إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 1 مايو 2014

1387 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الدعوة إلى العقل -> صيحة العقل 6- صيحة العقل



1387


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الدعوة إلى العقل -> صيحة العقل

6- صيحة العقل


استمر بيكون يعمل حتى النهاية. فنشر بعد عام واحد من تقاعده، "تاريخ


    صفحة رقم : 9613    


حكم هنري السابع"، سجل به مستوى جديداً لكتابة التاريخ، فهو تفسير واضح صريح، في نثر رشيق قوي، للقضايا والسياسات والأحداث، وصورة وصفية أدبية منصفة نزيهة أخاذة بعيد عن المثالية، حقيقية إلى حد بعيد(71). وأعقب هذا مجموعة من الرسائل: "دراسة في الرياح" "دراسة في الكثافة والتخلخل". "دراسة في الحياة والموت"، وأبحاث أخرى، لقد تهيأ له الآن من الفراغ ما لم يكن يتوقعه، فليس ثمة أهل ولا أصدقاء، فان كل طلاب المنافع الذين كانوا يزدحمون على بابه أيام نفوذه وسلطانه، تمسحوا الآن بأعتاب أخرى. وسأل مرة أحد من يتبادل معهم الرسائل: "من معك من الزملاء في عملك؟ فأجاب إنني الآن في وحدة تامة(71)".
وفيما كان يحاول أن يختبركم من الوقت يمكن أن يحفظ الجليد اللحم من التعفن والفساد، قطع الرحلة ذات يوم من أيام الربيع ليشتري دجاجة، وذبحها وحفظها في الجليد، فوجد أنه أصيب بقشعريرة. فلجأ إلى دار لورد أروندل Arundel المجاورة، حيث وضعوه في الفراش، وظن أنه سقم عارض لا يلبث أن يزول، وكتب أن التجربة "نجحت نجاحاً تاماً"، إنه حفظ الدجاجة، ولكنه فقد حياته. فقد قضت عليه الحمى، وخنقه البلغم في 9 أبريل 1626. ومات في سن الخامسة والستين. وانطفأت الشمعة المتوهجة فجأة.
لم يكن بيكون، كما ظن بوب "أحكم وأذكى وأحط بني الإنسان(72)". فان مونتاني كان أحكم، وفولتير أذكى، وهنري الثامن أحط، وقال أعداء بيكون عنه أنه كان عطوفاً نافعاً، يبادر إلى الصفح والمغفرة. وكان أنانياً إلى حد الخنوع والاستسلام، ومزهواً إلى حد إغضاب الآلهة. ولكننا نشاركه هذه الأخطاء إلى حد نغتفر معه طبيعته البشرية من أجل الأضواء التي نشرها. إن غروره كان القوة الدافعة فيه. وإذا كنا نرى أنفسنا كما يرانا غيرنا لشلت حركتنا وتوقفنا عن العمل.
ولم يكن بيكون من رجال العلم أو الأفراد العلميين، ولكنه كان فيلسوف علم. وكان مدى الملاحظة عنده هائلاً، ولكن مجال تأمله وتفكيره كان فسيحاً إلى


    صفحة رقم : 9614    

حد لا يهيئ له الوقت الكافي للبحث الخاص. وحاول شيئاً من هذا دون نتيجة تذكر... وتخلف كثيراً عن تقدم العلم المعاصر. ونبذ آراء كوبرنيكس الفلكية، ولكنه أورد أسباباً وجيهة لذلك(74). وتجاهل كبلر وجاليليو ونابيير. وكثيراً ما تنبه (كما حدث في "القارة الجديدة") إلى دور ملكة الخيال والافتراض والاستنباط في البحث العلمي، ولكنه ظل ينتقص من أهميته، وأتى اقتراحه بطول الأناة في تجميع الحقائق وتصنيفها، بأحسن النتائج في علم الفلك، حيث زودت الأرصاد النجمية والتسجيلات التي قام بها آلاف الباحثين-زودت كوبرنيكس بمادة استقرائية، لاستنباطاته الثورية، ولكنها لم تكن قريبة الشبه بالطرق الفعلية التي كشفت في عصره قوانين حركات الكواكب وتوابع المشتري وجاذبية الأرض والدورة الدموية.
ولم يزعم بيكون أنه اكتشف الاستقراء، وعرف أن أناساً كثيرون مارسوه من قبل. ولم يكن أول من "أطاح" بأرسطو. فان رجالاً مثل روجر بيكون، وبترس راموس، فعلاً هذا لعدة قرون خلت. ولكن أرسطو الذي أطاحوا به (كما تحقق بيكون أحياناً) لم يكن أرسطو الإغريق الذي كان كثيراً ما استخدم وامتدح الاستقراء والتجريب، ولكن أرسطو الفيلسوف الذي صنعه العرب وأتباع الفلسفة السكولاستية (الفلسفة النصرانية في العصور الوسطى). إن الذي أراد بيكون أن يقضي عليه هو المحاولة الخاطئة لاستنباط عقائد العصور الوسطى من الميتافيزقيا القديمة، لقد ساعد بيكون على أية حال، على تخليص أوربا النهضة من الإذعان البالغ التزمت للقديم.
ولم يكن أول من أكد أن المعرفة طريق القوة. فقد فعل روجر بيكون هذا من قبل، وقال كامبانللا، في بلاغة بيكون: "إن قوتنا تتناسب مع معرفتنا(75)". وربما أفرط رجل الدولة في الإلحاح على الغايات النفعية (طبقاً لمذهب المنفعة) للعلوم. ومع ذلك فانه أقر بقيمة "العلوم البحتة" بمقارنتها "بالعلوم التطبيقية"-تمييزاً "لنور العلم" عن "ثماره". وحث على دراسة الغايات والوسائل بقدر سواء، وأدرك أن قرناً من الاختراع لا بد أن يخلق مشاكل كبرى،


    صفحة رقم : 9615    

أكثر من أن يحل المشاكل القائمة، إذا ترك الدوافع الإنسانية على حالها دون تغيير. وربما تبين بيكون، في انحلاله الخلقي هو نفسه، الهوة التي خلقها تقدم المعرفة إلى ما هو أبعد من تهذيب الخلق.
ترى ماذا تبقى بعد ما أسلفنا من استنتاجات متأخرة؟ يبقى أن بيكون كان أقوى أهل الفكر والذكاء وأعظمهم أثراً في زمانه. لقد بزه شكسبير بطبيعة الحال في الخيال والفن الأدبي. ولكن عقل بيكون حلق في الكون كله، مثل نور كشاف يحدق ويحقق مستطلعاً، في كل الزوايا والخفايا، فتمثلت فيه كل حماسة النهضة المتقدة اليقظة، وكل الإنارة والزهو اللذين تملكا كولمبوس وهو يبحر مسعوراً إلى عالم جديد. استمع إلى هذه الصيحة المرحة من الديك روبين Cock Robin وهو يؤذن بانبلاج الفجر:
وهكذا انتهيت من هذا القسط من التعليم الذي يمس المعرفة المدنية، وبهذه المعرفة المدنية ختمت الفلسفة الإنسانية، وبهذه الفلسفة الإنسانية، انتهيت من الفلسفة بصفة عامة. والآن وقد توقفت قليلاً، أنظر إلى الوراء، إلى ما مررت به أو تصفحته، فانه يبدو لي، قدر ما يستطيع الإنسان أن يحكم على نفسه، أن هذه الكتابة ليست أفضل كثيراً من الصخب أو الصوت الذي يحدثه الموسيقيون عند ضبط آلاتهم، مما لا يطرب الإنسان لسماعه، ومع ذلك فان هذا الضبط سبب في حلاوة الموسيقى فيما بعد. وكذلك قنعت أنا بضبط آلات الوحي والتأمل حتى يكون العزف أفضل والأيدي أقدر. وحقاً، أني إذ أضع أمامي حالة هذه الأزمان التي قامت فيها المعرفة بزيارتها أو جولتها الثالثة، بكل خصائصها، مثل تفوق عباقرة هذا الزمان وحيويتهم، والمساعدات والأنوار التي حصلنا عليها من أعمال الكتاب القدامى، وفن الطباعة الذي ينقل الكتب إلى كل الناس من جميع المستويات، وانفتاح العالم بفضل


    صفحة رقم : 9616    


الملاحة التي كشفت النقاب عن تجارب لا حصر لها، وعن قدر كبير من التاريخ الطبيعي... أقول حقاً إني إزاء هذا كله، لا أملك إلا أن أصل إلى الاقتناع بأن هذه الحقبة الثالثة من الزمن تفوق كثيراً عهد المعرفة اليونانية والرومانية... أما عن جهودي وأعمالي، إذا كان ثمة جهود وأعمال لي، فانه إذا عنى الإنسان أن يسر نفسه أو يسر الآخرين بالانتقاص من قيمتها أو نقدها، فإنها ستعود إلى المطلب القديم المتسم بالصبر والجلد "اضربني إذا ما أردت، ولكن اسمعني فقط" فلينتقد الناس وليقرعوا ما شاءوا، فانهم بذلك سوف يلاحظون ويقدرون(76).
إن بيكون عبر عن أنبل مشاعر عصره-لتحقيق حياة أفضل عن طريق التوسع في المعرفة-ومن ثم فان الأعقاب خلدوا ذكراه بتذكار حي، هو تأثرهم به، لقد حركت روحه-لا طريقته-العلماء وبعثت فيهم القوة والنشاط. فكم أنعشهم وشحذ عزائمهم، بعد قرون كانت العقول فيها حبيسة قواعدها، أو واقعة في شراك عناكب من نسج الرغبات لا الحقائق، أن يصادفوا رجلاً أحب صوت الحقيقة مهما كان عنيفاً، وأحب جو البحث والكشف، وهو جو يبعث على الحياة، رجلاً وجد متعة في إلقاء ظلال الشك على دياجر الجهل والخرافة والخوف. وظن بعض رجال ذاك العصر، مثل دون، أن العالم في طريقه إلى الاضمحلال والانحلال، وأنه يسير بسرعة إلى نهاية الفناء والتحطيم، فأعلن بيكون إلى عصره أنه مرحلة شباب عالم، زاخرة بفورات الحياة.
ولم يكن الناس لينصتوا إلى بيكون في بداية الأمر، فإنهم في إنجلترا وفرنسا وألمانيا آثروا تحكيم السلاح في صراع العقائد، فلما خفت حدة هذا الصراع، فان هؤلاء الذين لم يكونوا مغلولين بقيود الحقائق، احتشدوا، تحدوهم روح بيكون، ليزيدوا من سيطرة الناس، لا على الناس، بل على ظروف حياة الإنسان وما يعتورها


    صفحة رقم : 9617    


من عقبات. وعندما أسس رجال من الإنجليز "الجمعية الملكية في لندن للنهوض بالمعرفة الطبيعية" (1660)، كان تكريماً لفرانسيس بيكون وتخليداً لذكراه، أن يكون مصدر وحي الجمعية وملهمها، ومن الجائز أن: "مجلس سليمان" في "القارة الجديدة" هو الذي حدد هدفها(77). وحيا لبنتز بيكون باعتباره خالقاً للفلسفة من جديد(78). وعندما تكاتف فلاسفة عصر التنوير لتأليف دائرة معارفهم التي هزت العالم (1751) فانهم أهدوها إلى فرانسيس بيكون. وكتب ديدرو في نشرتها التمهيدية: "إذا كنا أدينا مهمتنا بنجاح، فإننا نكون مدينين بأكبر الفضل لقاضي القضاة بيكون الذي اقترح خطة قاموس عالمي للعلوم والفنون، في عصر لم يوجد فيه-إذا صح التعبير-علوم ولا فنون، وأن هذا العبقري الفذ، كتب في عصر كان من المستحيل فيه كتابة تاريخ لما هو معروف-كتب تاريخاً أو دراسة لما هو ضروري أن نتعلمه أو نعرفه". وفي غمرة الحماس قال دالمبرت عن بيكون "إنه أعظم الفلاسفة وأفصحهم وأكثرهم شمولاً". ولما تمخضت جماعة التنوير عن الثورة الفرنسية قررت نشر مؤلفات بيكون على حساب الدولة(79). ونهج الفكر البريطاني في مغزاه ومبناه، من هويز إلى سبنسر-باستثناء بركلي وهيوم والهيجليين الإنجليز-منهج بيكون، فان نزعته إلى إدراك العالم الخارجي على أساس من المذهب الذري عند ديموقريطس، هي التي حركت هوبز إلى المادية، وتوكيده على الاستقراء هو الذي وجه هويز إلى علم النفس التجريبي الذي تتحرر فيه دراسة العقل من ميتافيزيقا النفس، كما أن تركيزه على "المنافع" و"التطبيقات" أسهم مع فلسفة هلفشيوس في توجيه بنتام إلى تعيين "النافع والصالح أو الحسن". وأخيراً فان روح بيكون هي التي هيأت إنجلترا للانقلاب الصناعي.
ومن هنا جاز لنا أن نضع بيكون في قمة عصر العقل. إنه لم يكن مثل بعض من جاءوا بعده، يحب العقل حباً أعمى، فانه ارتاب في أية أفكار أو خطط لم يتحقق منها التجريب الفعلي، وفي كل النتائج التي شابتها الرغبة. "إن الإدراك الإنساني ليس ضوءاً جافاً، إن الإرادة والعواطف تنفخ فيه، ومن ثم تنطلق العلوم التي يمكن تسميتها: بعلوم يريدها الإنسان، لأن ما يرى الإنسان أنه يكاد يكون


    صفحة رقم : 9618    


حقيقياً، يصدقه ويؤمن به على الفور"(80). وآثر بيكون "ذلك العقل المنتزع من الحقائق،.... ومن تحالف أوثق وأنقى بين هاتين القوتين: التجريبية والعقلانية، يمكن أن نأمل في خير كثير(81)".
كما أن بيكون لم يقل، مثل فلاسفة القرن الثامن عشر، بأن العقل عدو الدين أو أنه بديل عنه، إنه أفسح لكل منهما مجالاً في الفلسفة وفي الحياة. ولكنه كره الاعتماد على التقاليد والنصوص والمراجع، وطالب بتغييرات عقلانية طبيعية بدلاً من الافتراض أو الحدس العاطفي، ومن الاعتراضات الخارقة للطبيعة، والأساطير الشعبية المألوفة. إن بيكون رفع راية كل العلوم، وجذب للانضواء تحتها أشد العقول تلهفاً في الأجيال القادمة. وسواء شاء أو لم يشأ، فان العمل الذي دعا إليه- التنظيم الشامل للبحث العلمي، والتوسع في المعرفة ونشرها في العالم بأسره-نقول إن هذا العمل يحوي في طياته بذور أعمق مسرحية في الأزمنة الحديثة: المسيحية، كاثوليكية أو بروتستانتية، تناضل من أجل حياتها، ضد انتشار العلم والفلسفة وقوتهما. وكانت المسرحية الآن قد ألقت مقدمتها على العالم.


    صفحة رقم : 9619    

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق