7
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الأول: الإطـار النظــرى
الجزء الأول: إشكاليات نظرية
الباب الأول: مقـدمة
دراسـة حـالة
«دراسة حالة» هي ترجمة لعبارة «كيس ستدي case study» الإنجليزية التي تعني دراسة الظواهر الإنسانية من خلال التحليل المتعمق لحالة فردية (قد يكون شخصاً أوجماعة أو حقبة تاريخية). ويفترض هذا المنهج أن الباحث يرى أن الحالة الفردية موضع الدراسة هي حالة ممثلة لحالات أخرى كثيرة (حالة نماذجية في مصطلحنا)، أي أنها جميعاً تنتمي لنفس النموذج. وهدف الدراسة هو الوصول لهذا النموذج متمثلاً بشكل متبلور في الحـالة عن طريق التحـليل المتعمق. وبعد الوصول إلى هذا النموذج يمكن تطبيقه على حالات أخرى تندرج تحته.
وهذه الموسوعة قامت بتطوير نماذج ثلاثة أساسية: الحلولية الكمونية الواحدية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعات الوظيفية، ثم حاولت تحديد معالم هذه النماذج، ثم قامت باختبارها عن طريق تطبيقها على حالة محددة هي الجماعات اليهودية في العالم منذ ظهورها على مسرح التاريخ حتى الوقت الحاضر.
ثلاثة نماذج أساسية: الحلولية - العلمانية الشاملة -
الجماعة الوظيفية
يمكن القول بأن الأداة التحليلية الأساسية في هذه الموسوعة هي النموذج المعرفي التحليلي المركب الذي يبتعد عن الاختزالية والتفسيرات أحادية البُعد. فقد قمنا بصياغة نموذج مركب فضفاض يحاول أن يتناول الظواهر اليهودية والصهيونية في أبعادها السياسية والاقتصادية والحضارية والمعرفية، بل يشير إلى بعض العناصر التي قد يعجز هو ذاته عن تفسيرها. والنموذج التحليلي المركب الذي طورناه يتسم (في تصورنا) بأنه لا يتأرجح بحدة بين العمومية الشاملة والخصوصية المتطرفة (المتأيقنة) فهو نموذج على مستوى معقول من العمومية والخصوصية يرمي إلى وضع اليهود واليهودية والصهيونية، باعتبارهم حالة محددة، في سياق إنساني عالمي مقارن يضم كل البشر ويدرك إنسانيتنا المشتركة، حتى ندرك أن الحالة المحددة ليست شيئاً مطلقاً وإنما تنتمي إلى نمط إنساني عام ومجرد، ومع هذا يحاول النموذج التحليلي في الوقت نفسه ألا يهمل الملامح الفريدة والمنحنى الخاص للظواهر اليهودية والصهيونية. ولذا لم نقذف باليهود واليهودية والصهيونية في صحراء العمومية المُسطَّحة التي وضعهم فيها أصحاب النماذج التحليلية الموضوعية الملساء (ومن بينهم صهاينة يريدون تطبيع اليهود) الذين يرون اليهود باعتبارهم وحدات مادية، اقتصادية أو سياسية عامة، ليست لها ملامح متميِّزة ولا تتمتع بأية خصوصية. كما أننا لم نتركهم في جيتو الخصوصية اليهودية، المفاهيمي والمصطلحي، جيتو التفرُّد المطلق، والقداسة والدناسة، والطهارة والنجاسة، والاختيار والنبذ. ذلك الجيتو الذي وضعهم فيه أصحاب النماذج التحليلية من الصهاينة وأعداء اليهود الذين يرون اليهود باعتبارهم ظاهرة مستقلة، مكتفية بذاتها، تحوي داخلها كل أو معظم ما يكفي لتفسيرها. وانطلاقاً من هذا التصور تم تأسيس مخصصاً "علمياً" يُسمَّى «الدراسات اليهودية».
بدلاً من كل هذا، حاولنا أن ندخل الظواهر اليهودية والصهيونية المجال الرحب للعلوم الإنسانية وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا والتاريخ الإنساني، حيث يمكن من خلال نماذج مركبة رؤية علاقة الكل (العام) بالجزء (الخاص) دون أن يفقد أيٌّ منهما استقلاله وحدوده.
ولإنجاز كل هذا، قمنا بتفكيك مقولات مثل «اليهودي العالمي» و«اليهودي المطلق» و«اليهودي الخالص» و«المؤامرة اليهودية» و«التاريخ اليهودي» (... إلخ) لنبيِّن المفاهيم الكامنة فيها، فهي تفترض أن اليهود لا يتغيرون بتغير الزمان أو المكان، وحتى إن تغيَّروا فإن مثل هذا التغيُّر يحدث داخل إطار يهودي مقصور على اليهود داخل حركيات وآليات التاريخ اليهودي. وبيَّنا عجز مثل هذه المقولات عن تفسير الواقع بأن أشرنا إلى عدد كبير من العناصر التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية التي لم تتعرض لها هذه المقولات لأنها تقع خارج نطاق مقدرتها التفسيرية. وبيَّنا أن هذه المقولات تتسم بالعمومية المفرطة (اليهود في كل زمان ومكان) والخصوصية المفرطة (اليهود وحدهم دون غيرهم). وأوضحنا كذلك أن من المستحيل أن نفهم سلوك اليهود، وآلامهم وأشواقهم وخيرهم وشرهم، من الداخل، أي بالعودة إلى كتبهم المقدَّسة (التوراة والتلمود) أو شبه المقدَّسة (القبَّالاه) أو غير المقدَّسة (البروتوكولات كما يزعم المعادون لليهودية) أو بالعودة إلى تصريحات الصهاينة وغيرهم.
ولذا، فإننا في سياق محاولة نحت نموذج تحليلي جديد مركب، لم نذهب إلى التوراة والتلمود والبروتوكولات وحارات الجيتو ولا إلى بقعـة جغــرافية معيَّنة أو لحظــة تاريخيــة بعينــها. وحــاولنا ألا نســتنيم لأية أطروحــات أو مســلمات عامــة (الصــراع العــربي الإسـرائيلي إن هو إلا صراع طبقي أو اقتصادي ـ العنصر الاقتصادي هو الذي يحرك كلاً من العرب واليهود ـ اليهود إن هم إلا بورجوازيون صغار ـ إسرائيل إن هي إلا قاعدة للاستعمار الغربي)، فدرسنا كل جماعة يهودية في سياقها السياسي والاقتصادي والتاريخي والحضاري والديني والإنساني المتعيِّن حتى نفهم العناصر التي تنفرد بها عن غيرها والعناصر التي توجد في كل الجماعات.
وقد وجدنا أن من الأجدى من الناحية التفسيرية، ألا نشير إلى اليهود في كل زمان ومكان باعتبارهم «اليهود» وحسب، وبشكل مجرد وكلي ومغلق، بل رأينا أن نشير إليهم باعتبارهم «أعضاء الجماعات اليهودية» في هذا المكان أو ذاك الزمان، وذلك حتى ينفتح الجيتو وحتى نستخدم مصطلحاً قادراً على التعامل مع كل الجوانب المتعددة والثرية للظواهر اليهودية. ونفس الشيء بالنسبة لمسألة «التاريخ اليهودي» الذي يصبح «تواريخ الجماعات اليهودية» و«الهوية اليهودية» التي تصبح «الهويات اليهودية» و«الجريمة اليهودية» التي تصبح «الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية». فهذه الجماعات اليهودية يمكن أن نجدها في الصـين في القرن الرابع عشر أو في بولندا في القرن التاسـع عشـر أو في جنوب أفريقيا في القرن العشرين. وبينما تميل الدراسات الصهيونية (والمعادية لليهود) والمتأثرة بها إلى أن تؤكد عناصر التشابه بين هؤلاء، وجدنا أن من الأجدى أن نرصد كلاًّ من عناصر التشابه والتجانس والاختلاف وعدم التجانس ثم نرتب العناصر حسـب مقدرتها التفسيرية. ولقد وجدنا أن عنـاصر التشـابه والتجانـس، رغم أهميتها أحياناً، أقل أهمية من عناصر الاختلاف وعدم التجانس (ومن هنا صيغة الجمع).
ثم طورنا عدة نماذج لكل مستواه التعميمي وسياقاته ومستويات فعاليته، ولكنها مع هذا ينتظمها نموذج تحليلي مركب أكبر تلتقي من خلاله كل أو معظم النقط الأساسية:
1 ـ أول هذه النماذج هو نموذج الجماعات الوظيفية الذي طورناه لدراسة وضع الجماعات اليهودية في العالم الغربي ووضع الأقليات المماثلة في الحضارات الأخرى (الصينيون في جنوب شرق آسيا والهنود في أفريقيا... إلخ). أي أن دراسة الحالة هنا أخذت شكل دراسة أعضاء الجماعات اليهودية في إطار عِلم اجتماع الأقليات والجماعات التجارية الهامشية والجماعات الإثنية. وما يحدث لليهودي يحدث لكل أعضاء الأقليات (والجماعات الوظيفية) الأخرى، أي أن اليهودي يظهر باعتباره الإنسان عضو الأقلية الدينية أو الإثنية أو الوظيفية.
2 ـ اكتشفنا الحقيقة البديهية (والتي غابت عن الكثيرين): أن الظاهرة اليهودية ابتداءً من عصر النهضة في الغرب تحوَّلت تدريجياً إلى ظاهرة غربية بالدرجة الأولى، أي أن السياق الأساسي للجماعات اليهودية في العالم أصبح هو الحضارة الغربية الحديثة. وفي داخل هذا الإطار، اكتشفنا أن تجربة يهود بولندا هي أهم التجارب التاريخية للجماعات اليهودية سواء من ناحية الكم (الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي، مع نهاية القرن التاسع عشر، إما من بولندا أو من أصل بولندي) أو من ناحية الكيف والتطورات التاريخية اللاحقة. فالصهيونية هي حركة نشأت أساساً في صفوف يهود اليديشية، والتجربة الاستيطانية الصهيونية اللاحقة أكدت أهمية تجربة يهود الأرندا في أوكرانيا كممثلين لطبقة الشلاختا (النبلاء البولنديين) في إطار الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا وثورة شميلنكي ضد هذا الإقطاع.
لكن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة منذ عصر النهضة، سواء في شرق أوربا أم خارجها، هو تاريخ التحديث والتغريب والعلمنة الجزئية والشاملة والمشاكل المرتبطة بظهور الدولة العلمانية القومية المركزية. وهذا التاريخ ليس تاريخ العلمنة وحسب وإنما هو أيضاً تاريخ الإمبريالية، فتاريخ التشكيل الحضاري الغربي الحديث هو أيضاً تاريخ التشكيل الإمبريالي الغربي الحديث. وقد ارتبطت الجماعات اليهودية في الغرب، منذ البداية، بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، وتحدَّد مسار هجرة أعضاء الجماعات اليهودية بحركة الاستيطان الغربي. كما أن رؤية الإنسان الغربي للعالم ولذاته وللجماعات اليهودية أصبحت رؤية علمانية إمبريالية. ومن هنا، كان لابد من توسيع نطاق النموذج ليشمل هذه الرؤية. وكان هذا يعني ضرورة تطوير نموذج آخر هو نموذج الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، وهو نموذج أكثر اتساعاً من نموذج الجماعات الوظيفية وأكثر عمومية إذ لا يضع اليهود في سياق الأقليات وحسب وإنما في سياق التشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي، وهو التشكيل الذي هيمـن على العـالم بأسره وضمنه أعضـاء الجماعات اليهودية. وقد طبقنا هذا النموذج على اليهود باعتبارهم حالة محددة: أقلية إثنية دينية تعيش في عصر العلمانية الشاملة. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان الغربي الحديث، وما يحدث له (من اندماج ودمج وتدجين وتوظيف وتنميط وعلمنة وإبادة) هو ما يحدث للملايين من البشر في العصر الحديث. وهو إنسان يعيش في عصر أزمة الحداثة (ما بعد الحداثة).
3 ـ استخدمنا في دراستنا لتطور اليهودية نموذج الحلولية الكمـونية الواحدية مقابل نموذج التوحيد والتجاوز (الذي يفـترض وجـود ثنائية فضفاضة)، وبيَّنا أن الصراع بين النموذجين يشكل التوتر الأساسي في اليهودية (وفي كل الأديان). فهو تعبير عن تناقض إنساني أساسي يسم إنسانيتنا المشتركة، يأخذ شكل النزعة الجنينية (وهي الرغبة في فقدان الهوية والالتحام بالكل والتخلي عن الوعي وعن المسئولية الخلقية) في مقابل النزعة الإنسانية والربانية (وهي أن يؤكد الإنسان هويته الإنسانية المستقلة عن الطبيعة ويتحمل المسئولية الخلقية عن هذا الوضع).
ومن خلال نموذج الحلولية الكمونية هذا أرّخنا للعقيدة اليهودية ولتصاعد معدلات الحلولية الكمونية فيها إلى أن سيطرت القبَّالاه عليها تماماً. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان ممثل الإنسانية المشتركة في واقعها المأساوي والملهاوي، وفي مقدرتها الهائلة على تجاوز عالم المادة وعلى الغوص فيه، وعلى الصعود إلى أعلى درجات النبل، وعلى الهبوط إلى أدنى درجات الخساسة.
النماذج الثلاثة الأساسية: استقلالها الواضح ووحدتها الكامنة
كل نموذج من النماذج الثلاثة الفرعية (الحلولية الكمونية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعة الوظيفية) له استقلاله عن النموذجين الأخرين، وكل سياق له آلياته وحركياته وسماته، ويتفاوت البُعد الزماني في النماذج الثلاثة، فهو أكثر وضوحاً في نموذج الجماعة الوظيفية، ويكاد يتلاشى في نموذج الحلولية، ولكن النماذج كلها مع هذا تتلاقى وتتقاطع. فسنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية من حملة الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية/المادية). ولكن ثمة تقابلاً اختيارياً بين الحلولية والعلمانية الشاملة، كما أن عضو الجماعة الوظيفية إنسان وظيفي متحوسل ذو بُعد واحد، لذا سنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية هم عادةً من حملة الفكر العلماني الشامل (الحلولي الكموني الواحدي المادي) الذي يُترجم نفسه عادةً إلى رؤية إمبريالية.
والنقطة المشتركة بين كل هذه النماذج أنها واحدية تنكر التجاوز وتُلغي الثنائيات الفضفاضة والحيز الإنساني، فالحلولية الكمونية هي رؤية للواقع ترى أن الإله قد حل في العالم حتى أصبح الإله غير متجاوز للعالم متوحداً معه، ومن ثم أصبح الإله والطبيعة والإنسان شيئاً واحداً، أي أن ثنائيات: الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والكل والجزء، والعام والخاص تم إلغاؤها لتظهر الواحدية الكونية المادية. والعلمانية (الشاملة) ترى أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره وأنه لا حاجة لتجاوز هذا العالم الذي تسوده قوانين واحدة تسري على الطبيعة والإنسان، وهو ما يقضي على ثنائية الإنسان والطبيعة لتظهر الواحدية المادية (والإمبريالية بطبيعة الحال تنظر للعالم باعتباره مادة محضة يمكن للأقوى حوسلتها لصالحه، أي أنها هي الأخرى تدور في إطار شكل من أشكال الواحدية المادية التي نطلق عليها «الواحدية الذاتية الإمبريالية»). ويُعرَّف أعضاء الجماعات الوظيفية في ضوء وظيفتهم وحسب لا في ضوء إنسانيتهم المتعينة، ومن ثم فإن أبعادهم الإنسانية الأخرى يتم إنكارها لتظهر الواحدية الوظيفية. فثمة محور مشترك وسمة أساسية، وهي الواحدية الكاملة، والتي تتبدَّى على مستويات مختلفة. فالحلولية الكمونية تتبدَّى بالدرجة الأولى على المستوى الديني والمعرفي (الكلي والنهائي)، بينما تتبدَّى الجماعات الوظيفية أساساً على المستوى الاقتصادي والوظيفي، أما العلمانية والإمبريالية الشاملة فإنها تتبدَّى بشكل مكثف على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولقد قلنا "بالدرجة الأولى" و"أساساً" و"بشكل مكثف" عن عمد، لأن كل نموذج يتبدَّى في واقع الأمر على كل المـستويات، وكل ما في الأمر أنه قد يتبدَّى بشـكل أكثر كثافة على مـستوى معيَّن دون المـستويات الأخرى. ولهذا، فقد احتفظنا بتعدد المستويات واستقلالها ومقدرتها التفسيرية ولكن مع تأكيد وحدتها على مستوى أعمق وهو المستوى المعرفي (الكلي والنهائي).
وكل النماذج الفرعية ـ كما أسلفنا ـ تنضوي تحت نموذج أكبر ووحدة أساسية كامنة فيها، إلا أننا أكدنا أن هذا النموذج الأكبر لا يتبدَّى بنفس الطريقة في كل زمان ومكان وفي جميع الحالات، فالنموذج مثل الإمكانية التي قد تتحقق، وقد لا تتحقق، وإن تحققت فإن ما يتحقق هو أجزاء وجوانب منها وحسب، ومن هنا فإن النموذج العام لا يُغني عن دراسة كل حالة على حدة. ولذا فإننا رغم حديثنا عن نموذج الجماعات الوظيفية اليهودية داخل الحضارة الغربية، أكدنا أن هذا النموذج لا يتطور بنفس الطريقة ولا يَطَّرد بنفس الأسلوب وعلى نفس المستوى من مرحلة زمانية لأخرى. ونحن ننبه دائماً إلى أن النموذج الذي طرحناه نموذج عام جداً، يصلح إطاراً تصورياً ذا قيمة تحليلية وتفسيرية كلية وحسب، ويظل التطور التاريخي نفسه مختلفاً ومليئاً بالتعرجات والنتوءات والمنحنيات الخاصة التي يتطلب رصدها وفهمها وتفسيرها جهداً إبداعياً خاصاً وإدراكاً للطبيعة الاحتمالية للنموذج التحليلي التفسيري.
ويمكن أن نُعرِّف دراسـتنا بأنها دراسـة لحالة محدَّدة هي اليهود واليهودية في الحضارة الغربية أساساً والصهيونية وإسرائيل، وهي دراسة تاريخية اجتماعية مقارنة تركز على العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين أعضاء الجماعات اليهودية (بما في ذلك المستوطن الصهيوني) من جهة، وأعضاء المجتمعات المختلفة من جهة أخرى، كما تركز على الأبعاد المعرفية لهذه العلاقات. لكن هذه الدراسة، رغم أنها دراسة حالة، إلا أنها دراسة لنماذج تحليلية مركبة ذات مقدرة تطبيقية تتجاوز الحالة موضع الدراسة، فهذه النماذج تتوجه لقضايا عامة مثل: علاقة الأقلية (خاصةً أعضاء الجماعات الوظيفية) بالأغلبية، وعلاقة الأقليات بالدولة القومية المركزية، وطبيعة الحضارة الغربية الحديثة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الحلولية بالتوحيد، وعلاقة الفكر بالمادة، وعلاقة الذات بالموضوع والصراع بين الواجدية (المادية) والثنائية الفضفاضة (استبعدنا أربعة مجلدات كانت تشكل الإطار النظري، وقمنا بتلخيصها في هذا المجلد، وسوف تَصدُر هذه المجلدات كموسوعة مستقلة بعنوان موسوعة العلمانية الشاملة بعد صدور هذه الموسوعة).
والجماعات اليهودية تشكل جماعات وظيفية مثل كل الجماعات الوظيفية الأخرى، لكن وجودها داخل الحضارة الغربية أعطاها تفرُّداً معيَّناً. وهي تتفاعل مع المجتمعات العلمانية ومع التشكيل الإمبريالي تفاعل الجماعات البشرية الأخرى، ولكنها نظراً لوضعها الخاص فإن تفاعلها مع العلمانية يأخذ شكلاً أكثر حدة. وهي جماعات تتنازعها النزعات الجنينية والربانية شـأنها شأن كل البشـر في كل زمان ومكان، لكن اليهودي هو الإنسـان في حالة ضيق متبلورة. وبسبب حالة الضيق هذه، تظهر كثير من أبعاد الظاهرة الإنسانية بشكل نماذجي متبلور من خلاله. وخصوصية الجماعات اليهودية، أو خصوصياتها التي تتنوع في كل زمان ومكان، هي خصوصيات لا تختلف عن خصوصيات الجماعات الأخرى، وإن كان هناك شيء فريد بالفعل فربما يكون متمثلاً في نوعية العناصر الإنسانية العامة التي تدخل في تشكيل الموضوع اليهودي وطريقة ترابطها. وهي عناصر تدخل في تشكيل كثير من الظواهر الإنسانية الأخرى وتترابط بطرق فريدة مختلفة!
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق