409
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء السابع والاخير
ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطول
كان الفرنج في مدة مقامهم على عكا قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جدًا طول كل برج منها في السماء ستون ذراعًا وعملوا كل برج منها خمس طبقات كل طبقة مملوءة من المقاتلة وقد جمعوا أخشابها من الجزائر فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب إلا القليل النادر وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها وأصلحوا الطرق لها وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول فأشرفت على السور وقاتل من بها من عليه فانكشفوا وشرعوا في طم خندقها فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهرًا.
فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنسانًا سبح في البحر فأعلمه ما هم فيه من الضيق وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلوهم من جميع جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغلهم عن مكاثرة البلد فافترق الفرنج فرقتين: فرقة تقاتل صلاح الدين وفرقة تقاتل أهل عكا إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد ودام القتال ثمانية أيام متتابعة آخرها الثامن والعشرون من الشهر وسئم الفريقان القتال وملوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج فإنهم لم يتركوا حيلة إلا وعملوها فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئًا وتابعوا رمي النفط الطيار عليها فلم يؤثر فيها فأيقنوا بالبوار والهلاك فأتاهم الله بنصر من عنده وإذن في إحراق الأبراج.
وكان سبب ذلك أن إنسانًا من أهل دمشق كان مولعًا بجمع آلات النفاطين وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه وهو يقول: هذه حالة لا أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها وكان بعكا لأمر يريده الله فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها وقال له: تأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه.
وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله فازداد غيظًا بقوله وحرد عليه فقال له: قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا فقال له من حضر: لعل الله تعالى قد جعل الفرنج على يد هذا ولا يضرنا أن نوافقه على قوله فأجابه إلى ذلك وأمر المنجنيقي بامتثال أمره فرمى عدة قدور نفطًا وأدوية ليس فيها نار فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئًا يصيحون ويرقصون ويلعبون على سطح البرج حتى إذا علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج ألقى قدرًا مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج وألقى قدرًا ثانية وثالثة فاضطرمت النار في نواحي البرج وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص فاحترق هو ومن فيه وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير.
وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل شيئًا يحملها على الطمأنينة وترك السعي في الخلاص حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني وقد هرب من فيه لخوفهم فأحرقه وكذلك الثالث وكان يومًا مشهودًا لم ير الناس مثله والمسلمون ينظرون ويفرحون وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحًا بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد ألا وله في البلد إما نسيب وإما صديق.
وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثير فلم يقبل منه الحبة الفرد وقال: إنما عملته لله تعالى ولا أريد الجزاء إلا منه.
وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر وأرسل يطلب العساكر الشرقية فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة ثم أتاه علاء الدين ولد عز
الدين مسعود بن مودود بن زنكي سيره أبوه مقدمًا على عسكره وهو صاحب الموصل ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره وينضم إليه غيرهم ويقاتلونهم ثم ينزلون.
ووصل الأسطول من مصر فلما سمع الفرنج بقربه منهم جهزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتله فركب صلاح الدين في العساكر جميعها وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا فلم يشتغلوا عن قصده بشيء فكان القتال بين الفريقين برًا وبحرًا وكان يومًا مشهودًا لم يؤرخ مثله وأخذ المسلمون من الفرنج مركبًا بما فيه من الرجال والسلاح وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين ووصل الأسطول الإسلامي سالمًا.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق