38
لماذا انحرفَ العالمُ كلُّه؟
انحراف الغرب:
رابعا - احتضارُ المجتمعِ الصناعيّ[1]
1- موجات الحضارة وكوارث المدنية:
يمكنُ تقسيمُ حضارةِ العالمِ إلى ثلاثِ موجاتٍ مختلفة:
1- الموجةُ الأولى (الحضارةُ الزراعيّةُ):
بدأتْ منذُ حوالَيْ عشرةِ آلافِ سنةٍ باختراعِ الزراعة، واتّسمتْ باستقرارِ الإنسانِ ونشوءِ التجمّعاتِ والقرى والمدن، مع قيمِ التضامنِ والتعاونِ الاجتماعيِّ لمواجهةِ الأخطارِ البيئيّةِ: الجفافِ والفيضانِ وخلافِهما.
وقد اتسمت هذه المرحلة من تاريخ البشريّة بنوع من الاستقرار، نظرا لبطء التطوّر العلميّ وعدم حدوث تطوّرات مفاجئة على أنماط الحياة.. ولا أعني بالاستقرار عدم حدوث حروب أو صراعات أو أزمات، وإنّما أعني التناغم بينَ نظرةِ الإنسان إلى نفسه ودوره في الحياة.. على الأقلّ ظلت المرأة امرأةً لعشرةِ آلاف عام، دون أن تتطوّر إلى ذلك المخلوق المشوّه الذي أنتجه الإعلام الآن!!
والمدهش أنّ استقرار هذه الحضارة لعشرة آلاف عام، ليس كافيا للكثيرين من مفكّري الغرب لاتخاذها مرجعا إنسانيّا، بل على العكس، نعتوا كلّ ما يمتّ لهذه الحضارة العريقة الطويلة بالتخلّف والجمود، بل وقال (ماركس) إنّ هذا الشكل الحضاريّ هو الذي أوجد قيمه ومفاهيمه، وشكّل الناس ليتلاءموا معه، وأوجد الدين ليحافظ على خضوع الطبقات الدنيا للطبقات العليا، وكأنّ الدين مجرّد أفيون يجعلهم يحتملون هذه الحياة بانتظار حياة أفضل[1]!!.. من كلّ هذا خلص هؤلاء العباقرة إلى أنّ انتهاء الحضارة الزراعيّة يجب أن يؤدّي إلى انتهاء منظومة القيم والأخلاق والعقائد التي صاحبته، لينتج نوعيّة أخرى من البشر بعلاقات جديدة، بخلاف تلك التي سادت لعشرة آلاف عام[2]!!
تعال إذن نرى ماذا حدث مع ظهور المنظومة الحضاريّة الجديدة، التي ابتلانا الغرب بها.
2- الموجةُ الثانية (الحضارةُ الصناعيّة):
منذُ أن بدأ العصرُ البخاريّ منذُ حوالَيْ 300 سنة، بدأتْ تتبلورُ حضارةٌ ذاتُ طابعٍ جديد:
- المدنُ الصناعيّةُ الكبرى: ذاتُ الكثافةِ السكانيّةِ العالية، والهجرةُ المتزايدةُ من الريفِ إلى المدنِ سعيًا وراءَ فرصِ العمل.
- الأسرةُ النوويّة: حيثُ انقرضتْ الأسرةُ الكبيرةُ التي كانَت تعيشُ في بيتٍ كبيرٍ يضمُّ عدّةَ أجيالٍ بما في ذلك الأقرباءُ والأنسباء، ويعملُ الكلُّ فيها كوحْدةٍ إنتاجيّةٍ واحدة، (و في الغالبِ كانَ ذلكَ في مجالِ الزراعة).. ثمَّ معَ الموجةِ الصناعيّةِ تغيّرتِ العلاقةُ بينَ الأبناءِ والآباء، وتلقّتِ السلطةُ الأبويّةُ ضربةً محسوسة، كما تخلّصتِ العائلةُ من الأقارب، وصارتِ الأسرةُ النوويّةُ تتكوّنُ من الأبِ والأمِّ وعددٍ قليلٍ من الأبناء، وذلك لاحتياجِ الأسرةِ للانتقالِ للمدنِ البعيدةِ خلفَ فرصِ العمل.
- التوحيدُ القياسيُّ والنمطيّة: ولم يقتصرْ ذلك على توحيدِ أنظمةِ قياسِ الأطوالِ والأوزانِ والنظمِ النقديّة، بل امتدَّ أيضًا إلى التعليم، إذ تطلّبتِ الصناعةُ نوعًا معيّنًا من التعليم، بحيثُ يُؤهّلُ المرءَ لأداءِ دورٍ معيّنٍ على (خطِّ التجميع)، وكأنّه مجرّدُ ترسٍ صغير.. لهذا تضمّنَ منهجُ التعليمِ ـ بالإضافةِ إلى القراءةِ والكتابةِ والمعارفِ الأساسيّةِ ـ ثلاثةَ أهدافٍ هامّة:
§ التدرّبَ على الالتزامِ بالمواعيد: لأنَّ العملَ في المصنعِ يتطلّبُ عمالا يَصِلونَ في موعدِهم.
§ طاعةَ الرئيس: لأنَّ العملَ في المصنعِ يتطلّبُ عمالا يتلقَّوْنَ التعليماتِ من رؤسائِهم وفقًا للتسلسلِ الوظيفيّ فيطيعونها دونَ تساؤلٍ أو استفسار.
§ التعوّدَ على العملِ المتكرّر: لأنَّ العملَ في المصنعِ يتطلّبُ رجالا على استعدادٍ للعملِ كعبيدٍ للآلةِ أو المكتب، يقومونَ بالعملِ المتكرّرِ كلَّ يومٍ دونَ احتجاجٍ أو تذمّرٍ أو ملل.
ليسَ هذا فحسب، بل لعبتْ وسائلُ الإعلامِ الجماهيريِّ دورًا هامًّا في تكريسِ صورةِ التوحيدِ القياسيّ، حيثُ يقرأُ أو يرى ملايينُ البشرِ في نفسِ الوقتِ نفسَ الإعلاناتِ ونفسَ الأخبارِ ونفسَ القصصِ القصيرة، ممّا أدّى إلى اختفاءِ العديدِ من اللهجاتِ المحليّةِ والإقليميّة، بل وبعضِ اللغات.. ومع تعليمٍ هذا عهدُه، وإعلامٍ هذا ديدنُه، تَصبغُ أساليبُ التوحيدِ القياسيِّ كلَّ شيءٍ في الدولةِ بنفسِ الصّبغة: نفسُ محطّاتِ خدمةِ السيارات، نفسُ طرازِ المباني، نفسُ المطاعمِ العامّة.. إلخ.
- التخصّص: لمْ يقتصرِ التّخصّصُ على مجالِ التعليمِ لإنتاجِ وظائفَ محددّةٍ فحسب، بل إنّه امتدَّ لكلِّ قطاعاتِ المجتمع، فحتّى وظائفُ الأسرةِ قد انتزعتْ منها، وأوكلتْ إلى مؤسّساتٍ متخصّصةٍ جديدة، فأوكلَت رعايةُ الصغارِ إلى الحضانة، وتعليمُ الأطفالِ إلى المدارس، ورعايةُ كبارِ السّنِّ إلى الملاجئِ وبيوتِ العجزةِ أو المصحّات.. وأدّى كلُّ هذا إلى تفتيتِ المجتمعِ والذاتِ الجماعيّةِ والعلاقاتِ الأسريّة، واتساعِ رقعةِ الفرديّة.. فكلُّ إنسانٍ لا يفهمُ غيرَ دورِه على خطِّ التجميع، ولا يهمُّه من الدنيا غيرُ المجالِ الذي تعلّمَه ويعملُ به.. وهو ما أدّى إلى زيادةِ التباعدِ الاجتماعيّ، بل وربّما إلى فقدانِ الإنسانيّة!
- المصنعُ في كلِّ مكان: سيطرتْ صورةُ المصنعِ على جميعِ التنظيماتِ الاجتماعيّةِ الأخرى، كالمدارسِ (كما رأينا فيما سبق) والمستشفياتِ والسّجونِ والمكاتبِ الحكوميّة، والتي راحتْ تستمدُّ خصائصَها من خصائصِ المصنع: تقسيمِ العمل، والبناءِ الوظيفيِّ المتسلسل، والالتزامِ الباردِ بكلِّ ما هو غيرُ شخصيّ.. بل إنَّ الأمرَ ذاتَه امتدَّ إلى الحياةِ الأدبيّةِ والفنّيّة، فبدلا من العملِ تحتَ رعايةٍ حاكمٍ أو كفيلٍ كما كانَ الأمرُ في المجتمعِ الزراعيّ، وقعَ الأدباءُ والممثّلونَ والموسيقيّونَ والمصوّرونَ تحتَ رحمةِ السوق، حيثُ بدأ الفنّانُ يُقدّمُ إنتاجَه لمستهلكٍ مجهول، وبالتالي تغيّرتْ أسسُ الإنتاجِ الفنّيّ لإرضاءِ أذواقٍ قد تكونُ فاسدة، أو محاولةِ تغييرِ الذوقِ العامِّ ليتواءمَ مع اتّجاهاتٍ ثوريّةٍ سياسيّةٍ أو اقتصاديّة[3].
- التّزامنُ: تُعتبرُ ساعةُ اليدِ وساعةُ الحائطِ والمنبّهُ، بل وحتّى جرسُ المدرسة، من أهمِّ أدواتِ ومعالمِ هذه الحضارة، فالوقتُ أهمُّ ما لدى المرء، خاصّةً وأنَّ العملَ على خطِّ التجميعِ يحتاجُ إلى ضبطِ التوقيتِ، حتّى لا يؤّدي التأخيرُ في مرحلةٍ من مراحلِ التصنيعِ إلى تعطيلِ كلِّ ما يليها من مراحلَ وبالتالي إهدارِ وقتِ الآلاتِ الغالية.. لهذا يجبُ غرسُ احترامِ الوقتِ والانضباطِ في نفوسِ الجميع، فكلُّ دقيقةٍ لها ثمنُها (الزمنُ = المال).. من هنا نشأَ ما يمكنُ أن نسمّيَه بالهرولة.. اللّهاثِ المحمومِ.. إنّه عصرُ السرعةِ، حيثُ لا يجدُ الإنسانُ الوقتَ الكافي للتفكّرِ في نفسِه وإدراكِ غايتِه.
- الضخامة: مما سبقَ رأينا أنّ الحضارةَ الصناعيّةَ عمدتْ إلى التركيز: تركيزِ السكنِ في المدنِ الكبرى، والعمالِ في المصانع، والتلاميذِ في المدارس، والعجزةِ في الملاجئ، والمجرمينَ في السجون.. وكذلك تركيزُ رءوسِ الأموالِ في شركاتٍ كبرى واحتكاراتٍ عظيمة، بدعوى أنَّ تركيزَ الإنتاجِ يُضاعفُ كفاءتَه وأرباحَه.. كانَ هذا هو ما خلقَ حالةً عامّةً من عشقِ الضخامةِ وكلِّ ما هو هائلٌ وكبير، وسيادةِ زعمٍ يقولُ إنَّ الضخامةَ مرادفٌ للكفاءة.. بهذا المنطقِ ارتفعتْ ناطحاتُ السَّحابِ وأقيمتْ أضخمُ السّدودِ وشُيِّدَتْ أوسعُ الملاعب.
- حضارةُ الوفرة: فكلُّ شيءٍ يصنّعُ آليًّا على خطِّ التجميع، وكلّما زادَ الإنتاجُ قلّت تكلفةُ المُنتجِ، وبالتالي زادَ التوزيعُ وبالتالي زادَ الربح.. من هنا يبدأُ خداعُ الناسِ إعلاميًّا، واستنزافُ مواردِ البيئةِ وتلويثُها.
- المُنتجِ والمستهلك: يمكنُ أن نسمّيَ الحضارةَ الصناعيّةَ أيضًا بحضارةِ المُنتجِ والمستهلك، وبينَهما طبقاتٌ نفعيّةٌ كلُّ دورِها هو الترويجُ للمنتجاتِ المختلفة، ونقلُها من المصنعِ إلى السوق، وإقناعُ المستهلكِ ـ أو خداعُه ـ لشرائها.. هذه الفجوةُ بينَ دورِ المنتجِ والمستهلك، خلقتْ بالتبعيّةِ ازدواجًا في الشخصيّةِ عندَ الفرد، فنفسُ الشخصِ الذي لقّنتْه عائلتُه ومدرستُه ورئاستُه ـ باعتبارِه منتجًا ـ أن يدينَ بالولاء، وأن يكونَ منضبطًا مطيعًا، وأن يتعوّدَ العملَ من خلالِ فريق.. هو نفسُ الشخصِ الذي تمَّ تلقينُه ـ باعتبارِه مستهلكًا ـ أن يبحثَ عن المتعةِ العاجلة، وأن يقيّمَ الأشياءَ على أساسِ ما توفّرُه من لذّة، ولو كانَ على حسابِ أيِّ تقييمٍ لإمكانيّاتِه الماليّة، وألا يخضعَ لأيِّ نظام، وأن يسعى وراءَ المباهجِ الفرديّة[4]!
- الدعاية: كلُ هذا أدّى إلى استفحالِ دورِ الدعايةِ لتكريسِ القيمِ الاستهلاكيّة، فوسْطَ التنافسِ الطاحنِ ووفرةِ المنتجات، كانَ يجبُ إنتاجُ أجيالٍ جديدةٍ تؤمنُ باستحالةِ الحياةِ بدونِ أتفهِ المنتجات.. المقالاتُ والدعاياتُ والإعلانات، تحاولُ إثارةَ شهواتِ الإنسانِ لكي يمتلكَ أكثر.. وهذه هي الفلسفةُ الجديدة: أنا أمتلكُ أكثر: إذن فأنا أكثرُ رفاهية، إذن فأنا أكثرُ سعادة!.. إذن فالإنسانُ هو المال، فهو الوسيلةُ الوحيدةُ للامتلاك!
- تحوّلتْ حياةُ الإنسانِ إلى لهاثٍ مستمرٍّ خلفَ النقودِ، ليمتلكَ الأحدثَ والأكثرَ إراحةً من الأجهزةِ والمتاعِ والكماليّات، وكلّما امتلكَ إحداها ظهرتْ أنواعٌ أكثرُ حداثةً وأكثرُ إغراءً كما أنّ الأنواعَ الأقدمَ صار يملكُها الجميع، ولم تَعُد سببًا للتميّز، فيسعى لامتلاكِ الأحدثِ على الفور!
- وهو في سبيلِ ذلك يدوسُ الكثيرَ من مبادئِه، لأنَّ الطرقَ الأخلاقيّةَ غيرُ مربحة، وإن كانت مربحةً فربحُها ضئيلٌ في وقتٍ طويل.. لذلك تكونُ الطرقُ غيرُ المشروعةِ أفضل.
- هذا بالطبعِ في وجودِ تلك الفلسفاتِ المخرّبةِ التي هدمتِ الدينَ بل وهدمتِ الإنسان، وأقنعتْه أنَّ كلَّ شيءٍ هو الدنيا، ولا توجدُ حياةٌ أخرى، إذن فلماذا لا يستمتعُ الإنسانُ بحياتِه إلى أقصى درجةٍ وبكلِّ الوسائلِ المُتاحة؟
- وفي خلالِ ذلك كلِّه، يشعرُ الإنسانُ أنّه في سباقٍ مستمرّ، وصراعٍ همجيٍّ من صراعِ الغابة، مليءٍ بالحقدِ والشرورِ والمكائدِ والدسائس، فيفقدُ الأمانَ ويُصابُ بالحذرِ من الجميع، ويزدادُ شعورُه بالتوتّرُ والتحفّز، وربّما كانَ هذا من أسبابِ انتشارِ العصبيّةِ والأمراضِ النفسيّةِ وارتفاعِ نسبةِ الجنونِ والانتحارِ في المجتمعاتِ الصناعيّة[5].. وبهذا لم تحقّقِ القيمُ الاستهلاكيّةُ السعادة، لأنّها أصبحتْ في حدِّ ذاتِها هدفًا، وليستْ وسيلةً لهدفٍ أكبر!
- تميّزت هذه الحضارةُ أيضًا بمجتمعاتِ الزحام، فمع ازديادِ النزوحِ إلى المدن، ازداد التطاولُ في البنيان، وتكدّست أعدادٌ هائلةٌ من البشرِ في مساحاتٍ محدودة، لدرجةِ أنّ هناكَ ناطحاتِ سحابٍ تعتبرُ كلٌّ منها مدينةً في حدِّ ذاتها، فيها أسواقُها ومتاجرُها، ومكاتبُها وعياداتُها وشركاتُها.. طبيعيٌّ جدًّا إذن ألا يعرفَ الجيرانُ بعضُهم البعضَ في أكثرِ الأحيان.. ومجتمعُ الزحامِ له صفاتُه المحدّدة منها:
أ. ازدحامُ المواصلاتِ والضوضاءُ والتلوّثُ وازديادُ الأمراضِ رغمِ التقدّمِ الطبّيّ.
ب. العصبيّةُ والقلقُ والتوتّر، والتفكّكُ الاجتماعيّ، وارتفاعُ نسبةِ الجرائمِ والأمراضِ النفسيّةِ، والانخراطُ في الفرديّةِ المرضيّةِ أو العباداتِ والعقائدِ الغريبة، والانتحار.. حيثُ يُشاركُ في صنعِ ذلك الإحساسُ الشائعُ بأنَّ الحاضرَ والواقعَ عبارةٌ عن عبثٍ وجنون، أو على أحسنِ الفروضِ بلا معنى[6].
ج. لقد أثبتتِ المشاهداتُ والتجاربُ، أن احتياجًا حيويًّا من احتياجاتِ الحيوانِ هو استقلالُ الموطن.. لهذا تجدُ كلَّ حيوانٍ يتركُ بموطنِه ما يدلُّ على سيادتِه، فهو مثلا يبولُ على حدودِ موطنِه ليتركَ رائحتَه، تحذيرًا لكلِّ الكائناتِ الأخرى من أن تقترب.. وعندَما تمّ وضعُ عددٍ كبيرٍ من فئرانِ التجاربِ في غرفةٍ ضيّقة، ازدادَ إفرازُها للأدرينالين وضمرتْ غددُها التناسليّةُ وتوقّفت عن التناسلِ، وازدادت عصبيّتُها وشراستُها، واشتبكتْ في صراعاتٍ داميةٍ من أجلِ استقلالِ وسيادةِ كلٍّ منها على مكانِه.. ربّما يفسّرُ لك هذا سببَ الانهيارِ الإنسانيِّ في المدنِ الضخمةِ المزدحمة.
د. أثبتتِ الدراساتُ أيضًا حاجةَ الإنسانِ إلى الشعورِ بقيمتِه وتحقيقِ ذاتِه في المجتمعِ المحيط، وهذا لا يتحقّقُ في المجتمعاتِ الصغيرةِ جدًّا، فهي تبدو لأفرادِها ضئيلةً تافهة، لا يشعرُ العالمُ بوجودِها، كما أنّه لا يتحقّقُ كذلك في المجتمعاتِ الكبيرةِ جدًّا، حيثُ يبدو البشرُ كحبّاتِ الرمل، لا يلفتونَ الانتباه، ولا تتوقّفُ الحياةُ لأفراحِهم ولا لأحزانِهم، ولا تبدو هناكَ قيمةٌ لأحلامِهم وطموحاتِهم وإنجازاتِهم.. ربّما يكونُ هذا ـ بجانبِ تفكّكِ الأسرةِ ـ من أهمِّ أسبابِ انجرافِ المراهقينَ في تياراتِ الفسادِ والضياع.. إنّهم يحاولونَ أن يصيحوا وسْطَ هديرِ الجموعِ الصاخبة: "انتبهوا.. نحنُ هنا! ".. ولا أحدَ يدري أيّهما أسوأ: هؤلاءِ أم الذينَ يجيئونَ ويذهبونَ في صمت!
هـ. هذا بالإضافةِ إلى حدوثِ نوعٍ من التأقلمِ باكتسابِ المناعة، حيثُ يؤدّي المزجُ والزحامُ والكثافةُ لحدوثِ اعتيادٍ يُفضي إلى اكتشافِ الغيرِ وتقبُّلِه، والاعترافِ بحقِّه في الاختلاف، واحترامِ نمطِ حياةِ الآخرينَ.. ورغمَ ما بهذا من ظواهرَ إيجابيّة، إلا أنّه يقترنُ بنوعٍ من التسامي على المحرّماتِ الثقافيّةِ والاجتماعيّةِ والدينيّة، فتصبحُ الأخلاقُ والأعرافُ نسبيّة، وتتهجّنُ العاداتُ والتقاليدُ والثقافات، في نوعٍ من التوحّيدِ عندَ المستوى الأدنى، ممّا يؤدّي إلى فقدانِ الهُويّةِ والشخصيّة، ومن ثَمَّ إلى تهاونٍ ثقافيِّ وأخلاقيٍّ شعارُه: "كلُّ شيءٍ جائزٌ.. كلُّ شيءٍ مباح.. أنا أقبلُ ما يُناسبُني، وأتركُ ما عداه!.. لا شأنَ لي بالآخرينَ وما يفعلُه الآخرون".. وهكذا تنهارُ المجتمعات!
أخيرًا، وفي ضوءِ كلِّ ما سبق، يجبُ أنْ نلاحظَ أنَّ حضارةً بمثلِ تلكَ المواصفات، عملتْ على تفتيتِ المجتمعِ إلى آلافِ الأجزاءِ المترابطة: مصانعَ، مدارسَ، اتحاداتٍ تجاريّة، سجونٍ، مستشفياتٍ، إلى آخره.. كما عملتْ على تفتيتِ الوظائفَ إلى فرعيّاتِ العملِ المنفصلةِ عن بعضِها، وفتّتتِ العائلاتِ إلى وحداتٍ أصغر.. مثلُ هذه الحضارةِ اقتضتْ أن يتولّى أحدٌ ما مسألةَ تجميعِ ما قامتْ بتفتيتِه.. هنا برزَ دورُ الأخصائيينَ والإداريّينَ والرؤساءِ، الذينَ آلتْ إليهم السلطةُ الحقيقيّةُ في المجتمع، لقدرتِهم على الرؤيةِ الأشمل، وتحريكِ الجموع.. إذن لم تصبحِ السلطةُ في يدِ العمالِ بمجرّدِ امتلاكِهم لأدواتِ الإنتاجِ كما قالَ (ماركس) ولا في يدِ الرأسماليّين (فقط) كما قالَ أتباعُ (آدم سمث)، ولكنّها أصبحتْ في يدِ مَنْ يتحكّمونَ في وسائلِ التكاملِ بينَ عناصرِ الإنتاج، التي عن طريقِها أمسكوا بزمامِ التّحكّمِ اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.
3- الموجةُ الثالثة (حضارةُ الاتصالات والمعلومات):
ونحنُ نعيشُ تبلورَها الآنَ بالفعل، حيثُ يتزايدُ دورُ الأقمارِ الصناعيّةِ والكمبيوترِ والإنترنت، بحيثُ تتقلّصُ المسافاتُ يومًا عن يوم.
ومن المتوقّعِ لهذه الحضارةِ أن تسعى إلى إلغاءِ الفوارقِ بينَ المُنتِجِ والمستهلك (حضارةُ المنتهلك = المنتج المستهلك)، فقد تتحوّلُ كلُّ أسرةٍ في يومٍ من الأيّام إلى وحدةٍ منتجةٍ مستقلّة، وسيقلُّ احتياجُ الإنسانِ إلى مغادرةِ مدينتِه، بل ربّما مغادرةِ بيتِه، فهو يستطيعُ التعاملَ مع العالمِ عبرَ الإنترنت، ينقلِ خبرتِه، أو يتاجر إلكترونيًّا أو غيرِ ذلك.
وبالطبعِ ستحتاجُ الموجةُ الجديدةُ إلى نظامٍ تعليمٍ ملائم، ونظرًا لانفجارِ حجمِ المعلوماتِ والمعرفةِ يوميًّا، فإنَّ نظامَ التلقينِ والتفريغِ سينتهي لا محالة، ولا بدَّ أن يحلَّ محلَّه نظامٌ بديل، يتعلّمُ فيه الطالبُ كيفَ يبحثُ عن المعرفةِ وكيفَ يستفيدُ منها.. وربّما يقلُّ دورُ التخصّص، وتزدادُ فروعُ العلومِ العابرةِ للتّخصّصات، فتزدادُ الثقافةُ شمولا.
هذا هو المفروض والذي كان متوقّعا، ولكن في ظلّ الهياج الأمريكيّ الاستعماريّ المفاجئ، يبدو أنّنا سنرى تطوّرات غير متوقّعة إطلاقا!
[1] راجع الردّ على خزعبلات ماركس في مقال "ثقافة تنحرف عن الطريق".
[2] إنّ نظرةً منصفةً لحياةِ الإنسانِ في هذه الفترةِ يجبُ أن تصيبَنا بالحسرةِ على ما آلت إليه حياتُنا.. فلم تكن الحياةُ أبدا بكلّ هذا التعقيد.. كانت الحياة بسيطة، تقوم على الرعي والزراعة والحرفِ اليدويّة والتجارة.. وهي مهن لم تكن تحتاج لتأهيل طويل.. كان الطفل منذ نعومة أظفاره يرافق والده أو أحد أقاربه ليتشرّب منه الحرفة.. وفي أثناء هذا يمكن أن يتلقّى قواعد الكتابة والقراءة والقرآن في الكتّاب.. هذا يعني أنّ الإنسان كان منتجا قبلَ أن يتجاوز عشر سنين من عمره (الآن يتعطّل الإنسان إلى ما بعد السادسة والعشرين!!).. وهذا يعني بدوره أنّ الأب كان مطلق السراح في الإنجاب، لأنّه لن يتحمّل تبعة ابنه لربع قرن!!.. ويعني أيضا أنّ بإمكان الغالبيّة العظمى من الشباب أن تتزوّج فور بلوغها الثامنة عشرةَ أو العشرين من عمرها، ممّا يعني أنّ الفتيات كنّ يتزوّجنَ في سنّ الرابعة عشرةَ والسادسة عشرة من عمرهنّ (دون أن تحتاج لامتهان كرامتها والسير شبه عارية في الشارع).. هذا أيضا يعني تقليل فترة المراهقة وبالتالي تقليل الجرائم والمشاكل، كما يعني استقرار الرجل والمرأة نفسيّا لحصولهما على الإشباع الغريزيّ.. هكذا كان الحال حتّى في فترات الضنك والفقر، فكلّ المطلوب بناء بيت من الطين وتجهيزه بحصيره وطبليّة وقلّتين وبعض أدوات الطهي.. طبعا يبدو هذا الآن بالنسبة لكلّ منّا انتحارا وسجنا، فنحن على استعداد للتضحية بالسعادة في سبيل الثلاجة والغسالة والتلفزيون، والشقق الفاخرة والأثاث الفخم.. شيء طبيعيّ إذن أن يرتفع سنّ الزواج للمرأة اليوم إلى 28 و 30 سنة!!، فالرجل يظلّ يصارع الحياة ويضيّع عمره حتّى يحصل على ثمن هذه الأشياء!!
[3] أضفْ هذه العواملَ إلى ما لحقَ بفكرِ المبدعينَ أنفسِهم من تغيّرٍ نتيجةً للفلسفاتِ السائدةِ في عصورِهم، كما ناقشنا في قسم الفلسفاتِ الهدّامة.. راجع مقال: "ثقافة تنحرف عن الطريق".
[4] لاحظْ أنَّ سببًا هامًّا لمحاولةِ تهميشِ دورِ الدينِ ومحاربتِه، هو وقوفُه ضدَّ مثلِ هذه النزعاتِ الاستهلاكيّة، بالدعوةِ إلى القناعةِ والاعتدالِ في كلِّ مباهجِ الحياة.. هذا بالإضافةِ لما ذكرناه في القسمِ الخاصِّ بالفلسفاتِ المدمّرة.. راجع مقال: "ثقافة تنحرف عن الطريق".
[5] بالإضافةِ لما ذكرناه من أسبابٍ أخرى في مواضعَ أخرى، وما سنذكرُه لاحقًا.
[6] راجع مقال: "ثقافة تنحرف عن الطريق".
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق