إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 28 نوفمبر 2014

362 زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث فصل


362

زاد المعاد في هدي خير العباد ( ابن قيم الجوزية ) الجزء الثالث

   فصل


         وكان هَدْيُه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوماً فَنَقَضَ بعضُهم عهده، وصُلْحه، وأقرَّهم البَاقُونَ، ورضُوا به، غزا الجميعَ، وجعلهم كُلَّهُم ناقضين، كما فعل بِقُريظة، والنَّضير، وبنى قَيْنُقَاع، وكما فعل فى أهل مكة، فهذه سُـنَّته فى أهل العهد، وعلى هذا ينبغى أن يَجرِىَ الحُكْمُ فى أهل الذِّمة كما صرَّح به الفقهاءُ من أصحاب أحمد وغيرهم، وخالفهم أصحابُ الشافعى فخصُّوا نقضَ العهد بمن نقضه خاصةً دون من رَضِىَ به، وأقرَّ عليه، وفرَّقُوا بينهما بأن عقد الذِّمة أقوى وآكدُ، ولهذا كان موضوعاً على التأبيد، بخلافِ عقد الهدنة والصلح.
         والأوَّلون يقولون: لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وعقد الذِّمة لم يُوضع للتأبيد، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه، فهو كعقدِ الصُّلح الذى وضع للهُدنة بشرط التزامِهم أحكامَ ما وقع عليه العقدُ، قالوا: والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يُوَقِّتْ عقدَ الصلح والهُدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة، بل أطلقه ما داموا كافِّين عنه، غيرَ محاربين له، فكانت تِلك ذمَّتهم، غير أن الجِزيةَ لم يكن نزل فرضُها بعدُ، فلما نزل فرضُها، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة فى العقد، ولم يغير حكمه، وصار مقتضاها التأبيد، فإذا نقض بعضهُم العهد، وأقرَّهم الباقُون، ورضُوا بذلك، ولم يُعلِموا به المسلمين، صارُوا فى ذلك كنقض أهل الصلح، وأهل العهد والصلح سواء فى هذا المعنى، ولا فرْق بينهما فيه، وإن افترقا من وجه آخر يُوضِّحُ هذا أن المقرَّ الراضى الساكت إن كان باقياً على عهده وصُلحه، لم يجز قِتالُه ولا قتلُه فى الموضعين، وإن كان بذلك خارجاً عن عهده وصلحه راجعاً إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح، لم يفترِقِ الحالُ بين عقد الهُدنة وعقد الذمة فى ذلك، فكيف يكون عائداً إلى حاله فى موضع دون موضع، هذا أمر غيرُ معقول. توضيحُه: أن تجدد أخذِ الجزيةِ منه، لا يُوجب له أن يكونُ مُوفياً بعهده مع رضاه، وممالأته ومواطأته لمن نقض، وعدم الجزية يُوجب له أن يكون ناقضاً غادراً غيرَ موفٍ بعهده، هذا بيِّن الامتناع.
         فالأقوال ثلاثة: النقض فى الصورتين، وهو الذى دلَّت عليه سُـنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكفار، وعدم النقض فى الصورتين، وهو أبعدُ الأقوالِ عن السُّنَّة، والتفريق بين الصورتين، والأُولى أصوبها  وبالله التوفيق.
         وبهذا القول أفتينا ولىَّ الأمرِ لما أحرقت النصارى أموالَ المسلمين بالشام ودورَهم، ورامُوا إحراقَ جامِعهم الأعظم حتَّى أحرقوا منارته، وكاد  لولا دفعُ الله  أن يحترِقَ كُلُّهُ، وعلم بذلك مَن علم من النصارى، وواطؤوا عليه وأقروه، ورضوا به، ولم يُعلِمُوا ولىَّ الأمر، فاستفتى فيهم ولىُّ الأَمرِ مَن حضره من الفقهاء، فأَفتيناه بانتقاض عهد مَن فعل ذلك، وأعان عليه بوجه من الوجوه، أو رضى به، وأقر عليه، وأن حدَّه القتلُ حتماً، لا تخيير للإمام فيه، كالأسير، بل صار القتل له حَدّاً، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حَدّاً ممن هو تحت الذِّمة، ملتزماً لأحكام الله بخلاف الحربى إذا أسلم، فإن الإسلام يعصم دمه وماله، ولا يُقْتَلُ بما فعله قبل الإسلام، فهذا له حُكم، والذِّمى الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر، وهذا الذى ذكرناه هو الذى تقتضيه نصوصُ الإمام أحمد وأُصوله، ونص عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه، وأفتى به فى غير موضع.
         





يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق