584
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة
الجزء الأول: التحديث
الباب الثانى: العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية
الحلولية والتوحيد والعلمنة: حالة اليهودية (أطروحة ماكس فيبر وبيتر برجر(
Pantheism, Monotheism, and Secularism: Judaism as a Case Study-Max Weber's and Peter Berger's Theses
من القضايا الأساسية التي أُثيرت في علم الاجتماع الغربي قضية علاقة التوحيد والتجاوز بالعلمنة، إذ يذهب بعض المفكرين إلى أن التوحيد هو الذي يؤدي إلى العلمنة عَبْر مرحلتين:
1 ـ مرحلة ترشيد العبادة وحياة المؤمن والعالم بأسره في إطار التوحيد والمطلق المتجاوز.
2 ـ يعقب هذا مرحلة أخرى يَضْمُر فيها المطلق تدريجياً (وتحل المرجعية الكامنة محل المرجعية المتجاوزة) إلى أن يختفي الإله تماماً. حينئذ يتم ترشيد حياة الإنسان والعالم بأسره في إطار الواحدية المادية.
وهي إشكالية قد تبدو غريبة بعض الشيء، ولكنها إشكالية مهمة للغاية يمكن فهمها حين تُفهم حلقات المتتالية التي يطرحها دعاة هذا النموذج التفسيري. ونحن نطرح تصوُّراً مغايراً ومتتالية مختلفة تستند إلى تعريفنا للعلمانية (الشاملة) باعتبارها منظومة كامنة في الحلولية الكمونية وليس في التوحيد. فنحن نرى - كما أسلفنا - أنه لا يوجد فرق جوهري بين الحلولية الكمونية الروحية والحلولية الكمونية المادية، وأن وحدة الوجود الروحية هي في أساسها وحدة الوجود المادية، أي العلمانية الشاملة.
ولنبدأ بتعريف العلمانية (الشاملة) بأنها رؤية واحدية تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية؛ تَرُدّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد كامن فيه. ومن ثم فهي لا تفرِّق بين الإنسان والطبيعة بل تراهما مادة واحدة (نسبية) لا قداسة لها، خاضعة لقانون طبيعي واحد، ومن ثم يمكن إخضاعها للمقاييس الكمية الرياضية دون الرجوع إلى أية قيم مطلقة (معرفية كانت أو أخلاقية) بهدف زيادة التحكم فيها وتوظيفها، أي أنها رؤية تستبعد الإنسان المركب الرباني وتستبعد أيضاً مقدرته على تجاوز ذاته الطبيعية والطبيعة/المادة ليحل محله الإنسان الطبيعي المادي.
وقد أشرنا إلى أن الترشيد هو إعادة صياغة الواقع والذات في ضوء « نموذج ما ». وقد يكون هذا النموذج دينياً (الإله المتجاوز)، ولكن يمكن أيضاً أن يكون مادياً كمونياً متمركزاً حول الإنسان وعقله أو متمركزاً حول الطبيعة/المادة. وما يهمنا في سياق هذا المدخل هو النموذج الثاني، والأكثر شيوعاً في العصر الحديث، وهو النموذج الواحدي المادي الذي يجعل الطبيعة/المادة (لا عقل الإنسان) هي موضع الكمون. والترشيد العلماني هو ترشيد مادي يأخذ شكل تبنِّي الأساليب العلمية الموضوعية والبيروقراطية اللاشخصية في عملية تفسير الواقع وإدارة المجتمع وإعادة صياغته ورفض الالتفات إلى التقاليد والأعراف الأخلاقية والموروثة وكل المطلقات المتجاوزة والثنائيات، وهي عملية شاملة تُخضع كل شيء لقانون الأرقام والعقل. والترشيد، بهذا المعنى، هو عملية تجريد للعالم في إطار النموذج الواحدي الكموني المادي بحيث يُستبعَد كل ما لا يتطابق مع هذا النموذج، أي كل ما هو متجاوز لعالم الطبيعة/المادة. والعلمنة أيضاً عملية تطبيع، أي إدراك الإنسان باعتباره ظاهرة طبيعية وجزءاً عضوياً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة، وعلى أساس أن ما يسري عليها يسري عليه، أي أن العلمنة هي عملية نزع القداسة عن الكون ورؤيته في إطار قانون مادي واحد كامن فيه، ومن ثم فهي عملية ترشيد وتجريد وتطبيع. ويُشكِّل هذا التعريف إطار مناقشتنا لآراء عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر وآراء عالم الاجتماع الأمريكي بيتر برجر في موضوع علاقة التوحيد بالترشيد ومن ثم العلمنة، وتطبيق هذا على حالة اليهودية.
يذهب ماكس فيبر إلى أن اليهودية، بوصفها ديانة توحيدية، قامت بدور أساسي في عملية الترشيد. فديانات الشرق الأقصى الحلولية الكمونية تهدف إلى أن يصبح المؤمن في حالة اتزان مع نفسه ومع الطبيعة ومع الخالق. وهي تختزل المسافة بين الإنسان من جهة والإله والطبيعة من جهة أخرى، فهي ديانات ترى الإله حالاًّ في الطبيعة والإنسان كامناً فيهما. أما الديانات التوحيدية فهي تخلق مسافة بين الخالق والمخلوق إذ أن الخالق متجاوز للطبيعة والإنسان منزَّه عنهما، ولذا لم يَعُد هدف المؤمن هو توازن علاقته مع نفسه ومع الدنيا وعالم الطبيعة وإنما التحكم فيها. ويرى فيبر أن هذه المحاولة للتحكم في الذات والعالم، باسم مَثَل أعلى موحَّد، هي خطوة أولى نحو الترشيد. واليهودية، باعتبارها أولى الديانات التوحيدية، لعبت (حسب تصوره) دوراً حاسماً في هذا المضمار، فهو يرى مثلاً أن السحر يعوق التقدم وترشيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية. واليهود هم أول من تحرروا من نير السحر، فقد أسقطوا الآلهة المختلفة وحولوها إلى شياطين لا قداسة لها. ويعود هذا إلى تبنِّي اليهودية لما سماه فيبر «الروح الشعبية أو الجماهيرية» التي تتلخص رؤيتها فيما يلي:
1 ـ صاغت الروح الشعبية فكرة العدالة الإلهية (بالإنجليزية: ثيوديسي theodicy) وهي قضية لماذا خلق الإله العادل الشر. والرد اليهودي على هذه القضية رد عقلاني، فالإله كيان عقلاني رشيد، ويأتي بأفعال ذات دوافع عقلانية مفهومة للإنسان، والإنسان كيان حر مسئول عما يقترفه من آثام وعما يأتيه من أفعال خيِّرة.
2 ـ حارب المدافعون عن الرؤية الشعبية ضد فكرة أن قرارات الخالق نهائية ولا يمكن تغييرها، وطرحوا بدلاً من ذلك فكرة أن الإنسان، من خلال طاعة الخالق وتنفيذ وصاياه، يمكنه أن يحوز الرضا فيكافئه ويرفع عنه العذاب. ولكن الإنسان، داخل هذا الإطار الأخلاقي، لا يتسم بالخيلاء أو الثقة بالنفس، وهو ما يسميه فيبر «سيكولوجيا الفرسان»، فخالق الجماهير يتطلب الطاعة والتواضع والثقة فيه.
3 ـ تنظر الروح الشعبية إلى المبادئ الأخلاقية باعتبارها نسقاً من الأخلاقيات العملية المرتبطة بالحياة واحتياجاتها.
4 ـ ولذا،فإنها تخلو من أية عناصر سحرية، فالإنسان الذي لا يطيـع الخالق سـيُنزل به العقـاب،ولا يمكن لأية صيغ سحرية أن تنقذه منه.
وحسب تصوُّر فيبر، كانت السمتان الثالثة والرابعة هما الإضافة الإبداعية للتراث اليهودي الديني التوحيدي التي لم تظهر في الديانة المصرية أو البابلية (وهو رأي غريب بعض الشيء يغرق في التعميمات الكاسحة، ولكننا لن نناقشه حتى نستمر في عرض أطروحة فيبر). وقد ساهمت طبيعة المجتمع العبراني في تطوير السمات الأربعة السابقة كلها (التي يمكن أن نسميها «توحيدية» باعتبار أنها تؤكد مسئولية الإنسان الأخلاقية وحريته وعدم جدوى اللجوء للسحر والقرابين) لأنه كان مجتمعاً بدائياً مقسماً إلى قبائل تدخل في علاقة متكافئة فيما بينها في زمن الحرب، علاقة تستند إلى عقد أو ميثاق أو عهد (بالعبرية: بريت) يُعقَد بين القبائل من جهة ويهوه (إله الحرب) من جهة أخرى. وقد ظهرت يسرائيل باعتبارها «شعب إله الحرب» (وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة «يسرائيل» حسب تصور فيبر). ولم يكن هناك إطار ثابت يضم كل هذه القبائل، وإنما كانت هذه القبائل تدخل في علاقة مؤقتة تحت قيادة كاريزمية يُطلَق عليها اسم «القضاة»، وهم « أنبياء حروب » على حد قول فيبر. وكان الجميع متساوين داخل هذا الإطار، فكلهم يضطلعون بالوظائف نفسها ويؤدون الواجبات نفسها ويتمتعون بالحقوق نفسها. وقد كان هذا ممكناً لأن التكنولوجيا العسكرية كانت بدائية جداً، إذ كانت الحروب تتم إما على الأقدام وإما على ظهور البغال. وكان على الجميع أن يتحملوا الأعباء نفسها ويتجشموا المصاعب نفسها، ومن ثم ظهرت فكرة العهد التي ظلت شائعة في صفوف الجماهير اليهودية بكل ما تنطوي عليه من عقلانية وأخلاقية ومساواة بين أعضاء المجتمع العبراني، إذ كان المذنب يُطرَد من حظيرة الدين أو يُرجَم بالحجارة، الأمر الذي يعني استبعاد السحر كوسيلة للتقرب من الخالق.
ثم ظهر النظام الملكي العبراني وغيَّر هذا الوضع تماماً، فقد أعاد صياغة البناء الطبقي للمجتمع وشكل حرساً ملكياً خاصاً وجيشاً نظامياً وإدارة مركزية يتبعها نظام كهنوتي تابع للبلاط الملكي.
وقد تزامن ذلك مع تغيُّر فنون الحرب وأدواتها، إذ ظهرت العربات الحربية والأحصنة. وكان المجتمع العبراني، قبل ظهور الملكية، مكوناً من ثلاث طبقات:
أ) طبقة أرستقراطية حضرية تضم في صفوفها كبار الملاك الذين يعيشون من ريع ضياعهم.
ب) طبقة الجماهير (يستخدم فيبر الكلمة اللاتينية «بلبز plebs») التي تضم الفلاحين الذين كانوا يتمتعون بقدر من الاستقلال الاقتصادي في بادئ الأمر قبل أن تتدهور أحوالهم فيما بعد، كما كانت تضم الحرفيين والرعاة.
جـ) طبقة البدو الرحل.
وقد قامت الملكية بضم الأرستقراطية الحضرية إلى صفوفها وحولتها إلى نخبة حاكمة مع الكهنة والأرستقراطية العسكرية التي كوَّنت طبقة الفرسـان، وحل كهـنة البـلاط المدربون محل أنبياء الحرب. وكل هذا يعني ظهور طبقات سياسية وعسكرية ودينية حاكمـة متخـصصة يتم تجنيد أعضـائها من شــريحة صغيرة من الســكان، وهو ما يعني اسـتبعاد القاعدة العريضة من الجماهير (بلبز). وقد أدَّى ذلك إلى اتساع الهوة بين طبقات المجتمع وإلى ظهــور عقيدتين ســياسيتين متصارعتين. فتبنَّى أعضاء النخبة الحاكمة، بثقتهم الزائدة في أنفسهم، سيكولوجيا الفرسان (الحلولية). كما أن اعتمادهم على ريع ضياعهم جعلهم يتبنون عبادة إله الخصب بعل (الحلولية) الذي كان يحكم الناس تماماً كما يحكم الإقطاعي أقنانه وفلاحيه.
أما الجماهير، فقد ازداد ارتباطها بالماضي البدوي البسيط وبُمثله العليا وبعبادة يهوه. وقد قامت طبقة المثقفين الذين لم يجدوا مكاناً لأنفسهم في الهيكل السياسي الملكي الجديد بقيادة هذه الجماهير، كما أن هؤلاء المثقفين هم الذين عمَّقوا وطوَّروا ديانة يهوه. وكانت القضية الأساسية التي واجهوها هي قضية العدالة الإلهية (إذ كيف يمكن تفسير بؤس الجماهير؟)، فقاموا بتطوير العقيدة على أسس عقلانية للإجابة عن هذا السؤال بطريقة تلائم نفسية الجماهير وحسها الديني وتطلعها إلى توضيح الأمور بالنسبة لمصيرها وحلمها بمستقبل مزهر. ومن هنا، كان الإيمان بأن يهوه يتصرف ككائن عاقل يمكنه أن يُغيِّر قراراته. ويصبح أساس هذه الرؤية هو أن يحاول الإنسان أن يكتشف إرادة يهوه وتعاليمه وأن يكشفها للجماهير حتى يمكنها أن تحيا حسب هذه التعاليم، وبالتالي يمكن التأثير في يهوه ليغيِّر قراراته ولينقذ المؤمنين به من البؤس السياسي والاجتماعي.
وقد ورث الأنبياء تراث اللاويين وأنبياء الحروب (القضاة)، فحاولوا كأسلافهم اكتشاف إرادة يهوه وتحاشوا الطقوس السحرية. والنبي، بحسب تعريف فيبر، هو «إيش هارواح»، وهي عبارة عبرية تعني «رجل الروح». ويضيف فيبر إلى هذه العبارة كلمة «عقلانية» ليصبح النبي هو «رجل الروح العقلانية»، أي المعادي للسحر والمنتمي إلى دعاة الترشيد، وهو أيضاً رجل جماهير («ديماجوج» أي «مهيج»). وربط الأنبياء فكرة العهد أو الميثاق مع يهوه برؤيتهم للمستقبل وللحرية النهائية لأعضاء جماعة يسرائيل، وكانوا يتصورون أن يهوه سيدخل مستقبلاً في ميثاق لا مع جماعة يسرائيل وحسب بل ومع أعدائها ومع كل الشعوب، وحتى مع المملكة الحيوانية. ويرى فيبر أن إسهام الأنبياء يتلخص في أنهم عمَّقوا عقلانية مفهوم يهوه فربطوا بينه وبين الجماهير، وجعلوا من يهوه إلهاً للعالمين، وبذا حققوا الانتصار النهائي لعملية الترشيد التوحيدي على العناصر السحرية.
وقد ورث الفريسيون تراث الأنبياء، وكانوا يمثلون طبقة البورجوازية الصغيرة، خصوصاً الحرفيين، ومن هنا جاء التوجه العملي لعقيدتهم. وكانت شرعية الفريسيين لا تستند إلى أية أعمال سحرية وإنما إلى التوراة، أي إلى تعاليم الخالق. وقد سيطرت رؤيتهم على اليهود في شتاتهم، أي في انتشارهم، بحيث أصبح نشاط اليهود الفكري الأساسي هو دراسة التوراة. إن هذه الرؤية لابد أن تكون معادية للسحر ولعبادة بعل الحلولية المرتبطة بالسحر والطقوس الجنسية والقرابين البشرية، فهي رؤية تؤدي إلى ترشيد عملية الخلاص بحيث لا يتم بطريقة عشوائية عن طريق إرضاء الإله بالقرابين والتعاويذ كلما ظهرت الحاجة، وبلا منطق أخلاقي واضح وبالوسائل السحرية، وإنما يتم بطريقة منهجية منظمة عن طريق العمل الصالح (في الدنيا) وضبط النفس واتباع المُثُل الأخلاقية والتعامل مع الذات ومع الواقع وإخضاع الذات والعالم لقانون الإله الواحد بطرق متكاملة لا تترك أية تفاصيل خارج نطاق عملية الخلاص المنهجية، بحيث يقوم المؤمن بإخضاع نسق حياته بكل تفاصيله لقواعد خارجية فيكافئه الإله العادل على أفعاله. وتؤكد هذه الرؤية أيضاً تزايد تحكم الإنسان في مصيره وفي بيئته وتركُّز الاهتمام على هذه الدنيا. ولذا، فإن الخلاص لا يتم عن طريق الشطحات الصوفية والانسحاب من الدنيا وإنما بإطاعة قانون الإله وتسخير الذات والواقع في خدمته بشكل منهجي، ومن ثم ظهرت روح الإنجاز بين اليهود إذ توجد علاقة وثيقة بين الرغبة في التحكم وروح الإنجاز. ومع تزايد التحكم وروح الإنجاز، يزداد التوجه إلى المستقبل والتركيز عليه.
كل هذه العناصر هي، في نظر فيبر، أشكال من ترشيد علاقة الخالق بالمخلوق. ومع أن هذا الترشيد يتم في إطار ديني، فهو ترشيد تقليدي متوجه نحو القيمة التي تحددها المعايير الأخلاقية المطلقة، إلا أن الصيغة المنهجية التي يتم بها هي بمثابة إعداد نفسي للإنسان والمجتمع يخلق تبادلاً اختيارياً أو قابلية للترشيد العلماني الحديث (وهو ترشيد إجرائي يتم خارج إطار أية مطلقات معرفية أو أخلاقية في مرحلة تاريخية لاحقة). فإخضاع الحياة الدينية لمنهج متسق أدَّى إلى استبعاد الطرق الارتجالية للتحكم؛ مثل السحر والأشكال البدائية للتنبؤ. فحل النبي محل الساحر، ثم استمرت العملية حتى حل البيروقراطي الحديث محل الجميع (وهذا هو ما يسميه فيبر «نزع السحر عن العالم»)، أي أن اليهودية (باعتبارها ديانة توحيدية) دعمت الاتجاه نحو الترشيد في الحضارة الغربية (ومن ثم الحضارة الحديثة بشكل عام).
الجدير بالذكر أن فيبر يشير إلى أن اليهودية لم تكمل العملية الترشيدية نظراً لظهور عقائد غير رشيدة داخل اليهودية. فالأنبياء أكدوا أن الإله هو إله العالمين، ولكنهم مع هذا أكدوا أيضاً أن جماعة يسرائيل هي وحدها شعبه المختار، وأن كل الشعوب الأخرى ليست إلا وسيلة لتحقيق غايته، أي أن يهوه أصبح إلهاً عالمياً وإله شعب يسرائيل في آن واحد. وقد فُسِّر هذا التناقض على أساس أن يهوه هو رب العالمين حقاً بمقدار دخوله في ميثاق أو عهد مع شعب يسرائيل وحده.
وبهذا، أصبح أعضاء جماعة يسرائيل هم الشعب المختار. ولكنهم حينما أصبحوا فيما بعد شعباً منبوذاً ليس لهم أي استقلال سياسي، بدأوا في تفسير هذا المفهوم تفسيراً جديداً. فهذا الشعب المختار المنبوذ بوسعه، من خلال المعاناة والإيمان بالخالق، أن يصبح مخلّصاً للإنسانية جمعاء، وبذا أصبح الشعب منبوذاً لأنه مختار، بل أصبح النبذ هو أكبر شاهد على اختياره.
وقد واكب ذلك ظهور الأخلاقيات المزدوجة التي تعني وجود مقياس للحكم على الشعب مختلف عن ذاك الذي يُستخدَم للحكم على الشعوب الأخرى. ثم قام عزرا ونحميا بتشديد قبضة الشعائر على اليهود وقويا دعائم الجيتو الداخلي، وبذا بدأ الشعب اليهودي في عزل نفسه طواعية عن بقية الشعوب. وهذه الأفكار (خصوصية يهوه ـ الشعب المختار ـ الأخلاقيات المزدوجة ـ العزلة الشعائرية) تتنافى مع عملية الترشيد، تلك العملية التي قام بها، وبشكل كامل، المسيحيون البروتستانت وليس اليهود. ولكن فيبر يذهب، مع هذا، إلى أن اليهودية ساهمت بشكل أكيد في توليد عملية الترشيد، وأن المسيحية الغربية ورثت هذه العناصر الرشيدة والترشيدية من العقيدة اليهودية، ثم قامت بتطويرها ووصلت بهذا التطوير إلى منتهاه: العلمنة الكاملة للمجتمع.
ويتفق بيتر برجر مع ماكس فيبر في أن اليهودية لعبت دوراً في عمـلية الترشيد، ولكنه ينسب لها أهمية أكبر من تلك التي ينسبها لها فيبر. ولتوضيح هذه النقطة يُعرِّف برجر العلمنة بأنها « استقلال مجالات مختلفة من النشاط الإنساني عن سيادة المؤسسات الدينية ورموزها »، أي انحسار القداسة عن الدنيا بشكل تدريجي نتيجة لتزايد ترشيد العالم. ويشير برجر إلى أن ثمة واحدية كونية (بالإنجليزية: كوزميك مونيزم cosmic monism) تسم العبادات المصرية والشرقية القديمة التي تنطلق من الإيمان بأنه لا يوجد فارق كبير بين عالم الطبيعة والإنسان من جهة وعالم الآلهة من جهة أخرى، إذ يحل الإله في الإنسان والطبيعة ويوحِّد بينهما (المرجعية الكمونية). ويرى برجر أن اليهودية تختلف عن الرؤى الكونية الوثنية (التي تتسم بالحلولية الكمونية) والتي سادت الحضارات المجاورة، وأن نقط الاختلاف هي نفسها التي جعلت اليهودية تلعب دوراً مهماً في ترشيد الواقع ومن ثم في ظهور العلمانية:
1 ـ الإيمان بإله مفارق:
آمن العبرانيون، أو جماعة يسرائيل (حسب رأي برجر) بإله مفارق للدنيا (المرجعية المتجاوزة)، وهو ما يعني وجود ثغرة ومسافة بين الخالق والطبيعة وبين الخالق والمخلوقات، ومن ثم فإن القداسة تم نزعها إلى حدٍّ ما من العالم. فإله العهد القديم لا يحل في الدنيا أو في أرض الوطن التي ينتمي إليها العابد، كآلهة العالم الوثني، وإنما يقف خارج الكون ويواجهه، فهو ليس بإله قومي مرتبط بشكل حتمي ونهائي بجماعة يسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل، وإنما يرتبط بهذه الجماعة بعقد محدَّد واضح.
2 ـ رؤية التاريخ باعتباره منفصلاً عن الطبيعة إذ يتجلَّى فيه الإله:
يصف برجر العقد بين الإله وجماعة يسرائيل بأنه تاريخي، أي يتحقق في التاريخ الإنساني لا في آخر الأيام. ومعنى ذلك أن اليهودية ديانة تاريخية على عكس الديانات الوثنية الحلولية (الكمونية) حيث يحلُّ الإله في الطبيعة، ومن ثم فهي عبادات طبيعية. والعهد القديم لا يحوي أساطير كونية تخلع القداسة على كل شيء في الطبيعة وإنما يحوي تاريخ أفعال الإله وبعض الأفراد المتميِّزين من ملوك وأنبياء. والأعياد اليهودية، في تصوُّره، لا تحتفل بقوى كونية، فهي ليست أعياداً طبيعية تحتفل بتغير الفصول، وإنما هي أعياد تحتفل بأحداث تاريخية محددة. وكل هذا يعني أن القداسة تم انتزاعها من الطبيعة، بل ومن بعض أحداث التاريخ، ولا تتجلى القداسة إلا في جوانب محدَّدة من تاريخ جماعة يسرائيل على وجه الخصوص وتاريخ العالم بأسره على وجه العموم، أي أن بعض جوانب التاريخ، لا الطبيعة بأسرها، أصبحت هي موضع الكمون والحلول الإلهي.
3 ـ ترشيد الأخلاق:
ثمة انفصال، إذن، بين الإله والتاريخ من جهة والطبيعة من جهة أخرى. ولا تنتمي الشرائع والأخلاق التي يهتدي الإنسان بهديها لعالم الطبيعة الكوني، فهي أوامر من الخالق يتم تنفيذها في المجتمع داخل الزمان. ولكل هذا، يرى برجر، مثله مثل فيبر، أن الرؤية اليهودية تذهب إلى أن حياة الفرد والأمة يجب أن تسخَّر في خدمة الإله بشكل منهجي ومنظم حسب القواعد التي أرسل بها، وبذلك يكون قد تم ترشيد الأخلاق الإنسانية بفصل الإنسان والأخلاق عن عالم الطبيعة، ومن ثم تم استبعاد التعاويذ والصيغ السحرية كوسائل للخلاص.
والمتتالية الكامنة في كتابات فيبر وبرجر، والتي تربط بين التوحيد والعلمنة من خلال عملية الترشيد، هي كما يلي: ثورة توحيدية على الواحدية الكمونية الكونية ـ الإيمان بالإله الواحد المتجاوز للطبيعة والتاريخ (المرجعية المتجاوزة) ـ الإيمان بمقدرة الإنسان على تجاوز واقعه وذاته ـ انعدام التوازن بين الذات والطبيعة ـ ترشيد (أي إعادة صياغة) عملية الخلاص وحياة المؤمن، وأخيراً العالم بأسره، في ضوء الإيمان بالإله الواحد (المبدأ الواحد) لاسترجاع شيء من التوازن ـ عدم التعامل مع الواقع بشكل ارتجالي وإنما بشكل منهجي بهدف التحكم فيه لخدمة الإله أو المبدأ الواحد (ترشيد تقليدي متوجه نحو القيمة) ـ اختفاء القيمة والمقدرة على التجاوز وظهور الترشيد المتحرر من القيم والمتوجه نحو أي هدف يحدده المرء (الترشيد الإجرائي) ـ وهذا النوع من الترشيد يتم دائماً في واقع الأمر في إطار الطبيعة/المادة والإنسان الطبيعي/المادي (المرجعية الكامنة) - العلمنة الكاملة.
والمتتالية في رأينا ليست دقيقة وليست حتمية، فعملية الترشيد التي تتم داخل إطار توحيدي وداخل إطار المرجعية المتجاوزة تظل محكومة بالإيمان بالإله الواحد المتجاوز لعالم الطبيعة والتاريخ، ولذا نجد أن التوحيد يصر على الرؤية الثنائية ويبرز الفروق بين النسبي والمطلق وبين الإنسان الطبيعي والإنسان الرباني (الجسد والروح ـ الدنيا والآخرة ـ الأرض والسماء) ولا يسقط في أية واحدية روحية أو مادية. وإذا كان الترشيد هو رد كل شيء إلى مبدأ واحد، فإن هذا يعني ببساطة أن المبدأ العام الذي سيُردُّ إليه الكون في الإطار التوحيدي هو الإله المتجاوز للطبيعة/المادة، وهو مبدأ يؤكد وجود مسافة بين الخالق والمخلوق ينطوي على الثنائية الفضفاضة وعلى التركيب. وهو مبدأ يمنح الواقع قدراً عالياً من الوحدة ولكنها وحدة ليست واحدية مصمتة، ولذا فهي لا تَجبُّ التنوع والتدافع. وعلى هذا، فإن عملية الترشيد في الإطار التوحيدي لن تسقط في واحدية اختزالية لأن التجريد مهما بلغ مقداره لا يستطيع أن يصل إلى الواحد العلي المتجاوز (فهو بطبيعته متجاوز للطبيعة/المادة)، ولذا لا يمكن الوصول إلى قمة الهرم والالتصاق بالإله والتوحُّد معه والتربع معه على قمة الهرم، ومن ثم يستحيل التجسد ويستحيل أن يفقد العالم هرميته ويستحيل أن تُختزَل المسافة بين الخالق والمخلوق، وأن يحل الكمون محل التجاوز. ولهذا يظل التواصل بين الخالق والمخلوق من خلال رسالة يرسلها الإله تتضمن منظومة معرفية وأخلاقية مطلقة متجاوزة للطبيعة/المادة. ومن ثم، يظل الترشيد ترشيداً تقليدياً يدور داخل إطار المطلقات التي أرسلها الإله المتجاوز، ويظل الواقع مركباً يحتوي على الغيب ويسري فيه قدر من القداسة، ويظل الإنسان مُستخلَفاً يعيش في ثنائية الروح والجسد لا في الواحدية المادية، وهي ثنائية تشير إلى الثنائية التوحيدية النهائية: ثنائية الخالق والمخلوق.
أما الحلولية الكمونية فأمرها مختلف تماماً، وهي التي تخلق في تصوُّرنا قابلية للعلمنة، فالحلولية لها شكلان: وحدة الوجود الروحية، ووحدة الوجود المادية. ووحدة الوجود، سواء في صيغتها الروحية أو في صورتها المادية، رؤية واحدية تَرُدُّ الواقع بأسره إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها التي تتخلل ثناياها وتضبط وجودها، وهو يُسمَّى «الإله» في منظومة وحدة الوجود الروحية ويُسمَّى «قوانين الحركة» في وحدة الوجود المادية، وحينما يُردُّ العالم إلى هذا المبدأ الكامن تسقط كل الثنائيات ويتحوَّل العالم إلى كل مصمت لا يعرف أية فجوات أو أي انقطاع، ويصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ منه، غير قادر على تجاوزه.
والمتتـالية التي نقترحها لتفسـير علاقة الحلولية بالعلمانية هي ما يلي: واحدية كونية ترد العالم بأسره إلى مبدأ واحد كامن فيه ـ ترادُف الإله والطبيعة والإنسان وإنكار التجاوز - عالم يحكمه قانون واحد وحالة اتزان بل وامتزاج والتحام بين الإنسان الطبيعي/المادي والطبيعة/المادة ـ سيادة القانون الطبيعي (المادي) وترشيد (إعادة صياغة) البشر والمجتمع حسب مواصفات هذا القانون - العلمنة الشاملة. وعملية الترشيد والتجريد في إطار حلولي كموني تؤدي إلى الواحدية الكونية المادية التي تسقط كل الثنائيات وتؤدي إلى هيمنة المبدأ الطبيعي/المادي الواحد. وتستمر عملية التجريد لا تحدها حدود أو قيود. بل إن الإطار الحلولي الواحدي يساعد على سرعة اتجاهها إلى نقطة الواحدية المادية حيث يصبح المبدأ الواحد كامناً تماماً في العالم الطبيعي وتختفي الثنائيات وتسقط المسافات ويُختزَل العالم إلى مستوى طبيعي واحد أملس لا يمكن تجاوزه، مكتف بذاته، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه ويتحرك حسب قانون صارم مطرد كامن في داخله.
إن المتتالية التي نقترحها هي عكس المتتالية التي يقترحها فيبر وبرجر فليـس التوحـيد هو الذي يؤدي إلى العلمانية وإنما الحلولية الكمونية. ولعل الضعف الأساسي في متتالية فيبر وبرجر هو أنها لا تفسر لم وكيف تم الانتقال من الترشيد التقليدي في إطار المرجعية المتجاوزة والمتوجهة نحو القيمة إلى الترشيد الإجرائي في إطار المرجعية الكامنة والطبيعة/المادة، فهما يقفزان من خطوة إلى التي تليها دون أن يبينا الأسباب.
وقد تمت عملية القفز هذه لأن كلاًّ من فيبر وبرجر، ومنظّري علم الاجتماع الغربي ككل، لم يستطيعوا التمييز بين الواحدية المادية الحلولية الكمونية التي تسقط الثنائيات والمطلقات والمركز من جهة، والتوحيد (بما يحوي من تجاوز وثنائية) من جهة أخرى. ولعل هذا يعود، في حالة فيبر وبرجر إلى أن خلفيتهما الدينية الغربية جعلت نموذجهما التحليلي غير قادر على رصد هذا الفرق الدقيق والجوهري. فقد سيطرت رؤية حلولية كمونية على الفكر الديني المسيحي الغربي. وهذه الرؤية ذات أصل بروتستانتي وجذور غنوصية، ولكنها هيمنت على الوجدان الديني المسيحي الغربي. وقد أدت هذه الرؤية إلى تأرجح حاد بين رؤية للإله الواحد باعتباره مفارقاً تماماً للعالم (إلى حد التعطيل) يتركه وشأنه مثل إله إسبينوزا، فيصبح العالم كتلة موضوعية صماء بلا معنى ولا هدف (التمركز حول الموضوع)، أو هو إله حالٌّ تماماً لا ينفصل عن الذات الإنسانية (التمركز حول الذات). وفي كلتا الحالتين لا توجد علاقة بين الإله وبين العالم، فهو إما مفارق تماماً له أو حالّ كامن فيه تماماً، أي أنها إثنينية أو ثنائية صلبة وليست ثنائية تكاملية. وإن كان يمكن القول بأن الأمر الأكثر شيوعاً الآن في الغرب هو فكرة الإله الحال والكامن في الطبيعة والإنسان. وهو أمر متوقع تماماً، فالمسيحية الغربية تعيش في تربة علمانية كمونية. ولذا، اختفى الإله المفارق حتى حد التعطيل في القانون الطبيعي، ولم يبق منه سوى ذرات وترسبات كامنة في نفوس وقلوب بعض من لا يمكنهم قبول وحشية النظام العلماني الواحدي المادي. وفيبر وبرجر يتحركان داخل هذا الإطار الحلولي الكموني، ولذا لم يتمكن أيٌّ منهما من أن يرصد تَصاعُد معدلات الحلولية والكمونية في اليهودية والمسيحية (منذ عصر النهضة). ولهذا، نجد أن كلاً منهما - في دراسته لليهودية - قد أهمل المكون الحلولي القوي في العقيدة اليهودية الذي يتبدَّى بشكل واضح في صفحات العهد القديم، وبخاصة في أسفار موسى الخمسة. وقد ركزا في تحليلهما على كتب الأنبياء، التي تحتوي على عنصر توحيدي قوي ولكنها تشكل الاستثناء لا القاعدة في العهد القديم. ويبدو أن معرفة كل منهما بالتلمود ليست معرفة مباشرة وإنما من أقوال ومراجعات الآخرين، ولذا لم يلحظ أيٌّ منهما النزعة الحلولية القوية داخل التلمود، ولم يلحظا الفروق الجوهرية بين الرؤية التوحيدية كما ترد في كتب الأنبياء والرؤية الحلولية الكمونية في التلمود. وأخيراً، لا توجد أية إشارة للقبَّالاه في كتاباتهما باستثناء إشارات عابرة تدل على أن أصحابها لا يعرفون التراث القبَّالي بما فيه الكفاية، وربما يعرفون القبَّالاه ككلمة وحسب.
ويتضح عدم إدراك برجر للمكون الحلولي في اليهودية في حديثه عن التصور اليهودي للإله باعتباره إلهاً مفارقاً للطبيعة وللإنسان. فاليهودية تركيب جيولوجي تراكمي، ولذا يوجد داخلها التصور التوحيدي للإله، ولكن توجد إلى جواره تصورات أخرى تتناقض مع التصور التوحيدي تماماً، وهي تصورات أكثر شيوعاً ومركزية من التصور التوحيدي. كما أن برجر في حديثه عن الأعياد اليهودية يقول إنها أعياد تحتفل بأحداث تاريخية ولا تحتفل بقوى كونية. وقد بيَّنا في دراستنا للأعياد (انظر الباب المعنون: «الأعياد اليهودية» في المجلد الخامس من الموسوعة) أنها تحتوي على كل من العنصرين، فعيد الفصح هو عيد خروج الشعب من مصر (مناسبة تاريخية) وهو عيد الربيع في آن واحد. أما فيما يتصل بترشيد الأخلاق، فقد قضت عليه الأخلاقيات المزدوجة التي اتسم بها أعضاء الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية. ومن المعروف أن اليهودية (مع هيمنة القبَّالاه) سيطر عليها الإيمان بالسحر والتعاويذ وزادت شعائر الطهارة، وهو ما جعلها قريبة من العبادات الوثنية الحلولية القديمة التي يُفتَرض أن اليهودية التوحيدية قد تمردت عليها. وقد أشار فيبر إلى سقوط اليهودية في الحلولية ولكنه قرر، بناءً على هذا، استبعاد اليهودية من نموذجه التفسيري، زاعماً أن التوحيد اليهودي قد استمر من خلال العقيدة المسيحية.
إلى جانب هذا، أهمل كل من فيبر وبرجر رصد تَصاعُد معدلات الحلولية والكمونية في المسـيحية الغربية ذاتهـا (وفي المجتمع الغربي ككل). فلم يتحدثا عن الربوبية والماسونية وظهور القبَّالاه المسيحية وتغلغل الحلولية الكمونية في الفكر الديني المسيحي (وبخاصة في الفرق البروتستانتية).
ونحن نذهب إلى أن العلمانية هي شكل من أشكال الكمونية المادية وأن ما حدث أن معدلات الحلولية الكمونية في الحضارة الغربية والمسيحية الغربية تزايدت تدريجياً إلى أن وصل الكمون إلى منتهاه (وأصبح الإله كامناً تماماً في الطبيعة والتاريخ)، فظهرت المنظومة العلمانية. وبهذا المعنى، وُلدت العلمانية من رحم كل من: اليهودية والمسيحية، بعد تراجُع التوحيد والتجاوز ومع تزايُد الحلول والكمون.
والمتتالية التي نقترحها أبسط من متتالية برجر وفيبر، كما أن لها قيمة تفسيرية أعلى. وعلى سبيل المثال، يمكن فهم الإصلاح الديني (وهو أول حلقات عملية العلمنة في الغرب) وانتشار الصوفية الحلولية في صفوف البروتستانت في ضوء هذه المتتالية، وهي تبيِّن علاقة الفكر الإنساني (الهيوماني)، مثلاً، بالفكر البروتستانتي على أساس أنهما نوعان من أنواع الفكر الحلولي الكموني الواحدي؛ حقق الفكر الإنساني الهيوماني الواحدية من خلال استبعاد الإله، وحقق الفكر البروتستانتي الواحدية نفسها إما من خلال حلول الإله في الإنسان والطبيعة أو من خلال مفارقته لهما حتى حد التعطيل، أي أن واحدية الفكر الهيوماني تعبير عن حلولية كمونية مادية بينما واحدية الفكر البروتستانتي تعبير عن حلولية كمونية روحية. ويشكل إسبينوزا نقطة تحوُّل مهمة إذ عبَّر عن توازي هـذين الضربين من الحلوليـة الكمـونية في عبارته «الإله أي الطبيعة». ومن تحت عباءة إسبينوزا خرجت المنظومات العلمانية الفلسفية الغربية، فيأتي هيجل، وهو صاحب نظام حلولي كموني واحدي شامل يتسم بتعددية ظاهرة وواحدية صلبة كامنة تتحد في نهايته الروح بالطبيعة والفكر بالمادة والكل بالجزء والمقدَّس بالزمني. ثم يأتي نيتشه، وهو فيلسوف حلولي كموني آخر، ليشكل القمة (أو الهوة) الثانية في الفلسفة العلمانية، فهو يلغي الثنائية الظاهرة تماماً ويصل بالنسق إلى الواحدية الكاملة فيعلن أنه لا يوجد فكر أو روح أو اسم لإله وإنما مادة محض، وهي مادة سائلة لا قانون لها سوى قانون الغاب ولا إرادة لها سوى إرادة القوة، ولا يوجد سوى أجزاء، فيموت الإله وتسقط فكرة الكل ذاتها.
وإذا كان المشروع التحديثي للاستنارة قد خرج من تحت عباءة إسبينوزا، فقد خرجت ما بعد الحداثة بوجهها القبيح من تحت عباءة نيتشه. ثم جاء دريدا الذي وصل بالسيولة إلى منتهاها وأعلن أن العالم لا مركز له ولا معنى وأنه سيولة لا يمكن أن يصوغها أحد أو يفرض عليها أي شكل، وأننا حينما ننظر لا نرى قانون الطبيعة الهندسي (على طريقة إسبينوزا) ولا الغابة التي تحكمها إرادة البطل (على طريقة نيتشه) وإنما نرى الهوة (أبوريا)، وهذا هو عالم مادونا ومايكل جاكسون (عالم تتساوى فيه مادونا بمايكل جاكسون ووليام شكسبير)، عالم عبارة عن موجات متتالية بلا معنى، عالم علماني صلب تماماً.
ونحن نرى أن بروز اليهود في الحضارة الغربية العلمانية (وليس قبل ذلك) يعود إلى أن مفردات الحلولية هي مفردات هذه الحضارة وإلى أن اليهود (بسبب عمق الحلولية في تراثهم الديني) أكثر كفاءة في الحركة في هذا العالم العلماني الذي يتسم بالواحدية المادية. وقد وُصفت القبَّالاه بأنها تطبيع للإله وتأليه للطبيعة، وهو وصف دقيق للعلمانية التي ترى أن الإله هو المبدأ الواحد الذي يسري في الطبيعة (فيتم تطبيع الإله) والتي تذهب إلى أن العالم مكتف بذاته (واجب الوجود)، يحوي داخله ما يكفي لتفسيره (فيتم تأليه الطبيعة). وهذه المقولة هي نظرية إسبينوزا كاملةً. كما وُصفت القبَّالاه بأنها تُجنِّس الإله (أي تجعل الجنس هو المبدأ الواحد الذي يُردُّ إليه كل شيء) وتُؤلّه الجنس. وهذه المقولة هي نظرية فرويد في حالة جنينية. ومفردات القبَّالاه (والحلولية الواحدية الروحية) الأساسية (الجسد والتنويعات المختلفة عليه: الرحم ـ الأرض ـ الجنس ـ ثدي الأم) هي نفسها مفردات الحلولية الواحدية المادية، أي العلمانية تقريباً. ولذا، فليس من الممكن النظر إلى إسبينوزا وفرويد باعتبارهما «يهوديين» ولا يمكن رؤية بروزهما وعلمانيتهما الشرسة على أنها نتيجة انتمائهما اليهودي، وإنما يجب أن نضعهما في السياق الحلولي الكموني الواحدي الأكبر، وأن نضع الحضارة الغربية العلمانية ذاتها في السياق نفسه، ومن ثم فإن إسبينوزا وفرويد (اليهوديين) وهوبز ويونج (المسيحيين)، على سبيل المثال، هما تعبير عن النمط الحلولي الواحدي المادي (الغنوصي) نفسه، ومن هنا فإن الجميع يؤمن بالرؤية نفسها ويستخدم اللغة والمفردات نفسها ويصبح الانتماء المسيحي أو اليهودي مسألة ثانوية هامشية، ولا تصلح أساساً للتصنيف أو التفسير.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق