636
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة
الجزء الأول: التحديث
الباب الخامس: الاستنارة اليهودية
صالونات النسـاء الألمانيات اليهوديات
Salons of German Jewish Women
«صالونات النساء اليهوديات» صالونات فكرية أقامتها بعض بنات أثرياء اليهود في فيينا وبرلين في بداية القرن التاسع عشر، وأصبحت مركزاً يلتقي فيه أعضاء النخبة الثقافية والسياسية في أوربا مع بعضهم البعض، ومع البارزين من أعضاء الجماعة اليهودية. وظاهرة الصالونات ظاهرة مرتبطة تماماً بحركة التنوير اليهودية ثم بداية انفتاح الجماعة اليهودية على عالم غير اليهود وبداية علمنة أعضائها ودمجهم بل صهرهم وأحياناً تنصيرهم.
ولعل قيام النساء بهذا الدور القيادي في عملية التقارب بين الجماعة اليهودية وعالم غير اليهود يعود إلى مُركَّب من الأسباب الثقافية والاقتصادية. وأهم الأسباب بطبيعة الحال هو أن المجتمع الغربي بأسره كان قد بدأ يتحول من مجتمع تقليدي مبني على الفصل بين الطبقات والجماعات إلى مجتمع حديث تديره دولة قومية علمانية مركزية. ولم يكن هناك مفر من القضاء على كل الجيوب الإثنية والدينية والجماعات الوظيفية بحيث يتم دمجها في بنية المجتمع ككل. والجماعة اليهودية كانت إحدى هذه الجماعات، كما أن الصالونات كانت آلية من آليات الدمج إذ أن احتكاك أعضاء القيادة اليهودية بالثقافة غير اليهودية كان يسهم ولا شك في زيادة اقترابهم منها واستيعابهم لها ومن ثم وصولها إلى كل أعضاء الجماعة، ذلك أنه، مع تحوُّل النخبة، يَسهُل تحوُّل الجماهير. وقبل أعضاء الأرستقراطية الألمانية، رغم ما عرف عنهم من عنصرية، ارتياد هذه الصالونات لأنها كانت تتسم بقدر كبير من الحرية والانفتاح، ومن ثم كانت مجالاً لتبادل الأفكار غير متاح في المجتمع. ولابد أن نتذكر أن الفكر العقلاني وجد طريقه إلى أعضاء الأرستقراطية الغربية وعبَّر عن نفسه في ظاهرة الحكومات المطلقة المستنيرة التي كانت تبغي إصلاح المجتمع من أعلى، ومن خلال تشريعات حكومية. كما أن انتشار الرؤية النفعية والمركنتالية في المجتمع، جعل بالإمكان تقبُّل اليهودي أو أي شخص آخر ما دام أثبت نفعه.
أما من الناحية الاقتصادية المباشرة، فيعود ظهور الصالونات إلى حرب الأعوام السبعة (1756 ـ 1763)، إذ أعطى فريدريك الأكبر مجموعة من العقود للمتعهدين العسكريين اليهود، الذين أثبتوا كفاءتهم في سد حاجاته من السلع والمواد المختلفة ونفعهم لبروسيا. وتمكَّن هؤلاء المتعهدون من مراكمة الثروات إبَّان هذه الحرب، وكثير من المزايا التي منحها إياهم الإمبراطور مكافأة لهم على الخدمات التي أدوها لوطنهم بروسيا. وقد اضطر كثير من أعضاء الأرستقراطية الألمانية إلى اقتراض المال من المموِّلين اليهود في هذه الفترة. ولكل هذا، ازداد اختلاط أعضاء الأرستقراطية الألمانية بأثرياء اليهود.
وفي إطار هذا، يمكن القول بأن الصالونات كانت تمثل مرحلة انتقالية في تاريخ الجماعات اليهودية، فهي مرحلة كانت الجماعات اليهودية لا تزال تلعب فيها دور الجماعة الوظيفية، ولكن قوة الدولة المركزية كانت آخذة في التزايد، ومن ثم بدأت عملية الاستغناء عن الجماعات الوظيفية. كما أن الجماعة الوظيفية اليهودية ذاتها كانت قد بدأت تراكم الثروات وهو ما جعلها مستعدة لارتياد قطاعات اقتصادية جديدة داخل الاقتصاد الوطني وفي صلبه. وعلى المستوى الثقافي، نجد الوضع نفسه، فأعضاء النخبة في الجماعة اليهودية كانوا لا يزالون (يهوداً) يتَّسمون بشيء من الخصوصية التي يتمتع بها أعضاء الجماعات الوظيفية. ولكنهم كانوا في الوقت نفسه قد بدأوا يتحركون في عالم الألمان، ويتشربون شيئاً من ثقافتهم، ويتطلعون إلى فقدان ما تبقى لديهم من خصوصية، ويندمجون تماماً في عالم ثقافة الأغلبية.
ويظل سؤال أخير: لماذا النساء اليهوديات دون الرجال؟ وللإجابة على هذا السؤال، لابد من الإشارة إلى مفارقة غريبة وهي أن التراث الديني اليهودي كان يحرم على المرأة المشاركة في الحياة العامة (الدينية) والدراسة الدينية، وكان هذا يعني أن كثيراً من الفتيات اليهوديات من أبناء الأسر الثرية بدأن يتلقين تعليماً غربياً علمانياً، فأصبحن أكثر إلماماً بالعلوم والثقافة الغربية وأكثر كفاءة في التعامل مع العالم الغربي وأكثر تملكاً لناصية خطابه الحضاري. ولذا، كان بمقدورهم أن يلعبن دور الوسيط بين أعضاء الجماعة اليهودية والنخبة الألمانية. كما أن ثراء أسرهن حررهن من الدور التقليدي للمرأة، فأصبح لديهن الوقت والثقافة والثراء الكافي لمثل هذه الصالونات.
وبدأ مندلسون تقليد الصالونات هذا حين خصص ليلة يلتقي فيها المثقفون اليهود مع غير اليهود ليتبادلوا الأفكار. وكان أول صالون تفتحه مثقفة يهودية هو صالون هنريتا هرتز (1764 ـ 1847) وهي زوجة ماركوس هرتز أحد تلاميذ مندلسون، الذي كان يكبرها سناً، فتولى إكمال عملية تعليمها. وكانت تجيد عشر لغات من بينها العبرية، وكان صالونها ملتقى لمعظم المفكرين والأدباء مثل جوته وميرابو وأعضاء الأرستقراطية الألمانية. وتزوجت هنريتا هرتز من أحد رواد الصالون بعد موت زوجها، وتنصَّرت. ومن أهم الصالونات الأخرى صالون دوروثيا فايت (1763 ـ 1879) وهي ابنة مندلسون التي تزوجت مصرفياً يهودياً، ولكنها طلقت زوجها وتزوجت من الكاتب الألماني فريدريك فون شليجيل واعتنقت المسيحية البروتستانتية، ثم تكثلكا معاً. وكان صالون راحيل ليفين فارنهاجن (1771 ـ 1833) أهم الصالونات جميعاً، وكان ملتقى النخبة. وبعد زيجتين فاشلتين، التقت بضابط يهودي يصغرها سناً بأربعة عشر عاماً فتزوجا. وحينما استقرت في فيينا، فتحـت صالونها هـناك، فكان مندوبو بروسيا لمؤتمر فيينا يلتـقون فيه. وكانت الصالونات نقطة تجمُّع للحركة الرومانتيكية ولحركة ألمانيا الفتاة.
وكانت ظاهرة صالون النساء اليهوديات ظاهرة مؤقتة، فمع نمو عدد أعضاء النخبة الثقافية والسياسية في المجتمع، ومع تنوُّع حاجاتها الفكرية، بدأت تظهر مؤسسات متخصصة للوفاء بهذه الحاجات، مثل الجماعات المهنية والنادي الثقافي والمجلات والصحف. كما أن تزايُد النزعة القومية الألمانية، وما صاحبها من معاداة اليهود، ساهم في تشجيع أعضاء النخبة على الانصراف عن هذه الصالونات. ولعل تنصُّر كثير من القائمات على مثل هذه الصالونات ساهم أيضاً في القضاء عليها إذ أن ذلك يعني أنها عجزت عن مد أية جسور بين الجماعة اليهـودية وحضـارة الأغيار. وأخـيراً، مع تزايد معـدلات الاندماج والعلمنة، بدأت أعداد أكبر من الرجال تمتلك ناصية الخطاب الحضاري الغربي وتتحرك بكفاءة أكبر في المجتمع وتعقد صلات مع المجتمع المضيف دون حاجة إلى صالونات النساء اليهوديات.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق