1394
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الثورة الكبرى -> شارل حاكم مطلق
7- شارل حاكم مطلق
1629-1640
ومضت إحدى عشرة سنة- وهي أطول فترة من نوعها في تاريخ إنجلترا لم يجتمع فيها البرلمان. وبات شارل آنذاك حراً في أن يكون حاكماً مطلقاً. إنه من الوجهة النظرية لم يطالب بأكثر مما ذهب عليه جيمس وإليزابث وهنري الثامن،
?
صفحة رقم : 9655
ولكنه من الوجهة العملية ذهب إلى اكثر مما ذهبوا إليه، لأنهم لم يبلغوا بسلطات الملك وحقوقه قريباً من حد التوتر والانفجار كما كان يفعل شارل، بفرض الضرائب غير المقررة، وعقد القروض الإجبارية، وإيواء الجنود لدى المواطنين، وإجراء الإعتقالات التعسفية، وإنكار حق المسجونين في طلب التحقيق في أمر حبسهم وفي المحاكمة أمام المحلفين، وتشجيع طغيان محكمة "قاعة النجم"، ومحكمة اللجنة العليا وقساوتها، الأولى في المحاكمات السياسية، والثانية في القضايا الكنسية. ولكن غلطة شارل الأساسية هي عجزه عن أن يدرك أن الثروة التي يمثلها مجلس العموم أعظم كثيراً من الثروة التي يسيطر عليها الملك أو الثروة الموالية له، وأن سلطة البرلمان لا بد أن تزداد تبعاً لذلك.
وفي أثناء هذه الأزمة، وقبل أن تستنزف دماء الأمة، ازدهر الاقتصاد، لأن شارل-مثل والده-كان رجل سلام، وأبقى إنجلترا بعيدة عن الحرب طيلة معظم حكمه، على حين أرهق ريشيليو فرنسا، كما أصبحت ألمانيا خراباً بلقعاً. وبذل الملك المنهوك أقصى الجهد في التخفيف من التركيز الطبيعي للثروة. فأمر بوقف المساحات المسورة وألغى ما أقيم منها في خمس مقاطعات داخلية بين عامي 1625 و1630، وفرض غرامات على 600 من ملاك الأرض المتمردين(61) وأمر برفع أجور عمال النسيج في 1629، 1631، 1637، وأمر قضاة الصلح بفرض رقابة أدق على الأسعار. وعين لجاناً لحماية مستوى الأجور، والإشراف على إعانة الفقراء. وخلق لود لنفسه أعداء جدداً، بتحذيره أرباب العمل من "إذلال الفقراء واضطرارهم إلى إراقة ماء وجوههم(62)" ولكن في نفس الوقت منحت الحكومة الاحتكارات في الملح والصابون والنشا والبيرة والنبيذ والجلود، وأفادت منها. واحتفظت لنفسها باحتكار الفحم. فكانت تشتريه بأحد عشر شلناً للعبوة، وتبيعه عشر في الصيف وتسعة عشر في الشتاء(63). وتلك أيضاً احتكارات أرهقت الفقراء إلى أبعد حد، وهاجر إلى إنجلترا أكثر من 20 ألفاً من البيوريتانيين.
ودفع شارل بأنه كان لا بد له من إيجاد وسيلة لتغطية نفقات الحكومة. وفي
?
صفحة رقم : 9656
1634 حاول محاولة مشئومة: فرض ضريبة جديدة. ذلك أن السوابق جرت من قديم على مطالبة المدن الساحلية بأن تمد الأسطول بالسفن اللازمة له زمن الحرب، مقابل حمايته لها، أو أن تدفع، بدلاً من ذلك، "مال السفن" للحكومة لتنفق منه على الأسطول. ولكن شارل الآن، ونحن في 1635، فرض "ضريبة السفن" هذه، وبغير سابقة، على كل إنجلترا بأسرها في زمن السلم، متذرعاً (وهذا حق تماماً) بالحاجة إلى إعادة بناء البحرية الخربة، استعداداً للطوارئ، ولتتولى حماية التجارة البريطانية ضد قراصنة القنال الإنجليزي. وعارض الكثيرون هذه الضريبة الجديدة، ورفض جون هامدن دفعها، اختباراً لمشروعيتها، فأودع السجن ثم أطلق سراحه. وكان بيوريتانياً موسراً من بكنجهام شير. قال عنه أحد أنصار الملكية-كلارندن، إنه ليس من مثيري الفتن بل إنه رجل هادئ "يتميز برزانة ودقة غير عاديتين(64)". أخفى صلابته في كياسته ومجاملته، وأخفى زعامته في تواضعه.
وتأخرت محاكمة هامدن طويلاً، ولكن أخيراً بدئ بنظر القضية في نوفمبر 1637، وأورد محامو التاج سوابق "ضريبة السفن" وقالوا بأن للملك في ساعة الخطر الحق في أن يطلب المعونة المالية دون انتظار لانعقاد البرلمان. فأجاب محامو هامدن بأنه لم يكن ثمة ضرورة ماسة تقتضي العجلة، وحالة طوارئ. وأنه كانت هناك فسحة من الوقت لدعوة البرلمان، ثم أن فرض الضريبة انتهك ملتمس الحقوق الذي قبله الملك. وصدر الحكم لمصلحة التاج بأغلبية سبعة ضد خمسة من القضاة، ولكن الرأي العام ساند هامدن، وارتاب في نزاهة القضاة الذين هم عرضة لانتقام الملك. وسرعان ما أطلق سراح هامدن. واستمر شارل حتى 1639 يجمع ضريبة السفن. واستخدم الجزء الأكبر منها في بناء البحرية التي قاتلت الهولنديين وانتصرت عليهم في 1652.
وفي الوقت نفسه جاوزت أخطاء الملك الجسام إنجلترا إلى إسكتلنده، فإنه أزعج المشيخيين الاسكتلنديين بزواجه من كاثوليكية، ومده سلطان الأساقفة على
?
صفحة رقم : 9657
كنائسهم. وروع نصف الأشراف "بقانون الإلغاء" (1625) الذي يقضي بإلغاء كل ما منح من أراضي التاج أو الكنيسة منذ ارتقاء ماري ستيوارت إلى العرش. وعين خمسة من الأساقفة ورئيساً للأساقفة أعضاء في مجلس الخصوص في إسكتلنده، ثم عين هذا الأخير وهو جون سبوتيزود Spottizwoode قاضياً للقضاة-وهو أول رجل من رجال الكنيسة يعين في هذا المنصب منذ عهد الإصلاح الديني. ثم إنه لما قدم، بعد إبطاء أو تمهل مثير، إلى إسكتلنده ليتوج عليها (1633)، سمح للأساقفة بإجراء الطقوس التي تكاد تكون في معظمها مراسم كاثوليكية في الكنيسة الأنجليكانية-الملابس والشموع والمذبح والصليب. ولما كان الأساقفة الاسكتلنديين قد وطدوا العزم على فرض سلطانهم على المشيخيات، فانهم وضعوا مجموعة من القواعد الطقسية التي صارت تعرف-باسم "قوانين لود"، وقد أولت هذه القوانين الملك سلطة كاملة في الفصل في قضايا الكنيسة، وحرمت اجتماع رجال الدين إلا بدعوة من الملك، وقصرت حق القيام بالتدريس على من يحيزهم الأسقف، ونصت على ألا يرسم قسيساً إلا من يرتضي هذه القوانين(65). وأقر شارل هذه القوانين وأمر بإعلانها في كل كنائس إسكتلنده. واحتج القساوسة المشيخيون على أن نصف الإصلاح الديني بهذه الطريقة قد نسف، وحذروا من أن شارل يمهد لإخضاع بريطانيا لروما. وثارت ثائرة الجمهور في كنيسة سانت جيل في أدنبرة عند محاولة إقامة الشعائر على شكل جديد، وقذف بالعصي والحجارة الكاهن الذي تولى إقامة الشعائر، وطوحت جني جدز Jenny Geddes بكرسيها في رأسه صارخة "أيها اللص القذر، هل أنت الذي ستتلو القداس؟(66)" وانهالت الظلامات والالتماسات على شارل من كل الطبقات تطالب بإلغاء "القوانين الكنسية" السابق ذكرها. فكان جوابه أنه دمغ هذه الملتمسات بالخيانة. وبدأت إسكتلندة الثورة ضد الملك.
وفي 28 فبراير 1638 وقع ممثلو الكنيسة الإسكتلندية وسواد الناس في أدنبرة "الميثاق الوطني" يؤكدون فيه من جديد مذهب المشيخية وطقوسها، ويرفضون القوانين الجديدة، وينذرون أنفسهم للدفاع عن التاج وعن "العقيدة الصحيحة".
?
صفحة رقم : 9658
وبتحريض من القساوسة أيدت إسكتلندة كلها تقريباً هذا الميثاق. وهرب سبوتزوود وكل الأساقفة فيما عدا أربعة، إلى إنجلترا. وطردت الجمعية العامة للكنيسة الإسكتلندية في جلاسجو كل الأساقفة، وأعلنت استقلالها عن الحكومة. وأرسل الملك أوامره بفض الاجتماع، وإلا وجهت إلى المشتركين فيه تهمة الخيانة. ولكنهم واصلوا عقد جلساتهم. وحشد الملك جيشاً قوامه 21 ألف جندي تعوزهم الحماسة، سار به إلى إسكتلندة، على حين جمع "الميثاقيون" قوة من 26 ألف رجل ألهبهم الحماس الديني والغيرة الوطنية. وعندما تلاقى الجمعان وافق شارل على عرض القضية على برلمان إسكتلندي حر وجمعية غير مقيدة من الكنيسة الإسكتلندية، ووقعت الهدنة في بروك Berwick في 18 يونية 1639 وبذلك انتهت "حرب الأساقفة الأولى" دون إراقة دماء. ولكن الجمعية الجديدة انعقدت في إدنبرة في 12 أغسطس 1639، وأكدت القرارات "الخائنة" التي اتخذت في مؤتمر جلاسجو، وصدق البرلمان الإسكتلندي على قرارات الجمعية. واستعد الطرفان "لحرب الأساقفة الثانية".
ودعا الملك للوقوف إلى جانبه، في هذه الأزمة، رجلاً ثابت العزم كامل المزايا (وكانت هذه الكلمة شعاره) بقدر ما كان الملك متردداً عاجزاً. وكان توماس ونتورث Wentworth قد وصل إلى مقاعد البرلمان وهو في سن الحادية والعشرين (1614)، وكان غالباً ما يصوت ضد الملك. وكسبه شارل إلى جانبه بتعيينه رئيساً "لمجلس الشمال"، وكافأه على نشاطه في تنفيذ سياسة الملك بضمه إلى مجلس شورى الملك وبعث به نائباً للملك في إيرلندة (1632) حيث أخمدت الثورة هناك سياسته "البارعة" التي ارتكزت على كفاية مجردة من الرحمة، وأقامت سلاماً مشوباً بالغضب. وفي 1639 عين ارل سترافورد ورئيساً لمستشاري شارل. ونصح الملك بحشد جيش كبير، لقمع "الميثاقيين" ومواجهة البرلمان المتمرد بقوة لا قبل له بمقاومتها. ولكن الجيش الكبير يتطلب اعتمادات من العسير تدبيرها بدون البرلمان. فدعا، على كره منه، برلمانه الرابع، فلما اجتمع هذا "البرلمان القصير" (13 أبريل 1640) عرض عليه الملك رسالة ضبطت، التمس فيها الميثاقيون نجدة لويس الثالث عشر(67). واحتج الملك بأن له الحق؛ إزاء مثل هذه الخيانة؛
?
صفحة رقم : 9659
في أن يحشد جيشاً، واتصل جون بيم سراً بالميثاقيين، وقرر أن مشكلتهم مماثلة لقضية البرلمان ضد الملك، وحرض البرلمان على منع المعونات المالية عن الملك، وعلى التحالف مع الإسكتلنديين. فحل شارل البرلمان القصير بتهمة الخيانة (5 مايو 1640). واندلعت الفتنة في لندن، وهاجم الرعاع قصر رئيس الأساقفة لود، فلما لم يجده قتلوا كاثوليكياً رفض الصلاة البروتستانتية(68).
وسار شارل إلى الشمال بجيش جمع ارتجالاً، وتقدم الإسكتلنديون نحو الحدود وهزموا الإنجليز (20 أغسطس 1640) واستولوا على شمال إنجلترا. ووافق الملك البائس على دفع 850 جنيه يومياً حتى يتم التوصل إلى معاهدة مرضية، ولكنه عجز عن الدفع، وبقي الجيش الإسكتلندي حول نيو كاسل، بوصفه حليفاً حاسماً للبرلمان الإنجليزي في حربه ضد الملك. فدعا شارل، وقد تولاه اليأس والذهول والحيرة، مجلساً من النبلاء للاجتماع به في يورك. فنصحوه بأن سلطانه بات على شفا الانهيار، وأنه لا بد له من تسوية مع أعدائه. وللمرة الأخيرة دعا الملك البرلمان، وهو أطول البرلمانات وأشدها حسماً وأكثرها شؤماً في تاريخ إنجلترا.
صفحة رقم : 9660
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق