6
موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري
المجلد الأول: الإطـار النظــرى
الجزء الأول: إشكاليات نظرية
الباب الأول: مقـدمة
موسوعة تأسيسية
وفي عام 1975، قررت تحديث موسوعة المصطلحات اليهودية والصهيونية: رؤية نقدية (القاهرة 1975) وتعميق الجانب التفكيكي النقدي، بعد أن أصبحتُ أكثر وعياً به. ولذا قررت أن أكتب ما سميته حينذاك «موسوعة مضادة» (بالإنجليزية: آنتي أنسيكلوبيديا anti-encyclopedia)، فدعوت حشداً كبيراً من الباحثين الشبان والمتخصصين وطلبت من كل واحد منهم أن يكتب مدخلاً في حقل تخصصه، على أمل أن أنتهي من تحديث الموسوعة في غضون عام أو عامين. واستغرقت العملية التفكيكية ما يقرب من عشر سنوات أي حتى عام 1985 حين اكتشفت أنني انتقلت من مرحلة إلى مرحلة أخرى دون أن أشعر، إذ وجدت أنني في واقع الأمر، شأني شأن الباحثين الذين تعاونوا معي، أقوم بعملية تمديد أفقي للمعلومات في الإطار التفكيكي العام. ولا شك في أن التفكيك له فائدة، بل هو أمر حتمي وضروري، فهو يكشف المفاهيم الكامنة ويزيل الغشاوات، ولكنه يترك كثيراً من جوانب الظاهرة دون تفسير. فالتفكيك عملية هدم جذرية تطهيرية ولكنه ليس عملية تفسيرية. والتفسير غير التفكيك، فهو عملية إبداعية تركيبية تتطلب نحت نماذج مختلفة والربط بينها والغوص في كل الأبعاد السياسية والاقتصادية والدينية والمعرفية للظاهرة، وإعادة ترتيب الوقائع وتصنيفها في ضوء النماذج الجديدة، واكتشاف حقائق جديدة مُهمَّشة ومنحها المركزية التفسيرية التي تستحقها، وتوليد مصطلحات جديدة وإعادة تعريف بعض المصطلحات القائمة.
وقد حدث شيء مهم جداً في حياتي الفكرية عام 1985 وهو أن همومي الفكرية الأساسية (الصهيونية كاستعمار استيطاني وكأيديولوجية لأعضاء الجماعات اليهودية ـ الهيجلية والحلولية ونهاية التاريخ ـ الاستهلاكية ومصير الإنسان ـ التحيزات المعرفية والحاجة لمشروع حضاري مستقل ـ الحاجة إلى استخدام النماذج كأدوات تحليلية)، التي كانت مترابطة بشكل ما، تلاحمت تماماً وأدركت العلاقات فيما بينها، الأمر الذي كان يعني ضرورة البدء من جديد. ومما ساعد على تعميق هذا الاتجاه، اكتشافي معلومات مهمة، أي إدراكي أهميتها التفسيرية (فهي معلومات معروفة ولكنها مُهمَّشة تماماً)، فقد وجدت أن الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في نهاية القرن الثامن عشر كانوا يوجدون في بولندا، وأننا حينما نتحدث عن يهود العالم الغربي (أي معظم يهود العالم) فإنما نتحدث في واقع الأمر عن يهود بولندا الذين اقتسمتهم روسيا والنمسا وألمانيا باقتسام بولندا نفسها، ومن صفوفهم خرجت الألوف والملايين التي هاجرت إلى إنجلترا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ثم فلسطين. ولذا، لابد للمتخصص في اليهود واليهودية والصهيونية أن يُلم إلماماً كبيراً بتاريخ بولندا وتشكيلها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفريد. وهنا اكتشفت جهلي التام. هل سمع أحد منا بجمهورية يحكمها ملك منتخب؟ وما علاقة بولندا بلتوانيا وما علاقتهما بأوكرانيا؟ هل سمع أحد منا بطبقة الشلاختا (طبقة النبلاء البولنديين) أو بنظام الأرندا (نظام استئجار الأراضي من النبلاء)؟ وما دور اليهود في الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا؟ إن هذه العناصر والمفردات هي التي تكوِّن تاريخ بولندا ومن ثم تاريخ الجماعة اليهودية فيها، ولا يمكن فهم المسألة اليهودية إلا بعد الإحاطة بهذه العناصر وغيرها إحاطة كاملة.
هذا بالنسبة لليهود. أما بالنسبة لليهودية، فقد اكتشفت الدور المتزايد الذي لعبته القبَّالاه اللوريانية (أي الصوفية اليهودية على طريقة إسحق لوريا) في تقويض دعائم التلمود حتى حلّت كتب القبَّالاه محله. وبناءً على هذا، فقد أحضرت عدداً كبيراً من الدراسات في تاريخ بولندا والقبَّالاه وفي غير ذلك لأملأ الفراغات في تكويني الثقافي.
عند هذه اللحظة، أدركت أنني تركت مرحلة التفكيك بصورة تلقائية وانتقلت إلى مرحلة التركيب، وأنني لم أعد أفكك وحسب وإنما بدأت أطرح أسئلة وإشكاليات ومصطلحات ونماذج ومقولات تحليلية جديدة كان من شأنها تركيب تصوُّر جديد لتاريخ اليهودية ولأعضاء الجماعات اليهودية. وعلى هذا، فإن الموسوعة لم تعد موسوعة معلوماتية تحاول توفـير المعـلومات للقارئ، ولا حتى موسوعة تفكيكية تحاول أن تهدم النماذج القائمة، وإنما هي موسوعة تأسيسية. ولو كانت هذه الموسوعة موسوعة معلوماتية، لأصبح هذا العمل ضعف حجمه الحالي ولتم إنجازه في بضع سنوات، ولو كانت موسوعة تفكيكية وحسـب لنُشرت عام 1983 مع انتهاء السادة الباحثين الذين قدَّموا إسهاماتهم في موعدها، ولكنها موسوعة تأسيسية كما أسلفت.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق