564
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الثانى: الجماعات اليهودية.. إشكاليات
الجزء الرابع: عداء الأغيار الأزلي لليهود واليهودية
الباب السادس: إشكالية التعاون بين أعضاء الجماعات اليهودية والنازيين
معاهدة الهعفراه (الترانسفير(
Haavrah (Transfer) Treaty
«هعفراه» كلمة عبرية تعني «النقل» أو «الترانسفير». والنقل هو أحد مكونات الصيغة الصهيونية الأساسية. والهعفراه هو اسم معاهدة وقعها المستوطنون الصهاينة مع النازيين. وقد كان الصهاينة الاستيطانيون في الثلاثينيات يبحـثون عن وسـائل لدعم المسـتوطن وحماية مصالحهم بأية طريقة، ومن ذلك التعاون مع النظام النازي، بينما كان صهاينة الخارج التوطينيون وقادة الجماعات اليهودية مشغولين بعمليات إنقاذ يهود ألمانيا، وضمنها تنظيم مقاطعة اقتصادية ضد هذا النظام. ومن أهم الشخصيات القيادية في عملية المقاطعة صمويل أُنترماير المحامي الأمريكي اليهودي (الصهيوني) الذي نجح في تكوين حركة جماهيرية تضم اليهود وغير اليهود بقيادة الرابطة الأمريكية للدفاع عن حقوق اليهود، وأسس منظمة دولية أطلق عليها «الاتحاد اليهودي الاقتصادي العالمي» في أمستردام للتنسيق بين جميع المنظمات الداعية إلى المقاطعة. وشكلت المقاطعة، وخصوصاً في الشهور الأولى، تهديداً خطيراً للنظام النازي. ويذهب إدوين بلاك (مؤلف كتاب الهعفراه، وهو أهم كتاب صدر في الموضوع في جميع اللغات) إلى أنه لو اتحدت المنظمات اليهودية والصهيونية خلف حركة المقاطعة، فلربما كانت قد نجحت في تعبئة الجماهير غير اليهودية، وانضمت بعض الحكومات إليهـا، ولما نجـح النازيون، وخصـوصاً في الأشهر الأولى من تسلمهم السلطة، في الإمساك بزمام الأمور "فاستجابة مباشرة وموحَّدة كان من الممكن أن تقصم ظهر ألمانيا قبل شتاء عام 1933".
ولكن المستوطنين الصهاينة كانوا قد قرروا تبني خطة تخدم مصالحهم، فسافر الزعيم العمالي الصهيوني ورئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية حاييم أرلوسوروف (1899 ـ 1933) إلى ألمانيا لمناقشة إمكانية التعاون والتبادل الاقتصادي معها. وكانت المسألة بالنسبة إلى المستوطنين ملحة للغاية، فقد فشل المستوطن الصهيوني في اجتذاب المهاجرين ولم يصل إليه رأس المال اليهودي المتوقع (وقد تم اغتيال أرلوسوروف بعد عودته من ألمانيا بعدة أيام). وكان هنريش وولف قنصل ألمانيا العام في القدس قد مهد الجو له وللمبعوثين الصهاينة من بعده عندما كتب مؤيداً وموضحاً المزايا التي سيجنيها النظام النازي من التعاون معهم. وفي النهاية، تم توقيع الاتفاق عام 1933 الذي كان يقضي بأن تسمح السلطات الألمانية لليهود الذين يقررون الهجرة من ألمانيا إلى فلسطين بـ «نقل» جزء من أمـوالهم إلى هـناك رغم القـيود التي فرضتها ألمانيا على تداول العملة الصعبة. وكان ذلك يتم بتمكين أولئك اليهود من إيداع المبلغ المسموح بتحويله (ألف جنيه إسترليني) في حساب مغلق يفتح في بنك واسرمان في برلين وبنك ووربورج في هامبورج ثم يُسمَح باستعمال هذا المبلغ فقط لشراء تجهيزات وآلات زراعية مختلفة من ألمانيا ويتم تصديرها إلى فلسطين. وهناك تقوم الشركة ببيع هذه البضائع وتسدد بأثمانها المبالغ المستحقة لمودعيها بعد وصولهم كمهاجرين إلى فلسطين، وتحتفظ بالفرق كعمولة أو ربح لها.
وقد تم تعديل الاتفاقية بحيث أصبح في مقدور اليهود الألمان الذين لا ينوون الهجرة مباشرةً، ويريدون مع هذا تأسيس بيت في فلسطين والمساهمة في تطويرها، أن يستعملوا الحساب المغلق وأن يودعوا أموالهم فيه شرط ألا يزيد المبلغ الإجمالي عن ثلاثة ملايين مارك تستعـمل لشـراء بضـائع ألمانية أياً كان نوعها. وأثناء تنفيذ الاتفاقية، اعترضت بعض العناصر في وزارة الخارجية الألمانية على هذه المساهمة النازية في بناء المُستوطَن الصهيوني. كما قام المستوطنون الألمان في فلسطين (من أتباع جماعة فرسان الهيكل) بالضغط ولكن دون جدوى، إذ أن هتلر نفسه قرر وجوب الاستمرار في العمل بالاتفاقية.
ويبدو أن الهدف الأساسي والمباشر من الاتفاقية كان (من المنظور النازي) كسر طوق المقاطعة اليهودية في العالم للبضائع الألمانية في أنحاء العالم. وفي محاولة لتوضيح الموقف النازي، قال وزير الاقتصاد الألماني لوزير الخارجية إن الاتفاقية تقدم أحسن ضمان لأقوى تأثير مضاد لإجراءات المقاطعة اليهودية للبضائع الألمانية. كما أكد القنصل الألماني العام في القدس الفكرة نفسها حين قال: "بهذه الطريقة، يمكن أن نقوم نحن الألمان بحملة ناجحة في مواجهة المقاطعة اليهودية في الخارج ضد ألمانيا. وقد يمكننا أن نحدث ثغرة في الحائط". ولاحَظ القنصل أنه في الصراع الدائر، بين الصهاينة التوطينيين (في الخارج) والصهاينة الاستيطانيين (في فلسطين)، بدأت مـوازين القوى تتغيَّر لصالح المستوطنين: « إن فلسطين هي التي تعطي الأوامر، ومن الأهمية بمكان أن نحطم المقاطعة في فلسطين في المقام الأول، وسيترك هذا أثره على الجبهة الأساسية في الولايات المتحدة «.
وقد أيَّده في ذلك فريتز رايخرت عميل الجـسـتابو في فلسـطين حين قـال: "إن مهمتنا الأساسية هي أن نمنع، انطلاقاً من فلسطين، توحيد صفوف يهود العالم على أساس العداوة لألمانيا... لقد دمرنا مؤتمر المقاطعة في لندن من تل أبيب لأن رئيس الهعفراه في فلسطين، بالتعاون الوثيق مع القنصلية الألمانية في القدس، أرسـل برقـيات إلى لنـدن أحدثت الأثر المطلوب".
ويقول إدوين بلاك: "إن احتمالات انهيار الاقتصاد الألماني بدأ بالتناقص بسرعة بمرور الوقت. فحينما عقد أُنترماير اجتماعاً لاتحاده الدولي في أمستردام في أواخر يوليه 1933، كانت الفرصة لا تزال جيدة. ومع نهاية أغسطس، عند انعقاد المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933)، كانت الفرصة صعبة لكنها ممكنة".
فماذا حدث في هذا المؤتمر؟ لعل دراسة الوقائع وتوقيتها يعطينا صورة دقيقة ومثيرة عن المعركة بين المستوطنين الصهاينة وصهاينة الخارج التوطينيين وكيفية إدارتها، وكذلك عن بعض الأساليب التي استخدمها المستوطنون لإحكام قبضتهم على الفريق المعادي. فقد وُقِّعت الاتفاقية بشكل مبدئي في 17 أغسطس 1933 وسُوِّيت كل النقط الفنية المعلقة في 22 أغسطس بعد افتتاح جلسات المؤتمر الصهيوني الثامن عشر في براغ (تشيكوسلوفاكيا). وقد أدرك النازيون الأهمية غير العادية للمؤتمر وركزوا كل جهودهم عليه حتى يتسنى إفشال المحاولات الرامية لإصدار قرارات من شأنها دعم المقاطعة اليهودية. وبعد افتتاح جلسات المؤتمر، ألقى سوكولوف خطبة ملتهبة عن يهود ألمانيا وبؤسهم دون أي ذكر للمقاطعة. ولكن النازيين كانوا يودون إحراز المكاسب الإعلامية التي يطمحون إليها، ولهذا أعلنوا عن الاتفاقية يوم 24 أغسطس، وهو اليوم الذي كان محدداً لمناقشة وضع يهود ألمانيا في المؤتمر، وقد تناقلت صحف أوربا الخبر، وألقى سوكولوف خطبة ملتهبة قال فيها: "إن اليهود يحترمون إسبانيا القديمة أكثر من ألمانيا الحديثة لأن خروج اليهود جميعاً أفضل من إهانتهم على هذا النحو". ورغم أن ألفاظه جاءت غاضبة شكلاً إلا أن مضمونها كان نازياً صهيونياً، فهو لا يتحدث عن حقوق اليهود في أوطانهم وإنما عن حقهم في الخروج الكامل والنهائي منها.
وقدَّم الصهاينة التصحيحيون قراراً محدداً خاصاً بالمقاطعة، ولكن العماليين نجحوا في فرض قرارهم. وكان النازيون قد أوقفوا مجلة يوديش روندشاو عن الصدور مدة ستة أشهر، فرُفع عنها الحظر وصدرت في اليوم نفسه وهي تحمل مقالاً تتباهى فيه بأن المؤتمر الصهيوني هزم بأغلبية ساحقة اقتراح التصحيحيين الذي كان يهدف إلى تحويل المنظمة الصهيونية إلى وحدة مقاتلة. وصدرت الصحف النازية مرحبة هي الأخرى بالموقف الإيجابي للمؤتمر.
وحينما افتتحت جلسة 25 أغسطس، انهالت برقيات الاحتجاج من يهود العالم لأن الاتفاقية ستهز مصداقية حركة المقاطعة اليهودية من جذورها وتقضي عليها تماماً في نهاية الأمر. فصعَّد النازيون حملتهم الإعلامية الذكية، وأعلنوا يوم 27 أغسطس عن صفقة برتقال ضخمة مع المستوطن الصهيوني (أشار إليها أحد صهاينة الخارج بـ «البرتقالة الذهبية» قياساً على «العجل الذهبي»). وأرسل أُنترماير برقية يطلب فيها أن ينكر المؤتمر أن مثل هذه الصفقة قد أبرمت، وهدد بأنه إن كـان الأمـر حقيقـة ولـم يتـم إلغـاء الصفقة، فإن المنظمة الصهيونية الأمريكية ستنسحب من المنظمة الصهيونية. وفي يوم 31 أغسطس، نشرت الحكومة الألمانية النص الكامل لاتفاقية الهعفراه، فقُوبل الحدث بعدم تصديق من جانب يهود الخارج. ونشرت جويش كرونيكل النص باعتباره نكتة نازية رائعة، كما أنكرت الدائرة السياسية للوكالة اليهودية أية علاقة لها بالموضوع، ولكنها تراجعت عن ذلك بالتدريج واعترفت بإبرام الاتفاقية.
وفي يوم 2 سبتمبر، طرح العماليون مشروع قرار يحكم سيطرتهم الكاملة على الصهاينـة التوطينيين جاء فيه: "كجـزء من الانضباط الصهيوني، لا يُسمَح لأي فرد أو مجموعة داخل المنظمة الصهيونية أن يشتغل بالسياسة الخارجية، أو أن يتصل بالحكومات الأجنبية أو بعصبة الأمم، أو أن يقوم بأية نشاطات سياسية من شأنها المساس بصلاحيات اللجنة التنفيذية". ويتضمن هذا القرار تحريماً لكل أشكال الاحتجاج ضد النازية وضمن ذلك اتفاقية الهعفراه. وقد تم التصويت على القرار الساعة الثالثة صباحاً ووُفق عليه، وأُجِّل التصويت على الاتفاقية ذاتها حتى آخر يوم. وبعد طرح مشروع قرار عمالي ومشروع قرار مضاد، قام الزعيم العمالي برل كاتزنلسون فتحدث عن الانضباط وكيف أن مناقشة الهعفراه خرق له، وبيَّن للمؤتمرين أنه توجد، في كل الاجتماعات الديموقراطية، مسائل مهمة لا يمكن مناقشتها. ثم اختتم كلمته قائلاً إن على كل هيئة صهيونية أن تعترف بأن إرتس يسرائيل لها أولوية على أي شيء آخر، وأهم واجب هو إنقاذ حياة اليهود وممتلكاتهم من الخطر الذي يتعرضون له (ورغم أنه استخدم لغة الإنقاذ والإغاثة إلا أنه أحاطها بالإطار الأيديولوجي بتأكيده أولوية المستوطن على أي شيء آخر). وقد وافق المؤتمر على مشروع القرار العمالي، الذي لم يأت فيه سوى أنه لن يتم اتخاذ أي شيء من شـأنه أن يتعـارض مع موقف المؤتمر فيما يتصل بالمسـألة اليهودية الألمانية، أي أنه لن يقوم أي شخص بأي نشاط وسيُترك الأمر برمته للجنة التنفيذية. وقد وافـق المؤتمرون في الجلسة نفسها على أن يصبح علم المنظمة هو علم الدولة، وأن يصبح نشيد الهاتيكفاه النشيد الوطني للدولة عند إنشائها، وأنشد المؤتمرون النشيد واختتمت أعمال المؤتمر. وقد أدركت جويش كرونيكل في 3 سبتمبر أن الاتفاقية لم تكن نكتة نازية خفيفة بل حقيقة صهيونية نازية ثقيلة مريرة، ونشرت جرائد أخرى أنباء الاتفاقية وما حدث في المؤتمر.
وكان المؤتمر اليهودي العالمي الثالث على وشك الانعقاد في جنيف في 8 سبتمبر. ولما كانت أنباء الاتفاقية قد أصبحت معروفة ولم يعد هنـاك أي لبـس أو إبهـام، فقد كان من الممكن اتخـاذ قرار في هذا الشأن. وكانت هذه الفرصة كما يقول إدوين بلاك، هي "الفرصة الأخيرة "أمام اليهود والصهاينة لكي يتخذوا قراراً حاسماً (وخصوصاً أن حركة المقاطعة في الأوساط غير اليهودية كانت آخذة في التزايد). ولكن المؤتمر اليهودي اجتمع وفشل في اتخاذ قرار محدد بخصوص المقاطعة نتيجة الضغط الصهيوني، واكتفى بتأييد المعارضة التلقائية بين الجماهير. وقد تم إفشال المؤتمر بإشراف الزعيم الصهيوني الأمريكي سـتيفن وايز، وكان قد أفشـل قبلاً اجتمــاع أُنترماير في أمسـتردام ولندن. وحينما عُرضت الاتفاقية مرة أخرى على المؤتمر الصهيوني التاسع عشر (1935)، بهدف نقضها، رُفض مشروع القرار وتقرر وضع نشاطات الهعفراه كافة تحت إشراف الإدارة الصهيونية.
وقد حققت اتفاقية الهعفراه نجاحاً باهراً من وجهة نظر النازيين والصهاينة. فقد نجح النازيون في تصديع أسس المقاطعة اليهودية لألمانيا دون أن يضطروا إلى إجراء أي تعديل في سياستهم تجاه اليهود. وأما بالنسبة إلى المستوطنين، فإن فترة الهعفراه تُعُد أهم فترة في تاريخ المُستوطَن إذ تم تزويده بعدد كبير من أعضاء المادة البشرية المطلوبة وبرأس المال اللازم للبنية التحتية. وقد بلغ عدد اليهود الألمان الذي هاجروا إلى فلسطين في الفترة الواقعة بين عامي 1933 و1941 (بموجب الاتفاقية) نحو 52.300 ويُشكِّلون 25% من مجموع المهاجرين اليهود إلى فلسطين خلال الفترة نفسها. وكان بينهم 6.529رأسمالياً يمثلون إضافة اقتصادية ضخمة للمستوطن و6.700مهاجر من أبناء الطبقة الوسطى المثقفة غالبيتهم من الأطباء والمحامين والمهندسين والصناعيين.
كما ذكر ناحوم جولدمان في مذكراته أنه حينما قابل رئيس وزراء تشيكوسلوفاكيا عام 1935، اتهم الرئيس الصهاينة برفضهم الاشتراك في المحـاولات الراميـة إلى مقاطعـة هتلر، بل تخريبها بإبرامهم اتفاقية الهعفراه. وكان تعليق جولدمان الوحيد على ذلك أنه شعر حينذاك بالبؤس والخجل إلى درجة لم يشعر بها من قبل، وأن رئيـس الوزراء كان على حق فيما يقول. ومما يجدر ذكره أن اتفاقية الهعفراه ظلت سارية المفعول حتى عام 1939 مع نشوب الحرب العالمية الثانية، ثم توقف العمل بموجبها ولكن دون أن تُلغى رسمياً.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق