَّبىُ ستةَ آلاف رأس، والإبلُ أربعةً وعشرين ألفاً، والغنم أكثرَ من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أُوقية فضة، فاستأنى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدَموا عليه مسلمين بِضْعَ عشرة ليلة
ثم بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلَّفةَ قلوبُهم أوَّلَ الناسِ، فأعطى أبا سفيان بنَ حرب أربعين أُوقية، ومائةً من الإبل، فقال: ابنى يزيد؟ فقال: ((أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَمِائةً مِنَ الإبل))، فقال: ابنى معاوية؟ قال: ((أعْطُوهُ أرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَمِائَةً من الإبل))، وأعطى حكيم بن حِزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أُخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفى خمسين، وذكر أصحاب المائة وأصحاب الخمسين وأعطى العباسَ بن مرداس أربعين، فقال فى ذلك شعراً، فكمَّل له المائة.
ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاءِ الغنائم والناس، ثم فضَّها على الناس، فكانت سهامُهم لكل رجل أربعاً من الإبل وأربعينَ شاة، فإن كان فارساً أخذ اثنى عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة.
قال ابن إسحاق: وحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبى سعيد الخدرى قال: لما أعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى مِن تلك العطايا فى قريش، وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شىء، وَجَدَ هذا الحىُّ من الأنصار فى أنفسهم، حتى كَثُرت فيهم القالةُ، حتى قال قائلُهم: لقى واللهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه، فدخل عليه سعدُ بنُ عبادة، فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحىَّ من الأنصار قد وَجَدوا عليك فى أنفسهم لِما صنعتَ فى هذا الفئ الذى أصبتَ، قسمتَ فى قومك، وأعطيتَ عطايا عِظاماً فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحىِّ من الأنصار منها شىء. قال:
((فأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ))؟ قال: يا رسولَ الله؛ ما أنا إلا مِن قومِى. قال: ((فاجْمَعْ لى قَومَكَ فى هذِهِ الحَظِيرَةِ)) قال: فجاء رجالٌ من المهاجرينَ، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا، أتى سعدٌ، فقال: قد اجتمع لك هذا الحىُّ من الأنصار، فأتاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَحَمِدَ الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ؛ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنى عَنْكُم، وجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فى أَنْفُسِكُمْ، ألَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَداكُم اللهُ بى، وعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بى، وأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبكُم))؟ قالوا: الله ورسولُه أمَنُّ وأفضلُ، ثم قال: ((أَلاَ تُجيبُونى يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ))؟ قالوا: بماذَا نجيبُك يا رسولَ الله، للهِ ولِرسُولِه المنُّ والفَضْلُ؟ قال: ((أَمَا واللهِ لَوْ شِئْتُم، لَقُلْتُم، فَلَصَدَقْتُم ولَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ، ومَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيداً فآوَيْنَاكَ، وعائِلاً فآسيناكَ، أَوجَدْتم علىَّ يَا مَعْشَرَ الأنْصارِ فى أَنْفُسِكُم فى لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قوماً لِيُسْلِمُوا، وَوكَلْتُكُم إلى إسْلامِكُم، ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاء والبَعير، وتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ الله إلى رحالِكم، فَوالَّذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُون بِهِ خيرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَلَوْلا الهِجْرَةُ، لَكُنْتُ امْرُءاً مِن الأنْصارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَوَادياً، وسَلَكَت الأنصار شِعْباً وَوَادياً لَسَلكْتُ شِعْبَ الأنْصارِ وواديها، الأنصارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثارٌ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأنْصار، وأبناءَ أبناءِ الأنْصار)).
قال: فبكى القومُ حتَّى أخضلُوا لِحاهم، وقالوا: رَضينَا برسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَسْمَاً وحظاً، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتفرَّقوا.
وقدمت الشَّيماءُ بنت الحارث بن عبد العُزَّى أُختُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّضاعة، فقالت: يا رسول الله؛ إنى أختُك مِن الرضاعة، قال: ((وما علامَةُ ذلك))؟ قالت: عضَّةٌ عَضَضتنيها فى ظهرى، وأنا متورِّكَتُكَ. قال: فعرف رسولُ صلى الله عليه وسلم العلامة. فبسط لها ردائَهُ، وأجلسها عليه وخيَّرها، فقال: ((إنْ أحْبَبْتِ الإقامَةَ فَعِنْدِى مُحَبَّبَةً مُكَرَّمَةً، وإنْ أحْبَبْتِ أنْ أُمَتِّعَكِ فَتَرْجِعى إلى قَوْمِكِ))؟ قالت: بل تُمَتِّعنى وتردُّنى إلى قومى، ففعل، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غُلاما يقال له: ((مكحول)) وجارية، فزوجت إحداهما من الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية. وقال أبو عمر: فأسلمت، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية، ونعما، وشاءً، وسماها حذافة. وقال: والشيماء لقب.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق