624
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة
الجزء الأول: التحديث
الباب الخامس: الاستنارة اليهودية
التنوير اليهودي: تاريخ
Haskalah: History
كلمة «هسكلاه» العبرية تعني «التنوير»، ويُعبَّر عنها أيضاً في الأدبيات العربية بكلمة «الاستنارة». وقد ظهر المصطلح عام 1832 للإشارة إلى حركة في الآداب المكتوبة بالعبرية حاول دعاتها أن يبتعدوا عن الأشكال الأدبية التقليدية المرتبطة إلى حدٍّ كبير بالدين وأن يستعيروا أشكال الأدب العلماني الغربي. ولكن التنوير لم يكن مجرد حركة أدبية وإنما كان أيضاً رؤية متكاملة نسميها «العقلانية المادية». وتُستخدَم الكلمة بالمعنى العام للإشارة إلى الحركة الفكرية الاجتماعية التي ظهرت بين يهود غرب أوربا (في ألمانيا ووسطها) ثم انتشرت منها إلى شرقها. وقد بدأت حركة التنوير في صورة تيار أساسي بين اليهود منذ منتصف القرن الثامن عشر واستمرت حتى عام 1880. ورغم انحسارها كحركة فكرية واعية، إلا أن مقولاتها ظلت سائدة بين أعضاء الجماعات اليهودية بشكل ظاهر أو كامن حتى تم اندماج أعضاء الجماعات اليهودية واستيعابهم في المجتمع الغربي العلماني.
وتنطلق حركة التنوير اليهودي من الأفكار الأساسية في حركة الاستنارة الغربية مثل الإيمان بالعقل باعتباره مصدراً أساسياً وربما وحيداً للمعرفة إلى ثقة كاملة بالعلم وبحتمية التعدد، وبنسبية المعرفة والقيم، وبإمكانية إصلاح الإنسان عن طريق تغيير بيئته وخلق المواطن الذي يدين بالولاء للدولة. كما تدور حركة التنوير اليهودية في إطار الرؤية الآلية للكون والإيمان بالإنسان الطبيعي أو الأممي، كما تقع في كل تناقضات حركة الاستنارة الغربية مثل التناقض بين النزعة العقلية المجردة التي تتجه نحو العام والنزعة الحسية التجريبية التي تتجه نحو الخاص، وهو تناقض يضرب بجذوره في الرؤية العلمية للكون التي تبدأ برصد الأشياء المادية المحسوسة والملموسة وتنتهي في عالم القانون العام الرياضي المجرد. ولذا نجد أن الفكر العقلاني المادي يبدأ بالتعامل مع الملموسات والمحسوسات داخل حدودها، ولكنه ينتهي بأن ينظر لها باعتبارها ظواهر مادية عامة مجردة خاضعة لقانون مادي عام مجرد، لا تتمتع بأية خصوصية أو قداسة. ولذا فالواقع الذي ينتجه العقل المادي لا قسمات له ولا حدود. وكرد فعل لذلك، ظهر الفكر المعادي للاستنارة (الإيمان بالطبيعة واللاعقل والقوة والأرض والحيوية) ليستعيد قدراً من القداسة للعالم ولكنها قداسة مصدرها المادة، فهي كامنة فيها لا تتجاوزها (ولذا فهي حركة «لا عقلانية مادية»). طالب دعاة التنوير (والعقلانية المادية) بأن يُمنَح اليهود حقوقهم السياسية والمدنية (أي إعتاقهم)، وأن تتاح لهم الفرص الاقتصادية، وأن يتخلص أعضاء الجماعات اليهودية من أية خصوصية تتسبب في عزلتهم عن أعضاء المجتمع، وأن يندمجوا في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، وأن يكون ولاؤهم الأول والأخير للبلاد التي ينتمون إليها لا لقوميتهم الدينية التي لا تستند إلى سند عقلي أو موضوعي. وكان دعاة التنوير اليهودي يرون أن هذا ممكن إذا اكتسب اليهود مقومات الحضارة الغربية العلمانية، وإذا ما قاموا بفصل الدين اليهودي عما يُسمَّى «القومية اليهودية» حتى يتلاءموا مع الدولة العلمانية القومية في أوربا، أي إذا قاموا بتحديث اليهود واليهودية، وتحولوا من كونهم جماعة وظيفية هامشية ليصبحوا جزءاً من البناء الطبقي والثقافي للمجتمع.
وقد ظهر من بين صفوف يهود البلاط من المارانو والإشكناز شخصيات تولت قيادة الجماعة اليهودية، وأصبح لها مكانة تفوق كثيراً مكانة الحاخامات. ولم يكن يهود البلاط، على عكس التاجر والمرابي اليهودي القديم، لا في مركز المجتمع على وجه الحصر، ولا في مسامه أو على هامشه، بل كانوا على مقربة من أعضاء الطبقة الحاكمة يتعاملون معهم ويزودونهم بالأموال ويشترون لهم التحف والسلع الترفيهية اللازمة لمظاهر أبهة الملكيات والإمارات المطلقة. وكان هذا يتطلب معرفة وثيقة لا بالاحتياجات الاقتصادية للطبقة وحسب وإنما بأسلوب حياتها أيضاً، ذلك الأسلوب الذي بدأ يهود البلاط يستوعبونه ويتأثرون به. ولكن يهود البلاط كانوا يقفون على قمة هرم مالي تجاري يهودي يضم طبقات اليهود المختلفة من كبار التجار إلى التجار البائعين والمتسولين. وكان هذا الهرم عابراً للقارات متعدد الجنسيات، يمتد بطول أوربا وعرضها وتصل أطرافه إلى الدولة العثمانية والعالم الجديد. وكان على يهودي البلاط، رغم عالميته، أن يظل يهودياً حتى يتمتع بشبكة الاتصـالات هـذه، وحتى يظل يلعب دوره كعضو في جماعة وظيفية وسيطة. ولهذا، كان يهود البلاط يعيشون بين العالمين المسيحي واليهودي، يتحركون بسهولة داخل الحضارة الغربية التي كانوا يعرفون لغتها، كما كانوا مُلمين بالفلسفة والعلوم والاقتصاد، ومُلمين في الوقت نفسه بالتكوين الثقافي والديني المتميز لأعضاء الجماعات اليهودية. ومن هنا، فإن القيادات الجديدة للجماعات اليهودية لم تكن يهودية ولا دينية خالصة.
ومن أهم العناصر التي ساهمت في فك قبضة الأفكار الدينية التقليدية يهود المارانو الذين كان يُشار إلى قطاعات منهم بأنهم «السفارد» أو «اليهود البرتغاليون» أو «المسيحيون الجدد». وقد أسس المارانو مراكز اقتصادية متميِّزة في أوربا، مثل: بوردو وبايون وأمستردام وهامبورج ولندن. وحسب بعض النظريات، كان المارانو مسيحيين في الظاهر يهوداً في الباطن. ولكنهم، حسب بعض النظريات الأخرى، كانوا مسيحيين ظاهراً وباطناً، أي جزءاً عضوياً من التشكيل الحضاري الغربي. ولكنهم، مع هذا، ولأسباب مختلفة، تهودوا واندمجـوا في الجمـاعة اليهـودية بعد خروجهم من شبه جزيرة أيبريا. ولذا، فقد كانوا حَمَلة الحضارة الغربية داخل الجماعة اليهودية، عن وعي أو عن غير وعي، ينشرون قيمها بينهم. كما أن بعضهم ممن كان يبطن اليهودية، يحمل في وجدانه صورة مثالية لليهودية ارتطمت بالواقع كما حدث لأروييل داكوستا وإسبينوزا، وهو ما جعلهم عناصر ثورية داخل الجماعة اليهـودية تبشر بالعقل (المادي) وبالقـيم المجـردة. وإلى جانب كل هذا، كانوا، نتيجة التعددية التي مارسوها، من حملة لواء الشك الديني. وقد تزامن خروج المارانو مع تعمُّق أزمة اليهودية الحاخامية إذ كانوا عنصر هدم أساسياً لها، فهم الذين ساندوا شبتاي تسفي، ومن بين صفوفهم خرج إسبينوزا.
وقد بدأ المارنو في إشاعة مُثُل الحضارة الغربية بين الجماعات اليهودية، كما ساهم يهود البلاط (القيادة الحقيقية للجماعات ورمز النجاح الكبير والقدوة التي تُحتذَى) في ترويج أسلوب الحياة الغربي من خلال أنفسهم ومن خلال أتباعهم والمحيطين بهم الذين تشبهوا بهم. وقد كان المارانو ويهود البلاط، كما أسلفنا، ذوي خبرة بالعالم المسيحي الذي بدأ يتعلمن، وبالعالم اليهودي الذي كان متحجراً. وفرضت عليهم خبرتهم هذه عملية المقارنة بين العالمين، وبالتالي طَرْح التساؤلات بشأن الموروث الثقافي الديني اليهودي. ولعل الاندماج النسبي لهذا العدد الكبير من اليهود، ودخولهم عالم الحضارة الغربية الجديدة والاقتداء به، جعل كثيراً من المصطلحات الدينية اليهودية (مثل النفي والشعب المختار) تفقد كثيراً من مدلولاتها بالنسبة لهم. ومعنى هذا أن يهود المارانو لعبوا دوراً مماثلاً للدور الذي يلعبه بعض مثقفي العالم الثالث الذين يذهبون إلى الغرب لتلقِّي العلم أو البحث عن الرزق، لكن بعضهم يعود إلى بلاده جسدياً وحسب إذ يكتشفون أن من العسير عليهم العودة الروحية الكاملة إلى أوطانهم بعد رحلة الذهاب. ولذا، فإنهم حينما يعودون يحملون رايات التغريب ويكونون بمنزلة معاول هدم في موروثهم الحضاري.
وكان مهد حركة التنوير هو البلاد التي كانت تضم جماعات يهودية صغيرة ذات صبغة غربية مثل يهود هولندا وإيطاليا. وقد حقق أعضاء هذه الجماعات معدلات عالية من الاندماج نظراً لصغر حجمها ونظراً لوجود قيادة من المارانو. كما أن كثيراً من أعضاء هذه الجماعات قد تلقوا تعليماً علمانياً وحققوا نجاحاً ملحوظاً في مهن مثل الطب. ويبدو أن فشل حركة شبتاي تسفي قد خلق ميلاً عاماً بين الجماعات اليهودية نحو رفض النزعة المشيحانية ككل، ورغبةً في الاندماج في المجتمعات التي يعيش أعضاء الجماعات اليهودية بين ظهرانيها. كما أن ظهور حركة مشيحانية، مثل الحركة الفرانكية، كان يعني أن اليهودية قد دخلت مرحلة أزمتها الأخيرة، فهذه الحركة كانت حركة عدمية تماماً تُعبِّر عن رغبة اليهود في التخلص من الشريعة.
ولكن العنصر الأساسي والحاسم، الذي أدَّى إلى انتشار قيم ومُثُل التنوير بين اليهود، هو التحولات التي كان المجتمع الغربي يخوضها: تزايُد معدلات العلمنة، وسيادة القيم النفعية التي أتاحت الفرص أمام أعضاء الجماعات للتحرك من الهامش الثقافي والاقتصادي والوظيفي للمجتمع نحو مركزه. وهي تحولات غيَّرت أسلوب حياتهم، كما غيَّرت البناء الوظيفي والمهني لأعداد كبيرة منهم.
وقد بدأت حركة التنوير، بالمعنى المحدَّد، في برلين. فالمجتمع المركنتالي في ألمانيا تحت حكم فريدريك الثاني الأعظم (1740 ـ 1786) خلق مناخاً مواتياً شجع اليهود على الاستيطان في بروسيا والاشتغال بالتجارة، ومنح بعض قطاعاتهم حقوقهم كاملة، فنشأت طبقة رأسمالية تجارية وجدت أن من مصلحتها الاندماج في المجتمع وأصبحت بمثابة القدوة أو النموذج لبقية اليهود. وحملت هذه الطبقة مُثُل التنوير التي طرحها المجتمع الغربي. ويُعَدُّ موسى مندلسون، الذي كان يعمل محاسباً وتاجراً كما كان متزوجاً من حفيدة أحد يهود البلاط، أهم مفكري حركة التنوير. أصدر عام 1750 مجلة أسبوعية تُسمَّى كوهيليت موسار (أي الواعظ الأخلاقي) صدرت منها ثلاثة أعداد وحسب، وهي المجلة التي تُعَدُّ أول منبر للتعبير عن أفكار حركة التنوير. ومع هذا، يرى بعض المؤرخين أن تاريخ نشأة حركة التنوير هو عام 1783، فقد أصدر جوزيف الثاني براءة التسامح عام 1782، وفي العام التالي نشر مندلسون ترجمته الألمانية لأسفار موسى الخمسة بحروف عبرية مع تعليق ذي طابع عقلاني. وقد ساهم معه في هذه الترجمة والتعليق رابطة أصدقاء العبرية التي أصدرت في الفترة 1783 ـ 1811 فصلية عبرية تُسمَّى هاميسائيف (أي الحاصد أو الجامع) كان محتواهـا تافهاً ومملاً، واعتمـدت أسـاسـاً على الترجمات من الألمانية، إلا أن أثرها كان عميقاً للغاية، وبخاصة خارج ألمانيا. وقد رفض كُتَّاب هذه المجلة عبرية الحاخامات، وحاولوا العودة إلى الكتاب المقدَّس بأسلوبه الكلاسيكي، وزخرفوا أسلوبهم بكلمات أنيقة مصطنعة كانوا يعدونها دليلاً على الذوق الأدبي الرفيع. نشرت المجلة قصائد في مدح الحكومة والطبيعة، وقصصاً وعظية، وشروحاً للكتاب المقدَّس، ودراسات في اللغويات العبرية، ومقالات في تواريخ الجماعات اليهودية. وكان معظم المؤلفين محافظين في آرائهم السياسية. وقد حققت مُثٌل التنوير نجاحاً ساحقاً في ألمانيا حتى أنها أسقطت الشكل العبراني للحركة كما أنهم رفضوا اليديشية باعتبارها ألمانية فاسدة، واختار يهود ألمانيا الاندماج الثقافي الكامل في حضارة بلادهم. ولم تستمر حركة التنوير ذات الشكل العبراني إلا في برسلاو حتى عام 1830. ومن أهم دعاة الاستنارة في ألمانيا، نفتالي هيرتز فيسيلي وجبريل رايسر وبنديفيد لازاروس.
انتشرت مُثُل التنوير، ابتداءً من عام 1820، في الإمبراطورية النمساوية (بوهيميا وشمال إيطاليا وجاليشيا). وارتبطت الحركة هناك بالألمانية منذ البداية، إذ كان مرسوم التسامح الذي أصدره جوزيف الثاني يمنح اليهود الحقوق السياسية بمقدار ما يحققونه من اندماج ثقافي واقتصادي. وكان نفتالي فيسيلي من قيادة حركة التنوير هناك، وبين 1821 ـ 1832 أصدر دعاة التنوير في فيينا مجلة سنوية تُسمَّى بيكوري هاعيتيم (أي بواكير ثمار هذه الأزمنة) نشرت دراسات لغوية وتاريخية وسيراً انطلاقاً من مبادئ علم اليهودية، كما نشرت كتابات تسخر من الحياة التقليدية لأعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً الحسيديين منهم)، وكذلك دراسات تاريخية.
ومن الجوانب المهمة لحركة التنوير التي تستحق الإشارة دور المرأة اليهودية في هذه العملية. ويُعَدُّ هذا تحولاً عميقاً وربما ثورياً في مجرى تواريخ الجماعات اليهودية، فالشريعة اليهودية لا تطالب المرأة بالذهاب إلى المعبد اليهودي أو الصلاة. ولم يكن النساء يتعلمن اللغة العبرية، وإن كن يتعلمن الأبجدية العبرية لتلاوة بعض الأدعية التي لم يكنَّ يفهمنها. ونظراً لجهل النساء بالعبرية، كنَّ يقرأن أدباً مكتوباً باليديشية ذا طابع ديني ترفيهي وأحياناً ذا طابع دنيوي محض، أي أن معدلات العلمنة كانت أعلى بين النساء منها بين الرجال. ولكن، بعد التحول عن اليديشية وتأكيد أهمية الألمانية، بدأت النساء اليهوديات يقرأن الآداب الألمانية بدرجة أعلى من الرجال. وإذا أضفنا إلى هذا رغبة بنات الطبقات الثرية بين اليهود في الاندماج بالمجتمع الألماني وفي ممارسة حياتهن كاملة، لأمكننا فهم طبيعة نشاطهن الثقافي الذي أخذ شكل الصالون الأدبي. ومن أهم المثقفات الألمانيات اليهوديات اللائي لعبن دوراً أساسياً في ظاهرة الصالون الأدبي راحيل فارنهاجن.
وانتقلت حركة التنوير، في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، من ألمانيا وجاليشيا إلى روسيا وأصبح مركزها هناك في منتصف الأربعينيات، وبخاصة في ليتوانيا، حيث وُضعت أسس الأدب الحديث المكتوب بالعبرية ونُشرت أول رواية عبرية عام 1854 كما ظهرت عدة مجلات أسبوعية. ويُعَدُّ إسحق دوف لفنسون أهم دعاة الاستنارة في روسيا (ويُطلَق عليه «مندلسون روسيا»).
ومن أشهر الجمعيات المنادية بالتنوير جمعية نشر الثقافة بين يهود روسيا التي أسَّست عام 1863 عدة مدارس لتعليم الحرف وغيرها من الفنون الدنيوية. وبدأ لفيف من الكاتبين بالعبرية في التحول عن الأسلوب المتأنق الذي تبناه دعاة التنوير الأوائل واتجهوا نحو النقد الاجتماعي.
ومن الملحوظ أن حركة التنوير اليهودية في روسيا لم تستبعد اليديشية كأداة للتعبير، على عكس حركات التنوير في ألمانيا والنمسا. ولكن إلى جانب الدعوة لليديشية، كان هناك فريق يدعو إلى الاستجابة لحركة الحكـومة الروسـية لترويـس رعاياهـا، أي صبغهم بالصبغة الروسية.
وتميل الكتابات التي تتناول ظاهرة التنوير إلى تقسيمها تقسيماً جغرافياً كما فعلنا. ويقسمها البعض الآخر تقسيماً لغوياً: الحركة الألمانية أو الروسية أو اليديشية أو البولندية، وهكذا. وثمة تقسيم ثالث على أساس الأجيال، فيقال: الجيل الأول من دعاة التنوير (مندلسون وأتباعه)، والجيل الثاني (ويضم تلاميذ مندلسون ومفكريه مثل جايجر وزونز وجرايتز). ولكننا نلاحظ أن هذا التقسيم الأخير يتداخل مع التقسيم الجغرافي.
وقد أصبحت حركة التنوير قوة فكرية وسياسية واجتماعية ذات بال في ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، وبشكل أقل في روسيا حيث هـبت على حيـاة اليهود الثقافية رياح معـظم الحركات الفكرية العلمانيـة الغربية، مثل: الرومانسية والمثالية الفلسفية والوضعية والاشتراكية والداروينية والعنصرية. وقد أصبحت كلها، فيما بعد، ضمن مكونات الفكرة الصهيونية، وأصبح دعاة التنوير شخصيات أساسية في الجماعة اليهودية يتحدثون باسمها إلى العالم غير اليهودي.
ولقد تزايد التأثير العميق لحركة التنوير على يهود العالم الغربي كافة إلى أن سادت مُثُلها وتمت علمنتهم وتحديثهم، فأصبحوا إما ملحدين أو لاأدريين أو مؤمنين بصياغات مخففة من اليهودية كاليهودية الإصلاحية. ولكن يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا( فرنسا وإنجلترا وهولندا) لم يلعبوا دوراً كبيراً في حركة التنوير، ذلك لأن المسألة لم تكن تعنيهم كثيراً بسبب تحقيقهم معدلات عالية من الاندماج وحصولهم على حقوقهم منذ بداية استقرارهم في هذه البلاد. وعلى النقيض من هذا، يقف يهود شرق أوربا الذين لم تضرب حركة التنوير بجذور قوية بينهم. وبين الفريقين كان يقف يهود وسط أوربا (ألمانيا والنمسا وغيرهما) الذين كانوا يمثلون العصب الحقيقي لحركة التنوير، فكان منهم موسى مندلسون، وظهرت بينهم اليهودية الإصلاحية وكذلك علم اليهودية. كما يُلاحَظ أن الفكرة الصهيونية (فيما بعد) ظهرت أول الأمر بينهم، فمنهم تيودور هرتزل وماكس نوردو. وكانت لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى هي الألمانية. لكن البعد الألماني الواضح لحركة التنوير لا ينفي أنه كانت توجد مؤثرات فكرية فرنسية على المفكرين، ذلك لأن الفلسفة العقلانية وصلت إلى قمة ازدهارها في فرنسا.
ويمكننا أن نميِّز، من منظور مدى انتشارها ونجاحها وإخفاقها، بين نمطين أساسيين في حركة التنوير. فهناك نمط غربي في ألمانيا والنمسا وجاليشيا حيث حققت مُثُل التنوير نجاحاً ملحوظاً، ونمط شرقي في روسيا (بولندا أساساً) حيث لم تنجح هذه المُثُل كما كان مقدراً لها. وكلمة «غربي» هنا هي الكلمة التي أطلقها يهود شرق أوربا (الأوست يودين) أو يهود اليديشية على يهود ألمانيا والنمسا ووسط أوربا. وقد أدَّى نجاح مُثُل التنوير بين يهود الغرب وإخفاقها النسبي في الشرق إلى انقسام العالم الغربي، فكان يهود الغرب المندمجون يشعرون بالخوف من يهود اليديشية وأحياناً يشعرون تجاههم بالاحتقار، في حين كان يهود الشرق يشعرون بأن يهود الغرب فقدوا هويتهم وأنهم يتشبهون بالأغيار بشكل يبعث على الضيق وأحياناً الاشمئزاز. وهو انقسام انعكس داخل الحركة الصهيونية فيما بعد وتبدَّى في انقسامها إلى صهيونية استيطانية (في شرق أوربا) وصهيونية توطينية (في وسطها وغربها). ويعود الاختلاف بين النمطين إلى اختلافات في المحيطين اللذين وُجد فيهما أعضاء كل جماعة. ويُلاحَظ أن عملية التحديث حققت قدراً من النجاح في بلاد الغرب، وخلقت فرصاً للحراك الاجتماعي أمام أعضاء الجماعات اليهودية. أما في شرق أوربا، فقد تأخر التحديث ثم تعثَّر بل توقَّف بعض الوقت، وهو ما أغلق أبواب الحراك الاجتماعي أمامهم.
ولذا، فعلى حين كانت توجد شرائح اجتماعية كبيرة في الغرب تطمح إلى الاندماج في المجتمع غير اليهودي لم توجد مثل هذه الشرائح في الشرق وظل دعاة التنوير قلة قليلة. ومن هنا نجد أن دعاة التنوير في الغرب كانت لديهم طموحات الانتماء إلى النخبة غير اليهودية وهي طموحات لم تصل في الشرق إلى الدرجة نفسها من القوة. وكان اليهود في ألمانيا يمتلكون الخبرات والأموال التي تؤهلهم للانخراط في المجتمع الجديد الذي كان مستعداً لأن يستفيد منهم. أما في روسيا، فقد ارتبط أعضاء الجماعة هناك بحرف، مثل التجارة البدائية والربا والخمور، أو بوظائف هامشية لم تَعُد مطلوبة. ولذا، فقدت حركة التنوير في الغرب قشرتها اليهودية، في حين تحولت هذه القشرة إلى محارة في الشرق. وأدَّى هذا الوضع إلى استقطاب داخل الجماعة اليهودية في الشرق، فكان دعاة التنوير عادةً من الأثرياء أو البورجوازيين أو المرتبطين بهم حيث كان بوسعهم أن يستفيدوا اقتصادياً من عملية الدمج والتغريب، وهذا مقابل الجماهير اليهودية البورجوازية الصغيرة التي كان الاندماج يعني بالنسبة إليهم الهبوط في السلم الاقتصادي إلى مرتبة العمال. وتتميَّز الجماعات اليهودية في الغرب بصغر عددها، وهو ما سهَّل عملية دمج أعضائها. أما في شرق أوربا، فكانت الكتلة البشرية اليهودية ضخمة. ومما زاد الطين بلة الانفجار السكاني الذي حدث في صفوفها في القرن التاسع عشر، و يمكن القول بأنه كانت هناك جماهير يهودية في الشرق ولم تكن توجد جماهير في الغرب. وساعد ذلك أيضاً على ألمنة يهود ألمانيا، إذ أن الكتابة العبرية كانت تعني كتابة بلا جماهير، بينما نجد أنه برغم صغر حجم قراء العبرية في الشرق كان هناك أعداد لا بأس بها من طلبة المدارس التلمودية العليا (اليشيفا) الذين يعرفون العبرية. ومما ساهم في عدم انتشار مُثُل التنوير في روسيا وبولندا على عكس ألمانيا أن المحيط الثقافي الذي أحاط بيهود ألمانيا (بلد بيتهوفن وهايني) كان متقدماً مصقولاً وأغرى كثيراً من اليهود بالانضمام إليه. أما المستوى الحضاري المحيط بيهود الشرق، بجوه الإقطاعي الخانق وحكوماته الأوتوقراطية وأقنانه المتخلفين، فلم يكن فيه ما يغري بالانتماء أو الاندماج. ولذا، لم تفقد حركة التنوير في شرق أوربا شكلها العبري واليديشي.
وإذا كان الوسط الفلاحي المحيط بيهود الشرق متخلفاً، فإن يهود الشرق أنفسهم كانوا متدنين حضارياً وملتصقين تماماً بطرقهم التقليدية من لغة يديشية إلى زي خاص. وجعل ذلك من التكيف مع الوضع الحضاري الجديد ومع مُثُل التنوير أمراً عسيراً.
وثمة أسباب أخرى أدَّت إلى إضعاف انتشار مُثُل التنوير في الشرق، بل وفي الغرب أيضاً، وإن كان أثرها في الشرق أكثر عمقاً منه في الغرب. وحركة الاستنارة كانت سطحية وساذجة في رؤيتها للإنسان، فقد رفضت كل أنواع الخصوصية بكل مستوياتها وأصرت على أن يتحول الإنسان الفرد المتجذر في تراثه إلى مواطن عام لا جذور له. وكان التصور السائد أن عملية التخلص من الخصوصية مسألة يسيرة سهلة خاضعة لإرادة الفرد دون أي إدراك لمدى ارتباط الهوية بالمستويات العميقة للذات الإنسانية. وغني عن القول أن مثل هذه الرؤية منافية للحقائق النفسية ومنافية لواقع يهود اليديشية الذين كانوا يتمتعون بدرجة عالية من الخصوصية باعتبارهم أقلية قومية داخل روسيا القيصرية. وكان اليهودي يشعر أنه بتخليه الكامل وغير المشروط عن خصوصيته يمسخ نفسه، الأمر الذي كان يُنفِّر كثيراً من أعضاء الجماعة من محاولة الاندماج هذه. أما أولئك الذين كانوا يقبلون فكر حركة الاستنارة ويحاولون التخلي عن الخصوصية، فإن بعضهم كان يبالغ في التشبه بأعضاء الأغلبية واصطناع الأشكال الحضارية السائدة والابتعاد عن التراث اليهودي المحلي. وقد كانت هذه العملية تثير الشك والاشمئزاز في نفوس أعضاء الأغلبية وأعضاء الجماعة اليهودية الذين لم يندمجوا.
وظهرت سذاجة فكرة عصر الاستنارة في محاولة الحكومات المطلقة فرض الإصلاحات من أعلى،وكأنها شيء خارجي،عن طريق التشريعات القانونية،دون تغيير البنية الاقتصادية والسياسية للمجتمع.وكان الإعتاق يُعَدُّ منحة من القيصر،الأب الرحيم، لأبنائه اليهود الذين كان من واجبهم إثبات جدارتهم بهذه المنحة بأن يصبحوا مواطنين صالحين!وقد فُرضت الإصلاحات من خلال أجهزة حكومية متخلفة وبدائية.ويُلاحَظ أن الجهاز الحكومي في ألمانيا والنمسا كان أكثر حداثة وكفاءة منه في روسيا،كما أن النظام الحاكم في ألمانيا كان مدركاً لنفع أعضاء الجماعة والدور الذي يمكن أن يلعبوه في عملية التحديث.هذا على عكس الطبقة الحاكمة في روسيا وبولندا،وبدرجة أقل في النمسا،التي لم تجد دوراً خاصاً لليهود.
وساعد على انتكاس حركة التنوير، في نهاية الأمر، ظهور القوميات الأوتوقراطية المتخلفة ذات المُثُل العضوية في روسيا وبولندا، ومن قبلهما في ألمانيا. وهي قوميات لم تتبن مُثُل الإخاء والتسامح شأنها في هذا شأن القومية الفرنسية، وإنما تبنت رؤية ثنائية حادة تقسم الناس إلى الأنا والآخر. ومما ساعد على تعميق هذا الاتجاه، ظهور الفكر الرومانسي المحافظ لما يُسمَّى الحركة المعادية للاستنارة، والأفكار العنصرية المختلفة التي شاعت في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر بوصفها جزءاً من الهجمة الإمبريالية على العالم. ثم أدَّى تعثُّر التحديث في شرق أوربا، وتوقُّفه تقريباً عام 1881، إلى سحب الأرض من تحت أقدام دعاة التنوير. وتحوَّل كثير من دعاة حركة التنوير إلى دعاة للعقيدة الصهيونية بسبب الظروف المواتية.
وقد أشرنا إلى أن فكر حركة التنوير كان يحوي داخله منذ البداية تناقضاً أساسياً بين النزعة العقلانية التي تؤكد العام والمجرد وترفض الخصوصية ومن ثم تؤدي إلى الاندماج من جهة، ومن جهة أخرى النزعة (غير العقلانية) الإمبريقية الحسية (الرومانسية) التي تؤكد الخاص ومن ثم تؤدي إلى العزلة. وانعكس هذا التناقض في فكر مندلسون ثم في علم اليهودية. ويجب تَذكُّر أن اليهودية المحافظة لم تخرج من التراث الديني التقليدي وإنما هي وليدة حركة التنوير، وعلم اليهودية، والرؤية النقدية والعلمية للتاريخ.
ومع هذا، ورغم انحسار حركة التنوير بوصفها حركة فكرية واعية، ظلت مقولاتها سائدة بين أعضاء الجماعات بشكل ظاهر وكامن، كما أن بنية المجتمع الغربي ذاتها تغيَّرت بشكل أصبح معه التراجع عن مُثُل الاستنارة أمراً عسيراً وصعباً. فلم تَعُد هناك حاجة إلى جماعات وظيفية وسيطة، وأصبحت المساواة بين جميع الأفراد حقيقة تكاد تكون من المسلمات التي تستند إليها النظم السياسية. وزادت معدلات العلمنة وعدم الاكتراث بالدين في المجتمع ككل بحيث لم يَعُد التمييز بين الأفراد يتم على أساس ديني. وحينما كان التمييز يتم على أساس عرْقي، كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن اليهود كانوا يُعتبَرون من الجنس الأبيض. ولذا، يمكن القول بأنه، برغم تراجع حركة التنوير بين اليهود وضَعْف حركة الاستنارة في العالم الغربي وتعثُّرها، فإن مُثُلهما سادت في نهاية الأمر المجتمع الغربي وبين أعضاء الجماعات اليهودية.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق