621
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء السابع والاخير
ذكر وصول التتر إلى أذربيجان
لما هجم الشتاء على التتر في همذان وبلد الجبل رأوا بردًا شديدًا وثلجًا متراكمًا فساروا إلى أذربيجان ففعلوا في طريقهم بالقرى والمدن الصغار من القتل والنهب مثل ما تقدم منهم وخربوا وأحرقوا ووصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان فلم يخرج إليهم ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلًا ونهارًا لا يخرج إليهم ولا
حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلًا ونهارًا لا يفيق وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال وثياب ودواب وحمل الجميع إليهم فساروا من عنده يريدون ساحل البحر لأنه يكون قليل البرد ليشتوا عليه والمراعي به كثيرة لأجل دوابهم فوصلوا إلى موقان تطرقوا في طريقهم إلى بلاد الكرج فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر نحو عشرة آلاف مقاتل فقاتلوهم فانهزمت الكرج وقتل أكثرهم.
وأرسل الكرج إلى أوزبك صاحب أذربيجان يطلبون منه الصلح والاتفاق معهم على دفع التتر فاصطلحوا ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء وكذلك أرسلوا إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل صاحب خلاط وديار الجزيرة يطلبون منه الموافقة عليهم وظنوا جميعهم أن التتر يصبرون في الشتاء إلى الربيع فلم يفعلوا كذلك بل تحركوا وساروا نحو بلاد الكرج وانضاف إليهم مملوك تركي من مماليك أوزبك اسمه أقوش وجمع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم فاجتمع معه خلق كثير وراسل التتر في الانضمام إليهم فأجابوه إلى ذلك ومالوا إليه للجنسية فاجتمعوا وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج فملكوا حصنًا من حصونهم وخربوه ونهبوا البلاد وخربوها وقتلوا أهلها ونهبوا أموالهم حتى وصلوا إلى قرب تفليس.
فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها إليهم فلقيهم أقوش ألًا فيمن اجتمع إليه فاقتتلوا قتالًا شديدًا صبروا فيه كلهم فقتل من أسحاب أقوش خلق كثير وأدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال وقتل منهم أيضًا كثير فلم يثبتوا للتتر وانهزموا أقبح هزيمة وركبهم السيف من كل جانب فقتل منهم ما لا يحصى كثرة وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه السنة ونهبوا من البلاد ما كان سلم منهم.
ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية ويجاوزوا العراق من ناحية همذان وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده فمتى يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها يسر اله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن.
هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها وناهيك به سعة بلاد وتعدت هذه الطائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم.
والعدو الآخر الفرنج قد ظهروا من بلادهم في أقصى بلاد الروم بين الغرب والشمال ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط وأقاموا فيها ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها ولا إخراجهم منها وباقي ديار مصر على خطر فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزم شاه محمدًا قد عدم لا يعرف حقيقة خبره فتارة يقال مات عند همذان وأخفي موته وتارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك وأخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره وتارة يقال عاد إلى طبرستان وركب البحر فتوفي في جزيرة هناك وبالجملة فقد عدم ثم صح موته ببحر طبرستان وهذا عظيم إن مثل خراسان وعراق العجم أصبح سائبًا لا مانع له ولا سلطان يدفع عنه والعدو يجوس البلاد يأخذ ما أراد ويترك ما أراد على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوا كل ما مروا عليه وأحرقوه ونهبوه وما لا يصلح لهم أحرقوه فكانوا يجمعون الإبريسم تلالًا ويلقون فيه النار وكذلك غيره من الأمتعة.
في صفر سنة ثماني عشرة وستمائة ملك التتر مدينة مراغة من أذربيجان.
وسبب ذلك أننا ذكرنا سنة سبع عشرة وستمائة ما فعله التتر بالكرج وانقضت تلك السنة وهم في بلاد الكرج فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية ومضايق تحتاج إلى قتال وصراع فعدلوا عنهم وهذه كانت عادتهم إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعًا عدلوا عنها فوصلوا إلى تبريز وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب فساروا عنه إلى مدينة مراغة فحصروها وليس بها صاحب يمنعها لأن صاحبها كانت امرأة وهي مقيمة بقلعة رويندز وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» .
فلما حصروها قاتلهم أهلها فنصبوا عليها المجانيق وزحفوا إليها وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوهم فكانوا يقاتلون كرهًا وهم المساكين كما قيل: «كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر» وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين فيكون القتل في المسلمين الأسارى وهم بنجوة منه.
فأقاموا عليها عدة أيام ثم ملكوا عنوة وقهرًا رابع صفر ووضعوا السيف في أهلها فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء ونهبوا كل ما يصلح لهم وما لا يصلح لهم أحرقوه واختفى بعض الناس منهم فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم: نادوا في الدرب أن التتر قد رحلوا فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل.
وبلغني أن امرأة من التتر دخلت دارًا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلًا فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيرًا وسمعت من بعض أهلها أن رجلًا من التتر دخل دربًا فيه مائة رجل فما زال يقتلهم واحدًا واحدًا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلًا ولا كثيرًا نعوذ بالله من الخذلان.
ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل فخفنا حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفًا من السيف وجاءت كتب مظفر الدين صاحب إربل إلى بدر الدين صاحب الموصل يطلب منه نجدة من العساكر فسير إليه جمعًا صالحًا من عسكره وأراد أن يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر أن يجوزها إلا الفارس بعد الفارس ويمنعهم من الجواز إليه.
ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل وإلى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا لمنعوا التتر فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل لصعوبتها إلى هذه الناحية ويطرقون العراق فسار مظفر الدين من إربل في صفر وسار إليهم جمع من عسكر الموصل وتبعهم من المتطوعة كثير.
وأرسل الخليفة أيضًا إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم فاتفق أن الملك المعظم ابن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين بمصر وطلب منه أن يحضر بنفسه ليسروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج فاعتذر إلى الخليفة بأخيه وقوة الفرنج وإن لم يتداركها وإلا خرجت هي وغيرها وشرع يتجهز للمسير إلى الشام ليدخل مصر.
وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط.
فلما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا سير الخليفة إليهم مملوكه قشتمر وهو أكبر أمير بالعراق ومعه غيره من الأمراء في نحو ثماني مائة فارس فاجتمعوا هناك ليتصل بهم باقي عسكر الخليفة وكان المقدم على الجميع مظفر الدين فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على قصد التتر.
وحكى مظفر الدين قال: لما أرسل إلي الخليفة في معنى قصد التتر قلت له: إن العدو قوي وليس لي من العسكر ما ألقاه به فإن اجتمع معي عشرة آلاف فارس استنقذت ما أخذ من البلاد فأمرين بالمسير ووعدني بوصول العسكر فلما سرت لم يحضر عندي غير عدد لم يبلغوا ثماني مائة طواشي فأقمت وما رأيت المخاطرة بنفسي وبالمسلمين.
ولما سمع التتر باجتماع العساكر لهم رجعوا القهقرى ظنًا منهم أن العسكر يتبعهم فلما لم يروا أحدًا يطلبهم أقاموا وأقام العسكر الإسلامي عند دقوقا فلما لم يروا العدو يقصدهم ولا المدد يأتيهم تفرقوا وعادوا إلى بلادهم.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق