365
زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث
فصل
وصالح قريشاً على وضع الحرب بينَه وبينَهم عشرَ سنين، على أن مَن جاءه منهم مسلماً ردَّهُ إليهم، ومَنْ جاءَهُم مِن عنده لا يردُّونه إليه ، وكان اللفظُ عاماً فى الرجال والنساء، فنسخَ الله ذلك فى حقِّ النساء، وأبقاه فى حقِّ الرجال، وأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يمتحنُوا مَن جاءهم مِن النساء، فإن عَلِمُوهَا مؤمِنةً، لم يردُّوها إلى الكُفَّار، وأمرهم بردِّ مهرها إليهم لما فات على زوجها مِن منفعة بُضعها، وأمر المسلمين أن يردُّوا على مَن ارتدَّتِ امرأتُهُ إليهم مهرَها إذا عاقبوا، بأن يجبَ عليهم ردُّ مهرِ المهاجرةِ، فيردونه إلى مَن ارتدَّت امرأتُهُ، ولا يردونها إلى زوجها المشرك، فهذا هو العِقابُ، وليس مِن العذاب فى شىء، وكان فى هذا دليل على أن خروج البُضع مِن ملك الزوج متقوَّم، وأنه متقوَّمٌ بالمسمَّى الذى هو ما أنفق الزوجُ لا بمهرِ المثل، وأن أنكحة الكفار لها حُكم الصحة، لا يُحكم عليها بالبطلان، وأنه لا يجوز ردُّ المسلمة المهاجرة إلى الكفَّارِ ولو شرط ذلك، وأن المسلمة لا يَحِلُّ لها نكاحُ الكافر، وأن المسلم له أن يتزوَّجَ المرأة المهاجرة إذا انقضت عدَّتُها، وآتاها مهرَها، وفى هذا أبينُ دلالة على خروج بُضعها مِن ملك الزوج، وانفساخِ نكاحها منه بالهجرة والإسلام.
وفيه دليلٌ على تحريمِ نكاحِ المشركة على المسلم، كما حرم نكاحُ المسلمة على الكافر.
وهذه أحكامُ استفيدت من هاتين الآيتين، وبعضُها مجمع عليه، وبعضُها مختلف فيه، وليس مع مَن ادعى نسخَها حُجَّةٌ البتة، فإن الشرطَ الذى وقع بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين الكفار فى ردِّ مَن جاءه مسلماً إليهم، إن كان مختصاً بالرجال، لم تدخل النساء فيه، وإن كان عاماً للرجال والنساء، فالله سبحانه وتعالى خصّص منه ردَّ النساء ونهاهم عن ردِّهن، وأمرهم بِرَدِّ مهورِهنّ، وأن يردوا منها على مَن ارتدَّت امرأتُه إليهم من المسلمين المهرَ الذى أعطاها، ثم أخبر أن ذلك حكمُه الذى يحكُمُ به بين عباده، وأنه صادر عن علمه وحِكمته، ولم يأت عنه ما يُنافى هذا الحكم، ويكونُ بعده حتى يكون ناسخاً.
(يتبع...)
@ ولما صالحهم على ردِّ الرجالِ، كان يُمكِّنهم أن يأخذوا مَن أتى إليه منهم، ولا يُكْرِهُهُ على العود، ولا يأمره به، وكان إذا قتل منهم، أو أخذ مالاً، وقد فصل عن يده، ولما يلحق بهم، لم يُنْكِرْ عليه ذلك، ولم يضمنه لهم، لأنه ليس تحت قهره، ولا فى قبضته، ولا أمرَه بذلك، ولم يقتضِ عقدُ الصلح الأمانَ على النفوس والأموال إلا عمن هو تحت قهره، وفى قبضته، كما ضَمِنَ لبنى جُذَيْمَةَ ما أتلفه عليهم خالدٌ مِن نفوسهم وأموالهم، وأنكره، وتبرأ منه. ولما كان إصابُته لهم عن نوع شُبهة، إذْ لم يقولُوا: أسلمنا، وإنما قالوا: صبأنَا، فلم يَكُنْ إسلاماً صريحاً، ضَمِنهم بنصف دياتِهم لأجل التأويل والشبهة، وأجراهم فى ذلك مجرى أهل الكتاب الذين قد عصمُوا نفوسَهم وأموالهم بعقدِ الذمة ولم يدخلوا فى الإسلام، ولم يقتض عهدُ الصلح أن ينصُرَهم عَلى مَن حاربهم ممن ليس فى قبضة النبى صلى الله عليه وسلم وتحت قهره، فكان فى هذا دليل على أن المعَاهَدِينَ إذا غزاهُم قوم ليسوا تحت قهر الإمام وفى يده، وإن كانوا من المسلمين أنه لا يجِبُ على الإمام ردُّهم عنهم، ولا منعُهم من ذلك، ولا ضمانُ ما أتلفوه عليهم.
وأخذُ الأحكام المتعلقةِ بالحرب، ومصالح الإسلام، وأهلِه، وأمره، وأمورِ السياسات الشرعية من سيره، ومغازيه أولى من أخذها من آراء الرجال، فهذا لون، وتلك لون. وبالله التوفيق.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق