15
لماذا انحرفَ العالمُ كلُّه؟
انحراف الغرب:
ثانيا - سديمُ (جوتنبرج)
كيفَ غيّرتِ الطباعةُ شكلَ العالم:
كانَ اختراعُ الكتابةِ منعطفًا هامًّا في تاريخِ البشريّة، فقد أدّتْ إلى حفظِ التجاربِ والخبراتِ عبرَ الأجيال، مما عمِلَ على تراكمِ المعرفةِ البشريّة.
ولكنَّ قرونًا طويلةً كانَ يجبُ أن تنقضيَ إلى أن تُستغلَّ الكتابةُ على النحوِ الأمثل، فإنَّ واحدًا من الأسبابِ التي عوّقتْ سرعةَ التقدمِ الحضاريّ، كانَ قلةُ عددِ النسخِ الموجودةِ من الكتبِ والمخطوطات، مع بطءِ عمليّةِ النسخِ اليدويّ.. لهذا كانَ المحظوظونَ فقط، أو الجهاتُ الرسميّة، هم من يحظى بامتلاكِ نسخةٍ من كتابٍ هامٍّ أو مخطوطةٍ نادرة.. ربّما لهذا يعزو البعضُ بطءَ التقدّمِ العلميِّ إلى قيامِ الأمراءِ والكهنةِ والقساوسةِ بإحراقِ كلِّ ما لا يعجبُهم من الكتبِ والمخطوطاتِ التي يرونَ أنّها ضارّةٌ بمصالحِهم أو أنّها كفرٌ وهرطقة.. هذا بالإضافةِ إلى الحرائقِ والبراكينِ والزلازلِ والكوارثِ، التي كانتِ السببَ في دمارِ ثرواتٍ علميّةٍ وفكريّةٍ هائلة، مثلِ حريقِ مكتبةِ (الإسكندريةِ) قديمًا، والزلزالِ الذي هدمَ منارَ (الإسكندريّة)، وما قامَ به المغولُ من تدميرِ مكتبةِ (بغدادَ) بكلِّ كنوزِها، وإلقاءِ كتبها في النهرِ لصناعةِ جسرٍ يعبرونَ عليه!
هذا بالطبعِ مع صعوبةِ وبطءِ نقلِ الكتبِ من مكانٍ إلى آخر، في عصورٍ لم تَكُنْ وسائلُ المواصلاتِ بها تتجاوزُ الدّوابَّ والمراكبَ الشراعيّة.
لمثلِ هذا وغيرِه، لم يكنْ للكتابةِ الدورُ الهائلُ الذي كانتْ مؤهّلةً له، فظلّتْ بذلكَ حكرًا على الخاصّةِ دونَ سائرِ الناس.
كانَ ذلك كذلك حتى أواسطِ القرنِ الخامس عشر، حينَ ابتكرَ (نوتنبرج) المطبعةَ (وإن كانت قد عُرفتْ في الصينِ قبلَ ذلك بفترة).. فماذا حدثَ إذن مع اختراعِ وانتشارِ الطباعة؟
- كانَ من التغيّراتِ الجوهريّةِ، أن أصبحَتْ إجادةُ القراءةِ والكتابةِ وسيلةً مهمّةً يستطيعُ الرجلُ بها أن يشقَّ طريقَه في العالمِ، ويصعدَ درجاتِ المجتمع، بدلا من إجادةِ فنونِ الحرب، التي طالما لقِيَتِ الإقبالَ والتوقير.
- أدّتِ الطباعةُ أيضًا إلى تكثيفِ الحروبِ الدعائيّةِ، فازدادتْ حدّةُ الاحتكاكِ التقليديِّ بينَ التاجِ (الملك) والمقاطعات، وبينَ البلاطِ والريفِ، وبينَ الكنيسةِ والدولة، الأمرُ الذي وضعَ الأساسَ لتشكيلِ الأحزابِ السياسيّةِ المتمايزةِ عن مجرّدِ التكتّلاتِ التي كانت موجودةً في عصرٍ سابق.
- ساعدَ انتشارُ الطباعةِ ونموُّ فيضانٍ من أنواعِ الإقناعِ المكتوبةِ إلى أن أصبحتِ الحربُ أقربَ منالا للناسِ الذينَ لم يشتركوا في الحروبِ من قبل، وفاقَ تأثيرُ الصورِ المكتوبةِ للحربِ وأهوالِها تأثيرَ النصبِ التذكاريّةِ والرسومِ الجامدة.
- كانَ الإصلاحُ الدّينيُّ[1] أوّلَ حركةٍ دينيّةٍ تحظى بمساعدةِ المطبعة، حينما قامَ الراهبُ الألمانيُّ (مارتن لوثر) بتثبيتِ أطروحاتِه بالمساميرِ على بابِ كنيسةِ القلعةِ في مدينةِ (فيتمبرج) عامَ 1517، داعيًا إلى إصلاحِ الكنيسةِ الكاثوليكيّة.. ففيما بينَ العامينِ 1517 و1520 بيعتْ من مطبوعاتِ (لوثر) الثلاثينَ ما يزيدُ كثيرًا عن 300 ألف نسخة، ممّا أدّى لانتشارِ أفكارِه الدينيّةِ عبرَ الحدود، دونَ الحاجةِ لأن ينتقلَ هو شخصيًّا لإلقاءِ خطبِه بينَ الحشود، مع ما يمثّلُه هذا من مخاطرةِ إلقاءِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ القبضَ عليه.. إنَّ من المؤكّدِ أنّه من دونِ الطباعةِ ما كانَ لثورةٍ بهذه الضخامةِ أن تتحقّقَ وتكتمل.. وقد اعتبرَ (لوثر) اختراعَ (جوتنبرج) " أسمى عطايا الرّبِّ المباركةِ، حيثُ يدفعُ الدعوةَ إلى الإنجيلِ إلى الأمام ".. لقد نظرَ إلى الطباعةِ باعتبارِها الوسيطَ الذي اختاره الرّبُّ من خلالِ (جوتنبرج) لتحريرِ الشعبِ الألمانيِّ من فسادِ (روما).. لهذا أمسكَ البروتستانتُ بالقلمِ باعتبارِه السلاحَ الذي كانَ مقدّرًا له أن يتحدّى سطوةَ السيفِ وقوّتَه.. حينئذٍ بدأ الكاثوليك والبروتستانت في فرضِ أنواعٍ من الرقابةِ على المطبوعات، بعدَ اكتشافِ خطورتِها الرهيبةِ في نشرِ الأفكارِ وتحريكِ الجموع.. ومن قرأَ أو شاهدَ (أحدب نوتردام)، سيعرفُ كيفَ كانت (فرنسا) تُصادرُ آلاتِ الطباعةِ لخوفِ الكنيسةِ منها، وكيفَ كان امتلاكُ ورقةٍ مطبوعةٍ واحدةٍ سببًا كافيًا لعقوبةِ الإعدام!
- استطاعتِ الطباعةُ كذلك اختراقَ الحدودِ اللغويّةِ وتجاوزَها، فقد كانتْ أوائلُ الكتبِ مزوّدةً بالكثيرِ من الرسومِ لتوضيحِ النصِّ المكتوبِ، ولتوسيعِ جمهورِ متلقيها ممن لا يجيدونَ القراءةَ أو اللغةَ التي طُبعتْ بها.
- عملتْ الطباعةُ على نشرِ المعرفةِ بينَ جمهورٍ أوسع، فبدلا من اللغةِ اللاتينيّةِ التي كانتْ تكتبُ بها المخطوطاتُ العلميّةُ والدينيّةُ والكتابُ المقدّسُ، توسّعتْ الطباعةُ باللغاتِ المحلّيّة، مثلما توسّعَ البروتستانت في طباعةِ الكتابِ المقدّسِ بهذه اللغات.. وربّما ساعدَ هذا على ترسيخِ الأفكارِ القوميّة.
- أدّتِ الطباعةُ إلى ظهورِ الصحافة، التي قضَّتْ لها مضاجعُ الملوكِ والأمراء، وحاولوا بشتّى الطُرقِ فرضَ الرقابةِ على النشرِ، ووضعَ القيودِ والرسومِ الإضافيّةِ على إصدارِ الصحفِ لكي يرتفعَ ثمنُها ويقلَّ قرّاؤُها، وأحيانًا كانوا يلجأونَ إلى تمويلِ بعضِ الصحفِ ـ خلافَ الصحفِ الحكوميّة ـ في الخفاءِ لتأييدِ آرائِهم.. وفي النهايةِ عجزوا عن الوقوفِ في وجهِ أداةِ الحرّيّةِ الكاسحة، صاحبةِ الجلالةِ الصحافة، التي تزايدتْ أعدادُها بسرعةٍ كبيرة، وانتشرتْ بينَ جماهيرَ أوسع.. لقد لعبتْ الصحافةُ في (أوروبّا) ـ ولا سيّما (بريطانيا) ـ دورًا هائلا في انتصارِ الديمقراطيّة، والتخلّصِ من النظمِ الاستبداديّةِ التقليديّة.
- استُخدمتِ الطباعةُ كذلك في نشرِ الكتاباتِ والصورِ الفاضحة.. ومع الرقعةِ الواسعةِ التي تنتشرُ عبرَها الطباعة، ومع الصعوبةِ البالغةِ في الرقابةِ على كلِّ ما يُطبعَ ـ فما أكثرَ المطابعَ السّرّيّة ـ يُمكنُكَ أن تتخيّلَ أنَّ هذه كانتِ إحدى المنعطفاتِ الهامّةِ على طريقِ انحرافِ البشريّة[2].. إنَّ الكثرةَ والاستمرارَ والإلحاحَ المستمرَّ في نشرِ الأفكارِ المنحرفةِ والرسومِ الفاضحةِ لقادرةٌ على غسيلِ أمخاخِ أجيالٍ عديدة، تلكَ التي من كثرةِ الاعتيادِ والألفة، تعتبرُ أنَّ ما تراه وتقرأُه هو الصوابُ بعينِه، ولا صوابَ غيرُه!
- صاحبت الكثيرُ من الفلسفاتِ والنظريّاتِ الهدّامةِ ظهورَ الحضارةِ الصناعيّة، فهل تتخيّلُ أنَّ مثلَ هذه الأفكارِ كانَ سيقدّرُ لها الانتشارُ والذيوعُ بينَ الجماهيرِ لتغييرِ نظرتِهم إلى الدنيا والدينِ بل وإلى أنفسِهم، ما لم تكُنِ الطباعةُ قد اختُرعتْ؟[3]
- أثبتتِ الإحصائيّاتُ والدراساتُ أنَّ معظمَ الأدباءِ والشعراءِ والفنانينَ معقّدٌ نفسيًّا، أو منحرفٌ أخلاقيًّا، وكثيرٌ منهم كانوا شواذًّ حتّى!.. كلُّ الأدباءِ متمرّدٌ، ذاتُه قلقةٌ، يبحثُ عن شيءٍ مجهولٍ لا يدريه هو نفسُه، ثائرٌ على المجتمع، وأغلبُهم يفشلُ في زواجِه وحياتِه الشخصيّة.. مثلُ هؤلاءِ قُدّرَ لهم أن يكونوا مسئولينَ عن توجيه المجتمع، فالأشعارُ والقصصُ والرواياتُ والمسرحيّاتُ والكتبُ، التي ساعدتِ الطباعةُ على ألا يخلوَ بيتٌ منها، خاصّةً مع ما تتمتّعُ به من جاذبيّةٍ وتشويقٍ وإمتاع، قد عملِتْ على تربيةِ ذوقِ البشريّة، وتغييرِ أفكارِها وطباعِها.. ولكنْ على يدِ مَن؟؟!!!.. يُمكنُكَ أن تقولَ إنَّ ما حدثَ بالضبطِ هو (تسليمِ القطِّ مفتاحَ الكرار!!).. المشكلةُ ليستْ في الأديبِ فحسب، بل في الاتجاهاتِ العجيبةِ والشعاراتِ المريبةِ التي تنبتُ فجأةً، ويتمُّ الترويجُ لها على أساسِ أنّها هي الأدبُ والفنّ، وذلك لاستقطابِ شبابِ الأدباءِ ليكونوا أدواتِ تدميرٍ لمجتمعاتِهم[4].
- عملتْ الطباعةُ كذلك على تحويلِ الأدبِ والفنِّ من الإبداعِ المحضِ إلى نوعٍ من النشاطِ التجاريّ، فبدلا من أنْ يعيشَ الأديبُ أو الفنّانُ في كنفِ أميرٍ أو ملكٍ أو إقطاعيٍّ يُغدقُ عليه العطاءَ لينسبَ لنفسِه مجدًا شخصيًّا، ويُقالَ بأنّه أكبرُ راعٍ للآدابِ والفنونِ في عصرِه، صارَ المبدعُ يتعاملُ مع جمهورٍ واسعٍ عريضٍ يحدُّه بذوقِه وثقافتِه.. أعتقدُ أنّكَ تستطيعُ تخيّلَ كيفَ يمكنُ أنْ تدفعَ لقمةُ العيشِ مثلَ هؤلاءِ المبدعين أو مدّعى الشهرةِ أو راغبيها، إلى الإسفافِ والابتذالِ والتكرارِ التقليديِّ والإباحيّةِ وما إلى ذلك، لمجردِ إرضاءِ ذوقِ أكبرِ عددٍ ممكنٍ من (المشترين)، لإرضاءِ الناشرِ وجمعِ المال![5]
وحتّى لا يكونُ الكلامُ مجرّدا، تعالَ نرى بعضَ نماذجَ الاتجاهاتِ الأدبيّةِ والفنّيّةِ الهدّامة، لتلمسَ كيفَ استخدمتِ الطباعةُ كمعولِ هدمٍ للأخلاقِ والعقولِ ونظمِ المجتمعاتِ والأديان.
[1] اقرأِ الفصلَ المُعَنْونِ بـ "كيف تراجع دورُ الدينِ في أوروبا".
[2] سيتساءلُ البعضُ في تعجّب: لماذا هذا التحذيرُ الزائدُ منَ الجنسِ والإباحيّة؟.. وهؤلاءِ ـ بخلافِ أنّهم يُغفلونَ القيمَ الدينيّة ـ ينسونَ أنَّ الحياةَ البشريّةَِ مجموعةً منَ المفاهيمِ، حينما ينفرطُ عقدُها وتفقدُ قيمتَها، يضيعُ الحافزُ للحياةِ نفسِها.. لا غروَ إذن أن تنهارَ الروابطُ الاجتماعيّةُ في الغربِ مع ازديادِ الإباحيّة، وينهارَ الفردُ نفسُه بالانحرافِ إلى الإجرامِ أو الإصابةِ بالأمراضِ النفسيّةِ والعصبيّةِ أو الإقدامِ على الانتحار.. ولمن يريدُ المزيدَ من التفاصيلِ حولَ الأثرِ المدمّرِ للإباحيّةِ على الأطفالِ والمراهقين، فعليه بقراءةِ الفصلِ المعنونِ بـ "خطورةُ الإباحيّة".
[3] اقرأِ الفصلَ المُعَنْونِ بـ "ثقافةٌ تنحرفُ عن الطريق".
[4] اقرأِ الفصلَ المعنونَ بـ "رصد لبعضِ الظواهرِ الأدبيّة".
[5] لا يعني هذا أنّي أدعو إلى أن تدعمَ الدولةُ المبدعينَ، فهذا يحوّلُهم إلى موظّفينَ، ويجعلُ للوساطةِ والمحسوبيّةِ والعلاقاتِ الشخصيّةِ والدوافعِ السياسيّةِ اليدَ الطولى في تعريفِ من هو مبدعٌ من عدمِه!.. ونحنُ نرى العاهاتِ التي تنشرُ لها وزارةُ الثقافةِ في (مصرَ) تحتَ مسمّى حرّيّةِ الفكرِ وتحفيزِ المبدعين!.. إذنْ ما الحلّ؟!!.. هذا هو: تركُ الإبداعِ للعرضِ والطلبِ، ولكن مع تشديدِ الرقابةِ على كلِّ ما يقرأُ ويُشاهدُ ويُسمع، على أن تضمَّ لجانُ الرقابةِ رجالَ دينٍ، وخبراءَ نفسيينَ واجتماعيّين، ولغويّينَ ونقّادًا وفنانين، ومختصّينَ في مختلفِ فروعِ العلم، حتّى لا نتركَ عقولَ أجيالِنا لتخريفِ كلِّ مَن هبَّ ودبّ!.. على ألا يدخلَ ضمنَ رجالِ الرقابةِ رقباءُ سياسيّون، حتى لا يقتلوا حرّيّةَ الفكرِ والإبداعِ والتعبيرِ عن رأيِ الشعبِ أو يعملوا على تزييفِ وعيِ الشعوبِ، لصالحِ حفنةٍ من رجالِ المناصب!.. وعلى أن يكونَ منصبُ الرقيبِ مستقلا تمامًا، كاستقلالِ القضاءِ أو هو أشدُّ استقلالا!
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق