568
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات
الجزء الرابع: عداء الأغيار الأزلي لليهود واليهودية
الباب السادس: إشكالية التعاون بين أعضاء الجماعات اليهودية والنازيين
جيـــتو وارســو
Warsaw Ghetto
أسس النازيون جيتوات كانت تأخذ شكل مناطق قومية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال، فكان يتم إخلاء رقعة من إحدى المدن من غير اليهود ثم يُنقل إليها عشرات الآلاف من اليهود. ومن أشهر هذه المناطق جيتو وارسو ولودز وريجا في بولندا ومستوطنة تيريس آينشتات «النموذجية» في بوهيميا.
ومن أهم الجيتوات جيتو وارسو الذي بلغ عدد القاطنين فيه عام 1941 حوالي نصف مليون يهودي يعيشون في رقعة صغيرة حولها حائط ارتفاعه ثمانية أقـدام، وكان له اثنان وعشـرون مدخـلاً يقف على كلٍّ منهـا ثـلاثة جنود، أحدهم ألماني والثاني بولندي مسيحي والثالث بولندي يهودي. وكان التعريف الذي تبناه الألمان للهوية اليهودية هو تعريف قوانين نورمبرج وهو أن اليهودي يهودي بالمولد وليس بالعقيدة (وهو التعريف الذي تبنته فيما بعد دولة إسرائيل والذي يستند إليه قانون العودة الصهيوني).
ويجب النظر إلى تجربة الجيتو هذه في ضوء المخطط النازي ذي الطابع الصهيوني الواضح الذي ينطلق من تصور استقلال اليهود كشعب عضوي منبوذ له شخصيته القومية المستقلة. ولذا كان للجيتو مؤسساته المستقلة الخاصة به (عملة خاصة ـ وسائل نقل خاصة ـ خدمة بريدية ـ مؤسسات الرفاه الاجتماعي). كما سُمح لجيتو وارسو بأن يكون له نظامـه التعليـمي، وبأن يفـتح المكتبات لبيع الكتب واستعارتها، وبأن يصدر جريدته اليومية بل كان له ميليشيا ومحاكم خاصة به، أي أن الجيتو كان بمثابة دولة صغيرة منعزلة ثقافياً واقتصادياً عما حولها، وهو بهذا استمرار لتقاليد القهال والإدارة الذاتية والشتتل التي يمجدها الصهاينة في كتاباتهم، وهو يشـبه في كثير من الوجوه الدولة الصهيونية المشتولة في الشرق الأوسـط.
وكان يدير الدويلة/الجيتو «سلطة يهودية» أو «مجلس كبراء»، تُعيِّن السلطات النازيــة أعضاءه. ولكن استقـلالية الدويلة/الجيتـو لم تكن كاملـة، إذ كـان الجيتو يقـوم باستيراد كل المواد الخام والطعام والملابس التي يحتاجها من سلطة الاحتلال النازية على أن يسدد ثمن الواردات بالمنتجات الصناعيـة (الملابـس والمصنـوعات الجلـدية) التي كان ينتجها الجيتـو. كمـا كان على المجـلس أن يقـدم عدداً من العمال يومياً يبيعون عملهم لتسديد واردات الجيتو. وكان العامل البولندي، يهودياً كان أم غير يهودي، يتقاضى ربع ما يتقاضاه العامل الألماني.
ولا ندري هل وضع النازيون مخططاً لإبادة يهود جيتو وارسو (بالمعنى الخاص للكلمة، أي بمعنى التصفية الجسدية) من خلال فرض وضع اقتصادي غير متكافئ عليهم بحيث يمكن استنزافهم لصالح النازيين، أم أن عملية الإبادة تمت كنتيجة حتمية، ليست بالضرورة متعمدة، للبنية الاستغلالية التي فرضها النازيون؟ فقيمة السلع التي كان ينتجها الجيتو والخدمات التي يقدِّمها كانت دائماً دون حد الكفاف ولا تفي بالاحتياجات المادية الأساسية للعاملين اليهود الأساسيين، الأمر الذي كان يعني سوء التغذية داخل الجيتو وتناقص عدد سكانه مع ضمان تدفق فائض القيمة بشكل مستمر إلى النازيين. وقد أدَّى عدم تكافؤ العلاقة بين الدولة النازية والدويلة/الجيتو اليهودية إلى أن السكان زادوا فقراً وزادت حاجتهم إلى المواد الغذائية، فكانوا يموتون جوعاً ويهلكون بالتدريج وببطء دون أفران غاز.
وقد قام أحد الباحثين بدراسة إحصائية دقيقة لهذه الإبادة التدريجية البطيئة (عن طريق التجويع) مستخدماً جيتو وارسو أساساً لدراسة الحالة. فأشار إلى أن الفترة من 1939 إلى 1942، أي خلال ستة وثلاثين شهراً، شهدت زيادة عدد الوفيات بشكل ملحوظ. فحسب معدل الوفيات بين أعضاء الجماعة اليهودية قبل الحرب كان من المفروض أن يكون عدد الوفيات 12.600 في العام. ولكن الجوع والمرض (وكذا غارات الحلفاء وأحكام الإعدام) أدَّت معاً إلى موت 88.568 ألفاً في العام، وهو عدد يشكل 19% من مجموع سكان جيتو وارسو البالغ عددهم خمسمائة ألف، الأمر الذي يعني أنه كان من الممكن اختفاء كل سكان الجيتو خلال ثمانية أعوام دون أفران غاز. ويمكن أن نضيف أن هذه العملية كانت ستتسارع في السنوات الأخيرة بسبب زيادة ضعف وهزال سكان الجيتو، ومن ثم، فإن خمس أو ست سنوات كانت كافية في تصوُّرنا لإتمام هذه العملية.
وكانت علاقة الدولة النازية بدويلة/جيتو وارسو علاقة كولونيالية لا تختلف كثيراً عن علاقة إنجلترا بمستعمراتها أو علاقة الدولة الصهيونية بالسلطة الفلسطينية في غزة وأريحا (كما يتخيلها الصهاينة). وربما كان الفارق الأساسي هو درجة التحكم، إذ أن جيتو وارسو كان كياناً صغيراً متخلفاً، ومن ثم كان بالإمكان التحكم فيه بدرجة كاملة أو شبه كاملة، على عكس الضفة الغربية وغزة حيث يوجد كيان حضاري مركب يعود إلى أعماق آلاف السنين ويتسم بتجذره، كما أن سكان " المناطق " المحتلة لم يتوقفوا قط عن المقاومة. وكل هذا جعل التحكم في فلسطين المحتلة بعد عام 1967 أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
ويدل سلوك الإسرائيليين تجاه السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا أنهم استبطنوا هذا الجانب من تجربة يهود أوربا مع النازية. فهم يحاولون أن تكون علاقتهم مع هذه السلطة تشبه في معظم الوجوه علاقة الحكم النازي بالسلطة اليهودية في جيتو وارسو أو مستعمرة تيريس آينشتات.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق