1396
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الثورة الكبرى -> الحرب الأهلية الأولى
9- الحرب الأهلية الأولى
1642-1646
انشقت إنجلترا الآن-بصورة لا يكاد يكون لها مثيل من قبل في تاريخها المعروف، وانحاز إلى صف البرلمان لندن والثغور والمدن الصناعية، وبصفة عامة الجنوب والشرق، ومعظم الطبقة الوسطى، وجزء من الطبقة العليا، وعملياً كل البيوريتانيين. وانضم إلى جانب الملك أكسفورد وكمبردج والغرب والشمال، ومعظم الأرستقراطيين والمزارعين، وكل الكاثوليك والأنجليكانيين الأسقفيين تقريباً. وكان مجلس العموم منقسماً على نفسه، حيث ناصر الثوار نحو 300 عضو، على حين بلغ عدد الملكيين نحو 175 عضواً. وبلغ عدد مجلس اللوردات 110، انحاز إلى جانب البرلمان نحو 30 منهم في بداية الأمر، ورجحت كفة الثورة ضد الملك. وكان في لندن نصف ثروة الأمة، وقدمت للثورة القروض بسخاء عظيم، على حين عجز الملك عن الاقتراض من أي مكان. وكان الأسطول يناصبه العداء، فسد المنافذ على كل معونة أجنبية. ولم يكن أمام الملك إلا أن يعتمد على الهبات والمنح وعلى رجال من الضياع الكبيرة التي أحس أصحابها أن مصلحتهم في تلك الأرض تتحقق بانتصاره، وانبعث من جديد في الأسرات القديمة بعض فضائل الفروسية ومشاعرها، وقدموا المال للملك بلا قيد أو شرط، وقاتلوا وسقطوا في الميدان كما يسقط كرام الرجال. واندفع الفرسان المفعمون فتوة وحيوية، بشعورهم المعقوصة وخيلهم المطهمة بأبهى السروج إلى غمار حرب بطولية، ومعهم كل الشعراء
?
صفحة رقم : 9670
إلا ملتون. ولكن الثروة كانت إلى جانب البرلمان.
والتقى الجمعان لأول مرة في ادجهل Edgehill (23 أكتوبر 1642)، وكان كل جيش يتألف من 14 ألف رجل... وكان الملكيون تحت قيادة الأمير روبرت Rupert ابن إليزابث أميرة بوهيميا أخت شارل، وكان في الثانية والعشرين من عمره. أما "ذوو الرءوس المستديرة" أو البرلمانيون فكان يقودهم روبرت دفريه ارل اسكس الثالث. ولم تكن المعركة فاصلة. ولكن اسكس سحب قواته، وتقدم الملك إلى أكسفورد ليتخذها مقراً لقيادته. ولكن نحميا والنتجون-هو بيوريتاني متحمس أو سياسي، أسماها فوزاً مبيناً للبرلمان وللرب، فهو يقول:
هنا ندرك رحمة الله الواسعة... لأن جملة القتلى من
الجانبين، كما سمعت، كان 3.517، ولكن قتل من
الأعداء عشرة مقابل كل واحد فقدناه منا. ولكن انظر
إلى حسن صنيع الله، فإن الذين قتلوا منا كان معظمهم من
الذين ولوا الأدبار. أما الذين صمدوا واستبسلوا فقد كتبت
لهم النجاة.... كم أود أن أوتي القدرة على أن أروي
كيف أن يد العناية الإلهية صوبت بشكل رائع مدافعنا
وقذائفنا لتدمير العدو... يا للعجب، كيف وجه الله
قذائفهم... إن بعضها سقط أمامهم (من جانبنا) وبعضها
مر مروراً عابراً، وبعضها عبر فوق رءوسهم، وأخرى
سقطت إلى جانبهم... يا الله، ما كان أقل من مس
بأذى برصاص الأعداء ممن وقفوا في وجوههم وقاوموهم
ببسالة... هذا صنع الله، وما أروعه في نظري(85).
على أن الأمور تأزمت في صفوف البرلمانيين في الربيع التالي. فان الملكة هنريتا تسللت إلى إنجلترا، حاملة معها بعض الأسلحة والذخيرة ولحقت بالملك في أكسفورد.
?
صفحة رقم : 9671
وضيع إسكس الوقت سدى، على حين كان الهرب والمرض ينخران في جيشه، وأصيب هامدن بجرح مميت في بعض المناوشات عند شالجروف فيلد. وهزمت قوة برلمانية في أدوالتون مور (30 يونية 1643)، ودمرت قوة أخرى في راوندواي داون (13 يولية). وسقطت برستول في يد الملك. ولما ساءت أقدار البرلمان إلى هذا الحضيض، ولى وجهه شطر إسكتلندة طلباً للعون. وفي 22 سبتمبر وقع مندوبو إسكتلندة "تحالفاً وميثاقاً مقدسين"، تعهد الاسكتلنديين بمقتضاه بإرسال جيش لمساعدة البرلمان مقابل 30 ألف جنيه شهرياً، شريطة أن يقيم البرلمان في إنجلترا وإيرلندا مذهب البروتستانتية المشيخية-أي حكومة المشايخ في الكنيسة، ودون سيطرة الأساقفة، وفي نفس الشهر عقد شارل صلحاً مع المتمردين الإيرلنديين، المتقدم بعضهم للقتال في صفوفه في إنجلترا. وابتهج الكاثوليك الإنجليز لهذا. وتزايد عدد البروتستانت الذين انقلبوا على الملك. وفي يناير 1644 هزم الغزاة الإيرلنديين في نانتوتش وتقدم الجيش الاسكتلندي نحو إنجلترا. والآن كانت الحرب الأهلية تضم ثلاث أمم وأربعة مذاهب.
وفي يولية 1643. انعقدت "جمعية وستمنستر"-121 من رجال الدين الإنجليز، 30 من العلمانيين الإنجليز، وثمانية مندوبين اسكتلنديين (انضموا فيما بعد)-لتحدد البروتستانتية المشيخية الجديدة في إنجلترا. ولقد عوقت السيطرة البرلمانية أعمال هذه اللجنة حتى باتت تجرر أذيالها في مؤتمرات تعقدها لمدة ست سنوات. وانسحب نفر قليل من الأعضاء كانوا يظاهرون الحكومة الأسقفية. وطالبت فئة قليلة من البيرويتانيين المستقلين ألا يشهد الاجتماع مشيخيون ولا أساقفة. أما الأغلبية-وفاء بتعهد البرلمان ونزولاً على إرادته، فإنها أيدت أن يتولى الأمور الدينية في إنجلترا أو إيرلندة وإسكتلندة شيوخ الكنيسة ومجلسهم والمجامع الإقليمية والجمعيات العامة. وألغى البرلمان الحكومة الأسقفية الإنجليكانية (1643)، وأقر التنظيم المشيخي والمذهب المشيخي، ووضع لهما القوانين (1646)، ولكنه احتفظ لنفسه بحق الاعتراض على أية قرارات كنسية. وفي 1647 أصدرت الجمعية "اعتراف وستمنستر بالعقيدة والتعاليم الكبرى والتعاليم الصغرى" وكلها تثبت
?
صفحة رقم : 9672
مذهب كلفن في القضاء والقدر، والاصطفاء، والرفض (أي الإخراج من الزمرة الإبرار ) وأهملت الكنيسة الإنجليكيانية وعودة الملكية إلى أسرة ستيورت، جمعية وستمنستر، ولكن "الاعتراف والتعاليم" بقيت معمولاً بها نظرياً في الكنائس المشيخية في البلاد الناطقة بالإنجليزية.
واتفقت الجمعية والبرلمان على رفض ما تقدمت به الفرق الصغيرة من التماس التسامح الديني. والتمست مدينة لندن المتحدة من البرلمان القضاء على كل الهرطقات. وفي 1648 قدم أعضاء مجلس العموم مشروعات تقضي بعقوبة السجن مدى الحياة على خصوم تعميد الأطفال، وبعقوبة الإعدام على من ينكرون الثالوث الأقدس أو المتجسد أو نزول الكتاب المقدس بوحي من عند الله، أو خلود الروح(87). وأعدم عدد من الجزويت فيما بين عامي 1642 و1650. وفي يناير 1645، اقتيد رئيس الأساقفة لود، وهو في الثانية والسبعين، من السجن إلى ساحة الإعدام، ولكن البرلمان أحس أنه مشغول بالحرب إلى أقصى حد، أو أنه ليس ثمة مجال للرفق والمجاملة. ومهما يكن من أمر فإن كرومويل ناضل في سبيل شيء من التسامح. وفي 1643 شكل في كمبردج فرقة أطلق عليها "ذوو الدروع الحديدية Ironsides" وهو اسم أطلقه في الأصل الأمير روبرت على كرومويل نفسه، ورحب بكل الأفراد الذين ينضمون إلى الفرقة من كل الملل والنحل-باستثناء الكاثوليك وأنصار حكومة الأساقفة-"ممن لا تفارق خشية الله نفوسهم"، وممن يتدبرون
?
صفحة رقم : 9673
ما صنعت أيديهم(88). وعندما أراد ضابط مشيخي أن يطرد-من الفرقة ضابطاً برتبة مقدم من أنصار تجديد التعميد (إعادة تعميد البالغين ورفض تعميد الأطفال)، اعترض عليه كرومويل قائلاً. "سيدي، إن الدولة حين تختار موظفيها لا تلقي بالاً إلى آرائهم، طالما أنهم جادون في خدمتها بإخلاص، وهذا يكفي(89)". وفي 1644 طلب إلى البرلمان "أن يلتمس وسيلة ما للتسامح، وفقاً لما جاء في الكتاب المقدس، مع ذوي النفوس الضعيفة الذين لا يستطيعون في كل الأحوال أن يخضعوا لحكم الكنيسة(90)". وتجاهل البرلمان هذا المطلب، ولكن كرومويل ظل يمارس تسامحاً نسبياً في فرقته، وطوال سيطرته على إنجلترا.
وكان ارتقاء كرومويل إلى مرتبة القيادة مفاجأة من مفاجآت الحرب. إنه شارك لورد فردياندو فيرفاكس أمجاد النصر في ونسبي (11 أكتوبر 1643). ولقد هزم فيرفاكس في مارستن مور (2 يولية 1644) ولكن رجال كرومويل "الحديديون" أنقذوا الموقف. إن قواداً برلمانيين آخرين، مثل إرل اسكس وإرل مانشستر، تراجعوا أو عجزوا عن متابعة انتصارهم وأقر مانشستر صراحة بعدم رغبته في الإطاحة بالملك. وبغية التخلص من هؤلاء القادة ذوي الألقاب، واقترح كرومويل "قرار إنكار الذات" (9 ديسمبر 1644)، يعتزل كل أعضاء البرلمان بمقتضاه قياداتهم. وهزم الاقتراح، ولكن عرض من جديد وأقر (3 أبريل 1645). واعتزل اسكس ومانشستر، وعين توماس فيرفاكس-ابن فرديناندو-قائداً أعلى-وسرعان ما عين كرومويل قائداً للفرسان، وأمر البرلمان بتكوين جيش "على طراز جديد"، من 22 ألف جندي، وأخذ كرومويل على عاتقه مهمة تدريبه.
ولم يكن لدى كرومويل سابق خبرة عسكرية قبل الحرب. ولكن قوة شخصيته وخلقه، وثبات أرادته وصموده لتحقيق الهدف، وبراعته في التلاعب بالأحاسيس الدينية والسياسية لدى الناس، كل أولئك هيأ له القدرة على تشكيل قواته على نظام فذ وولاء فريد. فكان المذهب البيوريتاني يضارع الخلق الإسبارطي في صنع جنود لا يقهرون، انهم لم "يؤدوا القسم مثل الفرسان"، بل على النقيض من ذلك
صفحة رقم : 9674
لم يسمع حلف الإيمان في معسكراتهم قط، بل إنها كانت تدوي بالعظات والصلوات. انهم لم يسلبوا ولم ينهبوا، ولكنهم اقتحموا الكنائس ليجردوها من الصور الدينية، ويخلصونها من الأسقفيين أو البابويين(91)". وكانوا يهتفون فرحين أو غاضبين حين يلاقون العدو. ولم تنزل بهم الهزيمة قط.. وعندما كان الملكيون يطاردون مشاة سير توماس فيرفاكس في ناسبي (14 يونية 1645)، حول كرومويل بفرسانه الجدد الهزيمة إلى نصر مبين، إلى حد أن الملك فقد كل مشاته ومدفعيته ونصف خيالته، ونسخاً من مراسلاته التي نشرت لتكشف عن خطته في استقدام مزيد من القوات الإيرلندية إلى إنجلترا، وإلغاء القوانين المناهضة للكاثوليكية.
ومنذ تلك اللحظة أخذت أحوال الملك تزداد سوءاً وبسرعة. فإن مركيز مونتروز، قائده البطل في إسكتلندة، بعد عدة انتصارات، هزم في فيلبهو وهرب إلى القارة. وفي 30 يوليه 1645 استولى جيش البرلمان على باث، وفي 23 أغسطس تخلى روبرت عن برستول إلى فيرفاكس، والتمس الملك، دون جدوى، العون من كل الجهات. وأحس جنوده بأن قضيتهم خاسرة، فتذرعوا بمختلف المعاذير وتخلفوا عنه وانضموا إلى العدو. وحاول بالمفاوضات الملتوية مع كل فريق على حدة أن يوقع الانقسام في صفوف أعدائه-فيفرق بين المستقلين والبرلمان، وبين البرلمان والاسكتلنديين، ولكنه أخفق في ذلك. وكان لتوه قد أرسل زوجته الحامل، عبر أراضي معادية، لتبحر إلى فرنسا، وأمر الآن الأمير شارل بالفرار من إنجلترا بأية وسيلة ممكنة. وتنكر هو، مع اثنين من المرافقين، وشق طريقه إلى الشمال حيث استسلم للاسكتلنديين (5 مايو 1646). ووضعت الحرب الأهلية الأولى، بالفعل أوزارها.
صفحة رقم : 9675
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق