1391
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الثورة الكبرى -> النثر في عهد شارل ال
4- النثر في عهد شارل الأول
كان هناك في إنجلترا، رجلان على الأقل، يستطيعان أن يطلا على المشهد المضطرب في مقدرة وهدوء. وكان جون سلدن Selden واسع الإطلاع والعلم حتى قال عنه الناس: لا يعلم أحد أي شيء لا يحيط به سلدن علماً. إنه كرجل مهتم بالآثار والتاريخ القديم، جمع بيانات عن الدولة في إنجلترا قبل عهد النورمنديين، وسجلا موثوقاً عن "ألقاب الشرف" (1617)، وبوصفه مستشرقاً، ذاع صيته في كل أوربا، بدراسته في الشرك وتعدد الآلهة، وبوصفه من رجال القانون شرح قانون الأحبار وكتب "تاريخ العشور" ودحض فكرة أنها فرضت من عند الله، وبوصفه عضواً في البرلمان أسهم في اتهام بكنجهام ولود وفي صياغة "ملتمس الحقوق". وأودع السجن مرتين، وشهد "اجتماع وستمنستر" كمندوب علماني عادي "يشهد اقتتال الحمير المتوحشة" ودعا إلى الاعتدال في المنازعات الدينية. وبعد وفاته أصبح كتابه، "حديث المائدة" الذي سجله سكرتيره، من الآثار الأدبية الإنجليزية، نقتطف هنا نموذجاً منه:
إنه لمن العبث أن نتحدث عن هرطيق، لأن الإنسان لا يعتد
إلا بما يراه أو يفكر فيه هو نفسه. وفي العصور البدائية كان ثمة
?
صفحة رقم : 9637
آراء كثيرة، اعتنق واحداً منها أحد الأمراء، ودمغت
سائر الآراء بأنها هرطقات. ولا يمكن أن يكون رجل
ما أعقل الناس من اجل علمه ومعرفته، فقد يهيئ هذا
موضوعاً للمناقشة ولكن الذكاء والحكمة تولدان مع الإنسان....
إن العقلاء لا يتفوهون بشيء في أوقات الخطر.
إن الأسد دعا الشاة ليسألها إذا كانت ثمة رائحة تخرج من
فمه، فلما أجابت بالإيجاب عضها فأطاح برأسها لأنها غبية
حمقاء. فدعا الذئب وأعاد عليه نفس السؤال فأجاب بالنفي،
فمزقه الأسد إرباً لأنه متملق. وأخيراً نادى على الثعلب
وكرر السؤال، فتعجب إنه مصاب بالبرد ولا يستطيع
أن يشم(33).
وكان توماس براون "ثعلباً". إنه ولد في لندن 1605 وتلقى علومه في مدرسة ونشستر، ومونبيلييه وبادوا وليدن، واستزاد من العلوم والفنون والتاريخ كلما وجد إلى ذلك سبيلا، ثم انصرف إلى الاشتغال بالطب في نوروك. وهذب من "تحليلاته للبول" بتدوين ملاحظاته وأفكاره "عن كل هذه الأشياء، وعن قليل غيرها "On All Things and a Few Others وأخفى بلباقة نظريته في الدين في كتابه "الطب الديني" (1642)، وهو يمثل مرحلة في تاريخ النثر الإنجليزي. وإنك لتجد في شخصه "مونتاني بريطاني"، فهو مثله في طرافته وخياله، وفي تذبذبه وتعدد جوانبه، وربما اقتبس عنه فيما كتب عن الصداقة(34)، وهبط بتشككه إلى الامتثال للكنيسة الإنجليزية مستسيغاً العقل ومعلناً إيمانه. وملأ براون كلامه بالإشارات والإشتقاقات التقليدية ولكنه أحب فن الألفاظ وموسيقاها، مستخدماً أسلوباً كأنه دواء "مضاد للبلى والفساد".
وكان بطبيعة دراسته وتعليمه نزاعاً إلى الشك. وفي أطول مؤلفاته وعنوانه "الأقوال الزائفة الشائعة" شرح وهذب مئات من "الآراء الفاسدة الشائعة" في
?
صفحة رقم : 9638
أوربا- منها أن العقيق الأحمر يضئ في الظلام، وأن الفيل لا مفاصل له، وأن العنقاء تتوالد بذاتها من رفاتها، وأن السمندر (نوع خرافي من الضفادع) يمكن أن يعيش في النار، وأن وحيد القرن (حيوان خرافي له جسم فرس وذيل أسد) له قرن واحد في وسط الجبهة، وأن البجع يغني قبل موته، وأن الفاكهة المحرمة كانت التفاح، "وأن ضفدع الطين يبول وبهذه الطريقة ينفث سمه(35)" ولكنه كأي مهاجم للتقاليد والمعتقدات القديمة، كان له معتقداته، فانه آمن بالملائكة والشياطين وقراءة الكف والسحرة(36)، وشارك في 1664 في اتهام امرأتين بأنهما ساحرتان، وشنقا بعد ذلك على الفور، وهما تؤكدان براءتهما(37).
ولم يكن به ميل إلى النساء، وذهب إلى أن "الجنس" أمر مرذول فقال
لم أتزوج غير مرة واحدة فقط، وإني لأمتدح أولئك الذين
يعقدون العزم على ألا يتزوجوا مرتين، وإني لأتمنى أن نتكاثر،
مثل الشجر، دون اتصال جنسي، أو أن تكون هناك وسيلة
أخرى للإبقاء على الجنس البشري، انه أقبح عمل يأتيه الرجل
العاقل في حياته، وليس ثمة شيء يوهن من عزيمته ويؤذي
خياله أكثر من تفكيره في أية حماقة تافهة شاذة قد ارتكبها(38).
أما بالنسبة لموضوعه الرئيسي فانه مسيحي بحكم الدفاع عن المسيحية:
أما من حيث ديانتي، فانه على الرغم من الظروف الكثيرة التي
قد تغري العالم، فليس لدي منها شيء قط (مثل الخزي العام في
مهنتي، المجرى الطبيعي لدراساتي وأبحاثي، عدم التحيز في
سلوكي وفي أحاديثي في الموضوعات الدينية، فلا أتحمس في
الدفاع عن دين، ولا أعارض ديناً آخر بمثل هذا العنف الذي
اعتاد الناس أن يعارضوا به الديانات الأخرى)، ولكن برغم
كل شيء، فإني أتجاسر، دون أي إكراه، على اعتناق المسيحية
الكريمة. لا لأني أدين بلقبي لجرن المعمودية، ولا من أجل
?
صفحة رقم : 9639
تعليمي، أو المناخ الذي ولدت فيه،.... ولكن لأني
في أيام نضجي وحكمي السليم على الأمور، عرفت كل
الأديان وخبرتها(39).
ويحس براون بأن عجائب الدنيا، ونظامها تنم على عقل إلهي- "إن الطبيعة غي فن الإله(40)" ويعترف بأنه ارتكب بعض الهرطقة، وينزلق إلى شيء من الارتياب فيما جاء بالكتاب المقدس عن الخلق والتكوين(41)، ولكنه الآن يحس بالحاجة إلى ديانة مقررة ترشد الحائرين والمترددين من الناس، ويرثى لتفاهة الهراطقة الذين يعكرون صفو النظام الاجتماعي بتوفيقهم في عملهم(42). ولم يكن يحب البيوريتانيين، وبقي على ولائه وإخلاصه لشارل الأول، أثناء الحرب الأهلية، وكافأه شارل الثاني على جهوده برفعه إلى مرتبة الفارس.
وفي سنواته الأخيرة أغراه بالتأمل والبحث في الموت، والكشف عن بعض المقابر في نورفولك، وسجل ملاحظاته وأفكاره في تحفة من روائع النثر الإنجليزي غير ذات موضوع محدد: Hydriotaphia Urne-Buriall. (1658). وينصح بإحراق الموتى، كأخف الوسائل عقماً لتخليص الأرض منا. "إن الحياة بريق صاف، وإننا لنعيش "بشمس" خفية فينا"، ولكنا نومض ثم نخبو بسرعة مخزية، وإن الأجيال لتمضي، على حين يبقى الشجر، وان الأسرات العريقة لا تعمر قدر ما تعمر ثلاث بلوطات(41) "ويحتمل أن العالم نفسه" يقترب من نهايته "في هذه الساعة الفاصلة من الزمن". ونحن بحاجة إلى الأمل في الخلود ليثبتنا ضد قصر الحياة هذا، وإنه لسند قوي لنا أن نحس بالخلود،-ولكن يحزننا أشد الحزن أن تدفعنا أطياف الجحيم في التياع إلى الاحتشام واللياقة(44). وليس الملأ الأعلى "فراغاً سماوياً" ولكنه "في نطاق هذا العالم المحسوس" في حالة من الرضا والهدوء. ولكن براون يستدرك بسرعة حتى لا ينزلق إلى هاوية الهرطقة، فيختم تأملاته الدينية بدعاء خاشع إلى الله:
اللهم أنعم على في هذه الحياة براحة الضمير، وبالسيطرة
?
صفحة رقم : 9640
على عواطفي، وامنحني حبك وحب أصدقائي الأعزاء،
وبهذا أكون سعيداً إلى حد الإشفاق على قيصر. تلك،
يا إلهي، رغباتي المتواضعة التي يمليها على طموحي المعقول.
وهو كل ما أجرؤ على القول بأنه السعادة على الأرض،
التي لا أضع فيها قاعدة ولا حدا لنعمتك وعنايتك. وأمتني
كما تشاء حكمتك فان مشيئتك سوف تنفذ ولو في قضاء
على(45).
صفحة رقم : 9641
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق