1392
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الثورة الكبرى -> الشعر في أيام شارل
5- الشعر في أيام شارل
وظهرت في نفس الحقبة طائفة من الشعراء الثانويين الأقل شأناً-الذين حظي كل منها بأعظم الحب لدى هذا أو ذاك من الناس- والذين أمتعوا الناس، وملئوا وقت فراغهم بقوافي الغزل وقصائد التقوى الرخيمة. وحيث أن الملك كان يميل إليهم ويرضى عنهم لأنهم كانوا أبواقاً له ولسان حاله في كل التقلبات، فان التاريخ يعرفهم باسم "الشعراء الفرسان". وكان روبرت هرك Herrick يدرب قلمه عند بن جونسون، وظن لبعض الوقت أن قدحاً من النبيذ يمكن أن ينظم مجلداً من القصائد، وكان يحتسي الخمر لعدة ساعات دون انقطاع، من أجل باخوس (إله الخمر والعربدة عند اليونان والرومان)، ثم درس ليهيئ نفسه للانخراط في سلك رجال الدين، وتلقى درساً في العشق والغرام، وقطع على نفسه عهداً أن يؤثر الخليلات على الزوجات(46). وأشار على العذارى "بجمع براعم الورد" عند تفتحها. أما عشيقته كورنا Corinna فانه يستحثها بقوة:
انهضي، انهضي، يا للعار إن الصبح المتفتح يمثل بأجنحته
قدرة الله كاملة. انظري كيف أن الفجر ينبثق في الجو عن
خيوط الضوء الجديد الجميل. انهضي أيتها الغادة النؤوم
وانظري كيف ترين قطرات الندى العشب والشجر.... تعالي،
ولنذهب ونحن في ريعان شبابنا لنسرح ونمرح في اللهو البريء
?
صفحة رقم : 9642
في أيامنا. سوف يدركنا الهرم بسرعة ونفنى قبل أن نستمتع
بحريتنا... وعندما يسعفنا زماننا، وقبل أن نذبل
ونذوي، تعالي يا حبيبتي كورنا، تعالي ننعم بربيع
الحياة(47).
وهكذا في كثير من قصائده الماجنة التي نشرها (1648) في مجموعة Hesperides، حيث نجد أنها، حتى في أيامنا الفاجرة، في حاجة إلى التهذيب، حتى تلائم كل الناس. ولكن كسب العيش ضروري كذلك. ومن ثم غادر هرك لندن الحبيبة إلى نفسه (1629)- حاملاً معه حب للقصيد والقوافي- وقصد وهو محزون، ليعمل قسيساً ويقيم في بيت متواضع في ديفونشير النائية.
وسرعان ما شرع في نظم قصائد تفيض بالتقي والورع، بادئاً بدعاء الغفران:
أما عن قصائدي المجافية للدين، والتي كتبتها في أيام طيشي
ومجوني، عن كل جملة أو عبارة أو لفظة فيها، لم يرد فيها
ذكرك، يا إلهي، فتجاوز عنها يا رب، وامح من كتابي كل
سطر لم تلهمني في الصواب(48).
وفي 1647 عزله البيوريتانيون من وظيفته. وتضور جوعاً، في خضوع وولاء، طوال الأيام السود في حكم كرومول، ولكنه عاد إلى أبرشيته بعودة الملكية، ومات هناك، وهو في سن الرابعة والثمانين، وضاعت كورنا في زوايا النسيان.
ولم يعمر توماس كارو Carew مثلما عمر هوك، ولكنه مثله، وجد فسحة من الوقت للخليلات والمحظيات. وثمل كارو بالمفاتن التي تدق عن الوصف في المرأة، فتغنى بها في تفصيل جذل نشوان في "نشوة A Rapture"، وفي ازدراء جريء للطهر والعفة. حتى أن الشعراء الآخرين عتبا عليه دقته الفاسقة. ولم يغفر البيوريتانيون لشارل الأول تعيينه في المجلس الخاص، ولكن ربما تجاوز عن الموضوع من الناحية الشكلية. لقد اقتبس الشعراء في أيام شارل كل الرقة والأناقة
?
صفحة رقم : 9643
الفرنسيتين في شعر رونسار وبنات أطلس ليزروقوا بالفن الرشيق مجون الشهوات وبعدها عن اللياقة والاحتشام.
وحظي سرجون سكلنج Suckling بثروة طائلة في حياته القصيرة التي لم تجاوز الثلاثة والثلاثين ربيعاً. ولد في 1609، وورث في الثامنة عشرة من عمره أموالاً كثيرة. وطاف بأنحاء أوربا ليكمل دراسته، وضمه شارل الأول إلى طائفة الفرسان، وحارب تحت إمرة جوستافوس أدولفوس في حرب الثلاثين عاماً، وعاد إلى إنجلترا (1632)، ليصبح بفضل وسلمته وذكائه وثرائه الواسع من ذوي الحظوة في البلاط الملكي. ويقول عنه أوبري إنه "كان من أشجع أهل زمانه وأكثرهم شهامة وتودداً إلى النساء، ومن أكبر المقامرين في لعبة البولنج (اللعب بالكرات الخشبية) ولعب الورق... وقد تأتى أخواته إلى... ساحة اللعب، تتعالى صيحاتهن وصراخهن خوفاً من ضياع أنصبتهن في القمار(49)." وابتدع نوعاً من لعب الورق Cribbage (كربج). ولم يتزوج قط في حياته، ولكنه صاحب "عدد كبيراً من السيدات ذوات المكانة". وفي إحدى الحفلات أهدى السيدات جوارب حريرية. وكأنها حلوى، ثم مضى الحفل في بذخ هائل(50). وأخرجت روايته أجلورا Aglaura في مناظر باذخة مسرفة، دفع نفقاتها من جيبه الخاص، وحشد قواته للقتال إلى جانب الملك، وخاطر بحياته في محاولة لإنقاذ سير توماس ونتورث ارل سترافورد، وزير الملك، من السجن (في برج لندن). فلما أخفق هرب إلى القارة، وهناك حين حرم من كل ثروته، تناول السم ومات.
كذلك خدم ريتشارد لفلاس Lovelace الملك في الحرب والشعر معاً، كما كان أيضاً ثرياً وسيماً. رآه أنتوني وود في إكسفورد فقال عنه إنه "ألطف وأجمل إنسان وقعت عليه عيناه"(51) وفي 1642 رأس وفداً من كنت يلتمس من البرلمان الطويل (وكان مشيخياً لأمد قصير)، إعادة الطقوس الأنجليكانية. ومن أجل هذه الجرأة في التمسك بعقيدته، قضى في السجن سبعة أسابيع. ولما جاءت معشوقته ألثيا Althea تزوره وتواسيه في السجن، خلدها بهذه الأبيات:
?
صفحة رقم : 9644
عندما يرفرف الحب بأجنحة طليقة حول الأبواب، ويأتي
بملاكه الطاهر ألثيا تهمس من خلف القضبان. وعندما
أرقد متشابكاً في شعرها لا أحول بصري عن عينيها، فإن
الطيور التي تسبح في الهواء لا تعرف حرية مثل هذه.
إن بعض الجدران لا تصنع سجناً، ولا تصنع بعض
القضبان قفصاً، لأن العقول البريئة الهادئة تتخذ من
هذا وذاك صومعة. وإذا كنت أنعم بالحرية في حبي، وإذا
كانت نفسي طليقة. فان الملائكة الذين يحلقون في السماء
هم وحدهم الذين ينعمون بمثل هذه الحرية(52).
وخرج إلى الحرب ثانية في 1645، معتذراً إلى خطيبته (لوسي ساكفرل Sacheverell) في قصيدة: To Lucasta, Going To The Wars
لا تقولي يا عزيزتي إني قاس لا أرحم، لأني من معبد
صدرك الطاهر وبالك الخالي، أطير إلى ساحة الحرب
وأمتشق الحسام....
على أنك أنت نفسك سوف تقدسين مثل هذا التحول لأني
لم أكن لأحبك، إذا لم يكن الشرف أحب إلي منك(53).
وطبقاً لأنباء كاذبة عن موته في ساحة القتال تزوجت لوكستا (لوسي الطاهرة) من شخص آخر طلب يدها. ولما أن فقد لفلاس فتاة أحلامه وثروته في سبيل الدفاع عن الملكية، ساءت أحواله إلى حد الاعتماد على إحسان أصدقائه وبرهم ليقيم أوده. وبات هذا الذي كان يرفل في ثياب موشاة بالفضة والذهب، يرتدي الآن أسمالاً بالية ويأوي إلى الأكواخ. ومات من السل والهزال 1658، وهو في سن الأربعين.
وكان من الممكن أن يتعلم لفلاس فن البقاء من أدموند وولر Waller الذي نجح في الاحتفاظ بنشاطه لمدة ستين عاماً، ممالئاً جانبي الثورة الكبرى كليهما،
?
صفحة رقم : 9645
وأصبح أكثر شعراء زمانه شعبية، وعمر بعد ملتون، ومات في سريره 1687 وهو في سن الواحدة والثمانين. ودخل البرلمان في السادسة عشرة من عمره، وأصابته لوثة من الجنون في سن الثالثة والعشرين، ثم شفي وتزوج في سن الخامسة والعشرين من سيدة في لندن آلت إليها ثروة ضخمة، واراها التراب بعد ثلاث سنوات من زواجهما. وسرعان ما تودد إلى ساكاريسا (ليدي دوروثي سدني)، بأسلوب جديد لموضوع قديم.
اذهبي أيتها الوردة الجميلة، وأبلغي هذه التي تضيع
وقتها وتضيعني، إنها الآن تعرف حق المعرفة أني
إذ أشبهها بك، كم يبدو هي جميلة فاتنة.
أبلغيها، وهي في ريعان الشباب، وتتجنب أن يختلس
أحد النظر إلى مفاتنها، أنك لو كنت (أيتها الوردة)،
نشأت في الصحراء، حيث لا يقطن إنسان، لأصابك الذبول
دون أنه يتغنى أحد بجمالك....
ثم تفنى تلك التي نقرأ فيها المصير المشترك لكل ما هو
فذ نادر، وما أقصر الأيام التي نقضيها مع ربات الحسن
الرائع والجمال المذهل.
وثمة شاعر آخر يكاد يكون من الشعراء الأقل شأناً يدخل في زمرة شعراء هذه الحقبة، وهو ريتشارد كراشو، الذي امتلأ بالحماس الديني أكثر مما أغرم بمتاع الدنيا. وكتب والده، وهو من رجال الكنيسة الأنجليكانية، مقالات ضد الكاثوليكية، وملأ قلب ابنه بالمخاوف من البابوية. ولكن ريتشارد اعتنق الكاثوليكية، وفصل من كمبردج (1644) لمناصرته الملك، فهرب من إنجلترا إلى باريس. وهناك تعزى عن فقره "بتجليات الذات الإلهية"، كان المتصوفة الأسبان في نظره كشفاً مقدساً عن النشوة والورع. وحين وقف أمام صورة للقديسة تيريزا غبطها على ما ظفرت به من اختراق سهم المسيح قلبها، وتوسل إليها أن تقبله تلميذاً لها، منكراً لذاته:
?
صفحة رقم : 9646
استحلفك بملء ملكوت هذه القبلة الأخيرة التي أمسكت
بروحك الطاهرة، وختمتك ملكاً للمسيح، وبكل
السموات التي لك فيه (يا شقيقة الساروفيم الجميلة)،
وبكل ما نجده فيك من صفاته، ألا تتركي في شيئاً من
نفسي، وأن تدعيني أتأمل حياتك، بحيث أموت عن
كل حياتي.
قدم كراشو للعالم هذه القصيدة وقصائد غيرها في ديوانه "خطوات إلى المعبد" (1646)، وهي خليط متناقض يجمع بين النشوات الدينية والنزوات الشعرية. وإنا لندرك من خلال هذا الشاعر، وشاعر آخر مثله متأخر عنه، هو هنري فوجان، أنه في تلك الأيام العصيبة المحمومة، لم تكن إنجلترا منقسمة إلى بيوريتانيين وكلفنيين، بل وسط حرب الشعر واللاهوت، وجدت بعض الأرواح أن الدين ليس كامناً في الأضرحة الضخمة والطقوس المنومة، ولا في التعاليم الرهيبة والاختيار المرسوم بالكبرياء والزهو، ولكن في الاتصال البريء الواثق، للنفس الحائرة الخاشعة، بالله الغفور الودود.
صفحة رقم : 9647
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق