435
الكامل في التاريخ ( ابن الاثير ) الجزء السابع والاخير
ذكر ملك صلاح الدين يافا
لما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره فسار إلى مدينة يافا وكانت بيد الفرنج فنازلها وقاتل من بها منهم وملكها في العشرين من رجب بالسيف عنوة ونهبها المسلمون وغنموا ما فيها وقتلوا الفرنج وأسروا كثيرًا وكان بها أكثر ما أخذوه من عسكر مصر والقفل الذي كان معهم وقد ذكر ذلك.
وكان جماعة من المماليك الصلاحية قد وقفوا على أبواب المدينة وكل من خرج من الجند ومعه شيء من الغنيمة أخذوه منه فإن امتنع ضربوه وأخذوا ما معه قهرًا ثم زحفت العساكر إلى القلعة فقاتلوا عيها آخر النهار وكادوا يأخذونها فطلب من بالقلعة الأمان على أنفسهم وخرج البطرك الكبير الذي لهم ومعه عدة من أكابر الفرنج في ذلك وترددوا وكان قصدهم منع المسلمين عن القتال فأدركهم الليل وواعدوا المسلمين أن ينزلوا بكرة غد ويسلموا القلعة.
فلما أصبح الناس طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحصن فامتنعوا وإذا قد وصلهم نجدة من عكا وأدركهم ملك إنكلتار فأخرج من بيافا من المسلمين وأتاه المدد من عكا وبرز إلى ظاهر المدينة واعترض المسلمين وحده وحمل علهم فلم يتقدم إليه أحد فوقف بين الصفين واستدعى طعامًا من المسلمين ونزل فأكل فأمر صلاح الدين عسكره بالحملة عليهم وبالجد في قتالهم فتقدم إليه بعض أمرائه يعرف بالجناح وهو أخو المشطوب ابن عي بن أحمد الهكاري فقال له: يا صلاح الدين قل لمماليكك الذين أخذوا أمس الغنيمة وضربوا الناس بالحماقات أن يتقدموا فيقاتلوا إذا كان القتال فنحن وإذا كان الغنيمة فلهم.
فغضب صلاح الدين من كلامه وعاد عن الفرنج.
وكان رحمه الله حليمًا كريمًا كثير العفو عند المقدرة ونزل في خيامه وأقام حتى اجتمعت العساكر وجاء إليه ابنه الأفضل وأخوه العادل وعساكر الشرق فرحل بهم إلى الرملة لينظر ما يكون منه ومن الفرنج فلزم الفرنج يافا ولم يبرحوا منها.
وعود صلاح الدين إلى دمشق في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر أولها هذا التاريخ وافق أول أيلول وكان سبب الصلح أن ملك إنكلتار لما رأى اجتماع العساكر وأنه لا يمكنه مفارقة ساحل البرح وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه وقد طالت غيبته عن بلاده راسل صلاح الدين في الصلح وأظهر من ذلك ضد ما كان يطلب منه المصاف والحرب فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة ونزل عن تتمة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ونفد من نفقاتهم وقالوا: إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج للبقاء هاهنا سنة أخرى وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين.
وأكثروا القول له في هذا المعنى فأجاب حينئذ إلى الصلح فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة وتحالفوا على هذه القاعدة وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس فلما حلف صلاح الدين قال له: اعلم أنه ما عمل أحد في الإسلام ما عملت ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة فإننا أحصينا من خرج إلينا في البحر من المقاتلة فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد بعضهم قتلته أنت وبعضهم مات وبعضهم غرق.
وأما صلاح الدين فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس وأمر بإحكام سوره وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين ووقف عليها الوقوف وصام رمضان بالقدس وعزم على الحج والإحرام منه فلم يمكنه ذلك فسار عنه خامس شوال نحو دمشق واستناب بالقدس أميرًا اسمه عز الدين جورديك وهو من المماليك النورية.
ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين وقصد بيروت وتعهد هذه البلاد وأمر بإحكامها فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها واجتمع به وخدمه فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق فدخلها في الخامس والعشرين من شوال وكان يوم دخوله إليها يومًا مشهودًا وفرح الناس به فرحًا عظيمًا لطول غيبته وذهاب العدو عن بلاد الإسلام.
في هذه السنة منتصف شعبان توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية وكان له من البلاد قونية وأعمالها وأقصرا وسيواس وملطية وغير ذلك من البلاد وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة وكان ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة إلى بلاد الروم فلما كبر فوق بلاده على أولاده فاستضعفوه ولم يلتفتوا إليه وحجر عليه ولده قطب الدين.
وكان قلج أرسلان قد استناب في تدبير ملكه رجلًا يعرف باختيار الدين حسن فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسنًا ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه الذي سلمها إليه أبوه فحصرها مدة فوجد والده قلج أرسلان فرصة فهرب ودخل قيسارية وحده.
فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصر فملكهما ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد وكل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو صاحب مدينة برغلوا فلما رآه فرح به وخدمه وجمع العساكر وسار هو معه إلى قونية فملكها وسار إلى اقصرا ومعه والده قلج أرسلان فحصرها فمرض أبوه فعاد به إلى قونية فتوفي بها ودفن هناك وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكًا لها حتى أخذتها منه أخوه ركن الدين سليمان على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وقد حدثني بعض من أثق به من أهل العلم بما يحكيه وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا ونحن نذكره قال إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته فسلم دوقاط إلى ابنه ركن الدين سليمان وسلم قونية إلى ولده كيخسر وغياث الدين وسلم أنقرة وهي التي تسمى انكشورية إلى ولده محيي الدين وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه وسلم أبلستين إلى ولده قطب الدين وسلم نكسار إلى ولد آخر وسلم أماسيا إلى ولد أخيه.
هذه أمهات البلاد وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه ثم إنه ندم على ذلك وأراد أن يجمع الجميع لولده الأكبر قطب الدين وخطب له ابنه صلاح الدين يوسف صاحب مصر والشام ليقوى به فلما سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه وحرجوا عن طاعته وزال حكمه عنهم فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة فيقيم عند كل واحد منهم مدة وينتقل إلى الآخر ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو صاحب قونية على عادته فخرج إليه ولقيه وقبل الأرض بين يديه وسلم قونية إليه وتصرف عن أمره فقال لكيخسرو: أريد أن أسير إلى ولدي الملعون محمود وهو صاحب قيسارية وتجيء أنت معي لأخذها منه فتجهز وسار معه وحصر محمودًا بقيسارية فمرض قلج أرسلان وتوفي عليها.
فعاد كيخسرو وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده.
وكان قطب الدين صاحب أقصرا وسيواس إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية وبها أخوه نور الدين محمود وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له وفي نفسه الغدر فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته وحضر أخوه محمود عنده غير محتاط فقتله قطب الدين وألقى رأسه إلى أصحابه وأراد أخذ البلد فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه ثم إنهم سلموه إليه على قاعدة استمرت بينهم.
وكان عند محمود أمير كبير وكان يحذره من أخيه قطب الدين ويخوفه فلم يصغ إليه وكان جوادًا كثير الخير والتقدم في الدولة عند نور الدين فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسنًا معه وألقاه على الطريق فجاء كلب يأكل من لحمه فثار الناس وقالوا: لا سمعًا ولا طاعة! هذا رجل مسلم وله هاهنا مدرسة وتربة وصدقات دارة وأفعال حسنة لا نتركه تأكله الكلاب فأمر به فدفن في مدرسته وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم.
ثم إن قطب الدين مرض ومات فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس وهي تجاوره فملكها ثم سار منها إلى قيسارة وأقصرا ثم بقي مديدة وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين وفحصره بها وملكها ففارقها غياث الدين إلى الشام ثم إلى بلد الروم وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا فملكها وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة فملكها وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب وكان معز الدين هذا تزوج ابنة للعادل فأقام عنده.
واجتمع لركن الدين ملك جميع الإخوة ما عدا أنقرة فإنه منيعة لا يوصل إليها فجعل عليها عسكرًا يحصرها صيفًا وشتاء ثلاث سنين فتسلمها سنة إحدى وستمائة ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذ فارقها فلما سار عنها قتل.
وتوفي ركن الدين في تلك الأيام ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه.
وإنما أوردنا هذه الحادثة هاهنا لنتبع بعضها بعضًا ولأني لم أعلم تاريخ كل حادثة منها لأثبتها فيه.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق